حالة من الخوف وغموض الرؤية وعدم اليقين تلف المستقبل وسط تحديات اجتماعية صعبة وانسداد آفاق الشباب المتعلم والمتنور. خوف يعكسه السخط والعصبية والنرفزة الذي تبديها فئات عريضة متضررة من الخدمات العامة للدولة وكذا كثرة حوادث السير والجرائم والمشاكسات العنيفة وحالات الانتحار مست حتى البوادي الآمنة. هي ردود فعل على هموم الجمود السياسي والتنموي والأمني وعدم وجود خريطة طريق واضحة للإصلاح ومحاربة الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية ظهرت تجلياتها الكبرى مع الجموع الغفيرة التي حجت لتوديع شاب الحسيمة محسن فكري إلى مثواه الأخير وحجم التعاطف الكبير مع قضيته في مدن المغرب أجمع بعدما دفع حياته ثمنا للقمة العيش الكريم. ولا يمكن أن يخطئ المرء ملاحظة التذبذبات النفسية العنيفة التي عرفها المغاربة طيلة عقود الدولة المغربية الحديثة، فترتفع حدتها مرات وتخمد أخرى؛ فقد تحول الخوف من الدولة في عهد الراحل الحسن الثاني إلى الخوف على الدولة في بداية العهد الجديد، فطيلة أربعين سنة من الاستقلال ذاق فيها المغاربة كل أشكال الكبت السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأصبحت عبارة للحيطان آذان شائعة في كل بيت وحارة؛ لولا أن جاءت فسحة السنتين الأوليين من عهد الملك محمد السادس، حيث زال غطاء المراقبة وتنفس الشعب بعمق، وأحس الناس بحرية الكلام والقول والمبادرة، وانتعشت آمال التغيير السياسي والإعلامي بل والاقتصادي. ولأن الضغط كان قويا قبلها فقد بلغ الفلتان التحرري مستويات كبيرة أصبحت معها الطبقات الوسطى تخاف على الدولة نفسها، فها هي مطالب الأمازيغ تخرج إلى العلن لأول مرة، والسلفية الجهادية تعبر عن نفسها جهارا في المجلات والجرائد، وخطط إدماج المرأة تقسم المجتمع إلى فسطاطين مليونين، كل جناح يتخندق دفاعا عن موقفه إلى أن سمعوا جميعا عبارة "لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله" في البرلمان، ورمال الصحراء تتحرك نحو الحكم الذاتي، وسيل أخبار سنوات الرصاص ومعتقلات تزمامارت يتدفق ليعري جروح وأوجاع مرحلة سيئة بأكملها عاش رعبها المغاربة، بل ووصل ضوء الصراحة إلى مناطق محظورة كالجيش. ولم يتوقف هذا الفيضان إلا بعد تفجيرات الدارالبيضاء الأليمة، حيث تغيرت الأولويات حفاظا على وطن اجتهد المؤسسون كثيرا لتثبيت مؤسساته حتى تزار وتزور، وبدا بعدها في لحظات معينة بعد حكومة ادريس جطو وكأن المغرب على خطى تكرير تجارب تونس بنعلي ومصر مبارك في خنق الأنفاس والأجواء وتغول الدولة في ظل تراخ كبير للاأزاب السياسية التقليدية والنقابات العمالية في تأطير الشعب وضعف المجتمع المدني الجنين. وبعد الربيع العربي الذي بدأ مدهشا وحارقا وانتهى إلى خراب شرق أوسطي في اليمن وسوريا وليبيا، زاد منسوب الخوف من الفوضى واللااستقرار لدى الجميع، في الفوق والتحت والوسط ولدى كل التيارات والمشارب؛ وهو ما أدى إلى بروز توجه كبير نحو السماء من طرف الطبقات الوسطى الصغيرة والفئات الشعبية المتضررة من عولمة الاقتصاد وغلاء المعيشة ولا مبالاة الحيتان الغليظة والقطط السمان في عدالة اجتماعية وتوزيع معتدل للثروة، تطلع إيماني متزايد بحثا عن طمأنينة روحية وعدالة إلهية بعدما فقدت الأمل في تحسن أوضاعها الاجتماعية دون ضريبة عنف أو صراع، فالمغاربة بطبعهم يتقنون فن الصبر وإخراج اللطيف في الملمات والشدائد. ولأن حاسة الشم لدى الأستاذ بنكيران، عراب التيارات الإسلامية المشذبة بالمغرب، ممتازة؛ فقد جمع بسرعة عجيبة السمك اللطيف المتدين كله في سلة واحدة دسها في جيبه، وها هو يلعب به كما يشاء ويسمنه كما يريد. لتكتمل الدورة الآن، وندخل مرة أخرى بصفة رسمية في مرحلة الروتينية والملل الشديد بعد صدمة السنوات الثلاث التي تلت الربيع العربي وحراك حركة 20 فبراير. لا شيء يعجبنا، لا التعليم ولا الصحة ولا الاقتصاد ولا السياسة ولا الكرة المستديرة ولا ثمن السمك ولا غلاء العدس ولا الغناء ولا الفن السابع ولا المتاحف ولا أروقة الإدارات والمحاكم ودار الضريبة ولا فاتورات الماء والكهرباء ولا ثمن تذاكر القطار والترام وسيارات الأجرة والحافلات ولا كرسي مقر العمل ولا خطبة الجمعة ولا نافورة مدينتي ولا نصائح البنك الدولي ولا فضائح الوزراء وقفشاتهم؛ بل حتى اخبار الملايين والملايير ذهابا أو إيابا لم تعد تزعجنا، وأضحى الفساد مجرد أخ عاق لنا لا نملك أن نغيره بقلوبنا فكيف بأيدينا أو ألسنتنا... أصبحنا شعبا قنوطا جدا وكأننا نحمل عبئا كبيرا فوق ظهورنا، حتى الفرح متكلف والابتسامة منافقة والشكوى مستمرة من أي شيء وكل شيء، فالأستاذ أضحى تاجرا والطبيب جزارا والمهندس مقاولا والمحامي سمسارا والفنان متحرشا والعامل غشاشا... جربوا أخيرا أن ينظموا لنا انتخابات تشريعية لعلها تغير جلدنا وهواءنا السياسي وتمنحنا بعض المرح، لكن من يهتم؟ فثلث لا يصوت بالفطرة، وثلث ثان يتأمل بحكمة أو غير حكمة، والباقي قليل من المتحمسين لدعواهم الإيديولوجية أو الخبزية أو المالية، فكان أن صعد الأب وابنته والزعيم وابنه والوزير وصاحبته وبعض من الشباب والشابات المؤثرات أخوات وزوجات وقريبات، وكثير من ممتهني حرفة السياسة البرلمانية أبا عن جد ممن يحفظون دروسها ويمرغون في امتيازاتها العسلية ويبدعون في تحفيظ كراسيها ولو بإعادة صبغه وتلوينه حسب تناوب الفصول السياسية، والحاصل اللحظة وكأن شيئا لم يتغير وألوان قوس قزح حافظت على ترتيبها، فالمشهد السياسي ازداد تحنيطا وجمودا ورتابة بين قطبي الدولة العميقة والإسلام السياسي، والمركب الاقتصادي يبتعد أكثر فأكثر عن الطبقات الوسطى وشبه المتوسطة، والفوارق الاجتماعية تزداد اتساعا، والقاع الاجتماعي أصبح أكثر ازدحاما واختناقا، ومدخنة الوطن لم تعد تطيق كل هذا الضغط، ألم يحن بعد وقت فتح فوهات للتنفيس السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فنافذة الفايسبوك والتويتر والواتساب وحدها لا تكفي، والتعويل على أرجل منتخب كرة القدم لا يجدي، وسيرك البرلمان لم يعد يغري، وتحركات الشارع الاحتجاجية عادة تنتهي بركوب تيارات بأجندتها الخاصة، ألا نحتاج حقا فوهات تنفيس حقيقية وليست افتراضية كما قال العلامة منصف بلخياط وهو يطرز شعارا غبيا لمن كانت تسمى بكازا بلانكا يوما بثلاثمائة مليون عدا ونقدا، أم أننا سنظل نتأرجح بين الخوف من الدولة واستبدادها الأمني والمخزني وبين الخوف على الدولة من لصوص الإسلام السياسي وأذرعه الخفية داخليا وخارجيا؟ اليسار لم يعد يخيف حتى أقربائه حاليا منذ أن ولغ في المناصب ذات خروج عن المنهجية الديمقراطية.