الجزائر و"الريف المغربي" .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟    حقوقيون مغاربيون يحملون الجزائر مسؤولية الانتهاكات في مخيمات تندوف        لفتيت يستعرض التدابير الاستباقية لمواجهة الآثار السلبية لموجات البرد    الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    نقابة تنبه إلى تفشي العنف الاقتصادي ضد النساء العاملات وتطالب بسياسات عمومية تضمن الحماية لهن    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«تدبير» جديد.. الاحتكار الفئوي للشأن الثقافي
نشر في المساء يوم 01 - 01 - 2011

فتح ملف التناوب الثقافي حلقة ثالثة من سلسلة الملفات الشائكة التي فتحتها «المساء»، لدلالتها على قضايا حقيقية يعج بها مشهدنا الثقافي، فبعد ملف المثقف، والذي تم فيه الانفتاح
على تحولات مفهوم المثقف في الراهن المغربي، من المعارضة إلى السلطة، ومن يسار الدولة إلى يمينها، ثم ملف المؤسسات الثقافية، الذي كان مناسبة لتشريح الوضعية المؤسساتية للشأن الثقافي، لتبيان أوجه قصورها الذاتي والموضوعي، ها نحن في هذا الملف نروم بالقصد الأول الوقوفَ على مفهوم التناوب الثقافي، في أفق مساءلة وضعه وتجلياته الأكثر بروزا، في علاقة مع مفاهيم الحق الثقافي وثقافة الاختلاف وثقافة المال العام واحتكار الشأن الثقافي، ضدا على أنساق ثقافية أصيلة، بالانطلاق من جملة تساؤلات إشكالية منها: لماذا انتهى التناوب السياسي واستمر التناوب الثقافي إلى الآن؟ هل لأن المثقف «المضاد» سابقا، هو أنجح من السياسي»المضاد» سابقا؟ هل لأن الحاجة إلى التناوب الثقافي ما تزال قائمة؟ هل تبني النظام مقولات تنتمي إلى الحقل الثقافي اليساري من قبيل الحداثة والديمقراطية والإنصاف وحقوق الإنسان... هو نوع من إضفاء المشروعية على التناوب الثقافي؟ وبالمقابل، لماذا تحول التناوب الثقافي إلى احتكار حزبي وفئوي؟ بماذا نفسر هذا «الطلق» في تنظيم مهرجانات تكرر ذاتها وموضوعاتها؟ ألا يطرح هذا الأمر مسألة أخلاقية وقانونية تتعلق بإهدار المال العام؟ أليس من المربح اليوم أن يكون المرء «مثقفا يساريا»، عندما تتكفل المؤسسات الثقافية الرسمية بنشر وتسويق كل أعماله في نسخ ونشرات مختلفة، حتى تلك التي ليست لها أي قيمة مضافة؟..
التناوب.. الاتصال والانفصال
التناوب يفيد التتالي والتعاقب، تعاقب إرادتين متناقضتين في الهوية والخطاب على شيء ما، لذلك فهو يفيد التنازل لصالح.. والتعاقد مع.. وهو يحمل طبائع من هوية البلد الذي يُقْدم عليه، لذلك ففي الزمن المغربي المخصوص، يحيل على العملية التي سمح بها النظام لنفسه بتفويض بعض صلاحياته الدستورية في الحكم لصالح المعارضة البرلمانية تحديدا، حيث تصبح مشاركة بهذا القدر أو ذاك في تسيير الشأن العام، لذلك لم تكن صورته السياسية إلا وجهه الأبرز والأشهر، بينما كانت باقي الأوجه، كالثقافية والتشريعية والحقوقية والاجتماعية بمثابة «ما صْدقاتشْ ليه»، فرأينا حكومة التناوب وما بعدها تسنّ سياساتٍ ثقافيةً وتشريعية واجتماعية جديدة، أو لنقل «غير معتادة»، ورأينا وجوها ثقافية كانت تنتمي إلى الثقافة المضادة تتماهى مع الثقافة الرسمية وتحذو حذوها، حذو النعل للنعل والحافر للحافر.. وكأي شيء جديد في حينه، كانت الوعود الكبيرة والآمال العريضة وكانت الخيباتُ، أيضا..
قبل تجربة التناوب، كانت اللحظة التاريخية التي يمر منها المغرب محرجة فعلا، لحظة تعتبر عبارة «السكتة القلبية» عبارة جامعة مانعة في وصف حالته، حيث اختلال التوازنات الماكرو اقتصادية، ارتفاع المديونية الخارجية، انخفاض القدرة الشرائية للمواطن، استشراء البطالة في صفوف الخريجين، استمرار التضييق على المجتمع المدني والحقوقي، استفحال الفساد والرشوة في الإدارة العمومية، ضعف القطاع الخاص وانعدام الحكامة في تدبير موارده، انحباس أفق الحل في قضية الصحراء، مع تزايد المكتسبات الدبلوماسية للمرتزقة، ظهور بؤر سرطانية في الجهاز العسكري... قد تطول لائحة الملفات العالقة، والتي يمكننا اعتبارها علامة على أزمة حقيقية، ومع ذلك كان الأمل وكان الوعد ضخما في حجم الدنيا لدى المغاربة. إن اليسار في شخص ما يسمى الكتلة الديمقراطية، وستكون المقاربة اليسارية هي الدواء لتعافي المغرب، ما دام الحل -كما كان الاتحاديون يقولون- لن يُكلّف الدولةَ درهماً واحدا.. وصدّق المغاربة ذلك بإرادة سياسية قادرة على إحداث الفرق في الملفات الشائكة السابقة، فقال المغاربة «نعم» للاتحاد و«نعم» لليسار. وبعد ولايتين حكوميتين، تم تعيين حكومة تقنوقراطية، برئاسة إدريس جطو..
ما نريده من هذا المدخل التاريخي، هو القول إنه بنهاية التناوب السياسي وما تلاه من تراجعات على «اتفاق» التناوب واستمرار مناطق الظل ذاتها، التي كانت قبل التناوب، ما دام الدستور المغربي لا يوثق ولا يراكم ما تم الاتفاق عليه، اللهم ما عدا الحسنة التي عبّرت عنها السلطة العليا في البلاد باحترام المنهجية الديمقراطية، نقول: رغم النهاية الفعلية للتناوب السياسي، ما يزال التناوب الثقافي مستمرا، فمنذ التناوب، احتفظ حزب الاتحاد الاشتراكي بحقيبة الثقافة، في شخص الشاعر الاتحادي الأشعري، مرورا بالمسرحية الاتحادية ثورية جبران، وصولا الآن إلى الفيلسوف الاتحادي بنسالم حميش، ناهيك عن سيطرة مثقفي نفس الحزب على أغلب مديريات ودواوين الوزارة وعلى قيادة المؤسسات الثقافية شبه العمومية أو ذات «المنفعة العامة»، كاتحاد كتاب المغرب...
إن هذا التغلغل الحزبي الواضح لمثقف اليسار ولمثقف حزب الاتحاد الاشتراكي تحديدا، في ظرف قياسي، تم على حساب أطر ثقافية غير متحزبة، وهذا ما يفتح المجال للعديد من الأسئلة، أكثرها استغرابا: هل الثقافة بالتعريف تشترط أن يكون صاحبها من هذا الحزب؟ ما هي تأثيرات أن تكون المذهبية الحزبية معيارا للثقافة؟ ما مصير باقي الثقافات وباقي الانتماءات؟
في عقد التسعينيات، قام سجال كبير وسال مداد كثير حول ما سمي آنذاك «التناوب التوافقي». نُظِّمت ندوات ونُشِرت كتب ودراسات في الموضوع، ومن أغربها وأكثرها طرافة تلك الكتابات التي حاولت أن تقارن، بشكل متعسف، بين مفهوم التناوب -كما حدث في المغرب- وبين فلسفة التعاقد الاجتماعي -كما هي عند فلاسفة الأنوار- من خلال ركوب بعض التأويلات الأقرب إلى التلفيق منها إلى التأسيس النظري العميق. وعندما تم الانقلاب على التناوب السياسي، اخترع المثقف اليساري تخريجة «الواقعية السياسية»، لتبرير استمراره في حكومات يقودها التقنوقراط، والمحصلة أن المثقف اليساري ضيَّع على المغرب فرصة تاريخية لطرح الأسئلة الحقيقية، فرصة يجني فيها الشعب المغربي كله ثمار التناوب، فوقفنا على حقيقة ما قاله الأستاذ سبيلا، من أن الأفكار تبدأ ثورية حالمة في بداياتها، لتصبح إصلاحية على يمين النظام القائم. ثم تتبّعْنا، باندهاش، كيف أصبح المثقف اليساري المناوئ سابقا للإقصاء إقصائيا، والمعارض السابق لهدر المال العام، لأغراض فئوية، «فنانا» في هدره على سفرياته وزياراته «الثقافية» لبلدان ما وراء البحار.. باختصار، انتقلت «عدوى» السكتة القلبية من «المرض» إلى «الطبيب»!...
فبعد أن كان المثقف ملتزما أخلاقيا بطريقة تكاد تجعله «قديسا»، أصبح المجال العمومي يعجّ بأنماط ثقافية يقال زورا إنها تنتمي إلى الثقافة الشفوية وظهر «مختصون» و«خبراء» في العيطة وأحواش وأحيدوس وغيرها من «التعبيرات»... ومنه، «انفتح» الإعلام العمومي على أجناس من «الفنانين»، أغلبهم منشطو حانات ومراقص ليلية!...
لقد صنع المثقف اليساري الرسمي «نجوما» لنماذج لا تمثل بأي حال الاتجاهات الثقافية للمغاربة، «نماذج» تغني وتقول وتجسد بأجسادها الرداءةَ في أوضح تجلياتها، سواء تلك التي «تعفّنت» في دهاليز العلب الليلية في المغرب أو في نظيرتها في المشرق، بل وتعطى لهم الكلمة بالمباشر ل«يُتحفونا» من شذى أميتهم، كأن تجد راقصة -شيخة تتبوأ مكانة الضيفة المركزية في أمسية فنية، وراقصة رديئة، على جميع المستويات، يدفع لها «المثقف الملتزم» مقابلا ماديا سخيا بالعملة الصعبة، لكي تنتقل بقدها إلى مهرجاناتنا، لتغني بضع دقائق تعود بعدها محمَّلة بما «جادت» به «قريحة» المثقف على حساب «خزينة» الدولة...
لا أحد الآن يقول «لا»...
إن مشكلة مشهدنا الثقافي اليوم هي غياب مشروع مجتمعي يدفع القيّمين على الشأن الثقافي، بالمعنى العام، سواء التربوي أو الروحي أو الفني إلى وضع إستراتيجيات واضحة لهندسة شخصية المغربي المنتمي إلى عصره، وفي نفس الوقت، المتجذر في أصوله، فواضع السياسة التعليمية يرمي إلى ترسيخ التعليم التقني، في تفاضل واضح، يعطي للتقنوقراط مكانة «الرياسة»، بتعبير الأقدمين في المجتمع، وواضع السياسة الدينية يرمي إلى ترسيخ الثقافة الصوفية، بجذورها «الجنيدية»، وواضع السياسات الثقافية يرمي إلى ترسيخ ثقافة غربية.
ولأن كل هذه السياسات قد تم الشروع فيها منذ عقد، فإن نتائجها المتناقضةَ والمتنافرة بدأت تظهر في شخصية المغربي: «الجينز والحجاب»، رنة القرآن الكريم في هاتفٍ صاحبُه «محتال» أو صاحبته «ساقطة»، مغادرة العمل -وهو عبادة- وقت الظهيرة لتناول الغذاء، بحجة «صلاة الظهر»، الذهاب للحج لنيل ثقة الناخبين في مشهد حزبي «غير فاضل»... تحتاج هذه الازدواجية، الخطيرة جدا، إلى دراسات وأبحاث سوسيولوجية وسيكولوجية، لفهم الأسباب التي تجعل المغربي اليوم يعتمد انتقائية كاشفة في الانتقال من الحداثة إلى التقليد.. إن مشهدنا الثقافي اليوم لم يحسم في اختياراته، فلا هو بالأصيل ولا هو بالمعاصر، بل حتى هذان المفهومين أضحيا موضوع تجاذب حزبي!... بينما في العالم الحر، يعكس المشهد الثقافي تعددا صحيا للمصالح والطموحات الطبيعية في نيل الامتيازات لدى الفئات المختلفة في المجتمع، لذلك ففي مجتمع كهذا، متعدد الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، يكون تمركز السياسة الثقافية في فئة حزبية معطى مستهجَناً ومرفوضا، وأن يتموقع حزب ما أو ائتلاف حزبي في المعارضة، فهذا لأنه يقدم بدائل «تدعي الصلاحية»، بلغة هابرماس، وبين الادعاء كإمكان وتحقق الصلاحية، تلعب النخب الحزبية ومؤسسات البحث والتفكير والتخطيط، التابعة لهذا الحزب، دورا محوريا في صياغة خطاب يلقى القبول الواسع. وفي هذا المناخ السليم، يعتبر التموقع في المعارضة اختيارا غيرَ مخيف، إذ هو مناسبة مهمة لتجديد المقولات والخطاب والنخب أيضا، بما يسمح للعقول الشابة بتولي المسؤولية الحزبية، في إطار حكومة ظل، فيما يُوثِر الشيوخ التفرغ لأعمال أخرى تكوينية، كإلقاء المحاضرات وإجراء الزيارات للمواقع الجامعية وكتابة المذكرات وغيرها من أعمال التقاعد الإيجابي...
في مغرب اليوم، المشهد الثقافي مختلف تماما وتكاد تكون ملامحه «ممسوخة»: مشهد ثقافي بدون معارضة، مشهد أضحت فيه المعارضة «تهمة» توجب على المثقفين إنكار المبادئ والتاريخ والرموز وأضحى تحمل مسؤولية التسيير «هدفا» في ذاته، مهما كان الثمن، باسم «الواقعية السياسية»، حينا، وباسم الطموح الشخصي، أحايين كثيرة، والنتيجة هي أنه لا الثقافة ثقافة ولا اليسار يسار و لا اليمين يمين.. الكل ضد الكل، من حيث المبدأ.. لكن مع الكل، من حيث «الظرفية السياسية».. الكل متمرس في موقع واحد.. فالزحام شديد والتنافس على أشده على فتات الموائد.. فلا استقطاب ولا أقطاب ولا أحزاب.. إنما تنظيمات للانتظار والترقب المستمر.. لرجال ونساء ذوي ملامح هلامية.. يساريون في أول النهار و«لا شيء» في نهايته.. مخزنيون في بداية العمر ومعارضون في أوسطه.. ولا ملامح للنهاية.. وكثيرون «بين -بين»، يغيرون ولاءاتهم، كما يغيرون معاطفهم في كل «منزلة».. تُشرَّع القوانين لاستعادة المعنى، لمنع كل هذا العبث.. فيأتي حين من الدهر تُجمَّد دون سابق إنذار.. ليبقى سؤال البدائل مطروحا على طاولة الجميع.
كم هو «مربح» أن تكون «مثقفا يساريا» في المغرب
إن التناوب الثقافي الحقيقي هو ما لم نستطع، حتى الآن، إقرارَه في القطاع العمومي لهذا البلد، لارتباطه بوضعية أعم، وهي طبيعة نظامنا السياسي، والذي استطاع أن يراكم تقاليد الإفلات من المساءلة، على نحو يثير الاشمئزاز، اللهم إلا من بعض «الحْجَّامة»، الذين يعلَّقون عندما تقع كارثة في قطاع عام، تماشيا مع قيم الشفافية.. كذا ! وهذا ما لاحظه الجميع في قضايا أخرى ثقافية كثيرة، منها النقاش الذي ورد عقب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والذي تناول طريقة تدبير المال العام في المركز السينمائي المغربي، وكيف أن المركز أعطى مِنَحاً من أموال الشعب ل«مخرجين» لم يخرجوا أفلامهم، أو أخرجوها بطريقة «شْنّاقة الموقف»، وتم عرضها في مناسبات خاصة، أي أن الشعب موّل أفلاما لتشاهدها «أقلية»...
أما عنصر الإقصاء فقد جسّدته المؤسسات الثقافية الرسمية، التي «نزّهت» مدير المركز، بل وجعلت منه «نبيا» فوق الحساب والمساءلة، ونسبت إلى منتقديه، الذين طالبوا بالشفافية وحماية المال العام، نسبت إليهم أوصافا إقصائية، من قبيل الرجعية ومعاداة الحداثة.. وكأن الحداثة في عرف المثقف اليساري الرسمي هي العري والقول البذيء والسوق، وموضوعات «قلْ ما شئتَ»..
ففي هذه الأيام، ينتشر نوع من «الإرهاب الثقافي» مفاده أن خلاص المغرب يتمثل في استمرار الوضع الثقافي الحالي، بكل تناقضاته، وأن المثقفين المشاركين في الأجهزة الرسمية اليوم لا بد أن يكونوا غدا، وأي مس بذلك سيتسبب في وقف «أوراش الإصلاح»، ومن يعزف على هذا الوتر ما يفتأ يهدد المغرب من خطورة «التيارات المتطرفة»، مع أن الإوالية الذهنية هي ذاتها، فلا فرق -أخلاقيا وأدبيا- بين من يحتكر «الحقيقة» ويقصي غيرها، سواء باسم المقول الوضعي أو باسم المقول الديني..


الطبقة الوسطى تسير الشأن الثقافي.. على «الطريقة» الاتحادية
على المستوى الثقافي، أعطى التناوب السياسي الطبقةَ الوسطى، ذاتَ الجذور الوطنية، فرصة تاريخية لتقوم بدورها المركزي في ترسيخ قيم التقدم، تلك التي رسختها الطبقة الوسطى في أوربا، فأعطيت لنخبة من هذه الطبقة، قطاعات لها علاقة مباشرة بقطاع الثقافة والاتصال والشباب والتعليم، وهي قطاعات من شأنها أن تُحدث الفرق على مستوى القيم، لكنْ وبناء على الحيثيات السابقة، فإنها لم تحدث الطفرات المنتظَرة منها في درب تعزيز دور هذه الطبقة، اقتصاديا، عندما اعتمدت كليا على مخططات الخوصصة، والتي منحت قطاعات وطنية مهمة لرأسمال سبق أن قلنا إنه كسول.. وقد تم هذا على حساب الأولويات والحاجيات الشعبية والاجتماعية عندما تم إقرار ما سُميّ «السلم الاجتماعي»، والذي منح «الباطرونا» المغربية أوقاتا إضافية للمزيد من الاغتناء، ناهيك عن فشل إصلاح المنظومة التربوية، التي تستند بالكامل إلى الطبقة الوسطى، التي يمثلها رجال التربية والتكوين..
وقد كان من الطبيعي، نتيجة هذه الإخفاقات المتتالية على جميع الأصعدة، ومنها الثقافية أيضا، أن تنحسر الطبقة الوسطى، كميا وكيفيا: كميا، عندما دفعت حالة ارتفاع الأسعار واستمرار الثقل الضريبي غير المنصف وكذا تقلبات سوق الشغل أعدادا مهمة من أفراد هذه الطبقة إلى النزول تحت عتبة الفقر، وكيفيا، عندما قبلت هذه الطبقة الاستلاب في نماذج بعيدة كل البعد عن طبيعتها التنويرية والطلائعية، لما استشرت فيها قيم السلبية والعدمية والوصولية في التعاطي مع قضايا الشأن العام، أدت إلى دخول هذه الطبقة مرحلة من التشظي غير المسبوقة، فأصبحنا نرى مهندسين ودكاترة في تخصصات محترمة جدا في أحزاب «غير محترمة» إطلاقا.. وآخرين آثروا ركوب أمواج العدمية السياسية، فكانوا السبّاقين لمقاطعة الانتخابات بل والتحريض على ذلك، والنتيجة هي طبقة غنية وصولية وطبقة وسطى عدمية.
وأمام هذه الاختلالات البنيوية التي تعرفها الطبقة الغنية المغربية وأمام الاختلالات الطارئة التي لحقت بالطبقة الوسطى، كان من الطبيعي أن يعكس خطاب العرش ل8002 توجها صريحا لتجاوز هذا الوضع، من خلال الدعوة إلى «ضرورة أن يكون الهدف الإستراتيجي لكافة السياسات العمومية هو توسيع الطبقة الوسطى، لتشكل القاعدة العريضة وعمادَ الاستقرار والقوة المحركة للإنتاج والإبداع»، وهي دعوة لا تقتصر على الحكومة، وإن كانت أدوارها ممهدة ومكملة. أما الأدوار الأساسية فهي على عاتق الأغنياء الكسالى، المراكمين لرؤوس الأموال، دون أي اهتمام بإشكالات التنمية البشرية، كضعف إسهامهم في المجهود الوطني لإصلاح منظومة التربية والتكوين ومحاربة الأمية والهشاشة.. وهكذا، فاستعادة الدينامية التاريخية للطبقة الوسطى في التنمية الثقافية يمر عبر تحمُّل الأحزاب السياسية مسؤوليتَها التاريخية في دعم هذه الطبقة، وليس في برامجها السياسية، بل إجرائيا، من خلال دعم انتخاب الكفاءات المحلية القادرة -فعليا- على حمل لواء التنمية البشرية، محليا وجهويا، وليس الرهان على «الأعيان»، الذين يعتبرون «الاستثمار في البقر أهمَّ من الاستثمار في البشر»!..
بهذا المعنى، يصبح الرهان على الطبقة الوسطى رهان دولة ومجتمع، مجتمع يُفترض أن يعزز توازنه من خلال تكامل الأدوار المنوطة بكل طبقة، في أفق تعزيز مغرب المواطنة ومواطنة الحق والواجب طبعا، لا مواطنة «عرجاء» تعطي «كل الحق» لطبقة وتفرض «كل الواجبات» على باقي الطبقات...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.