تتميز الثقافات بعضها عن بعض بحكم كونها تمثيلا للمجتمعات . فهي تتقارب وتتحاور بينها بقدر ما تكون المجتمعات نفسها تتقارب وتتحاور . إذ العلاقة بين الثقافة والمجتمع علاقة ضرورية ، مثل علاقة الصورة بما تظهره ، إنها صورة ولو لم تكن حية ،فهي تدل على أن الشخص حي ، وتميزه بملامحه وحجمه وحالته الصحية ومكانته وهيئته : الصورة مطابقة وأيضا غير وفية بصورة مطلقة بحسب مهارة المصور ونظرته إلى الشخص الذي يوجه إليه عدسة آلته ( أداة عمله الثقافية ). ومن ثم فالثقافة متغيرة بتغير المجتمعات ، فكلاهما فاعل في الآخر ومنفعل به . والثقافة حاضرة في المجتمع باعتبارها نتاجا وأداة إنتاج تلبي الحاجات الاجتماعية وتقترح حاجات وتراقب وتنظم وتدافع وتعرقل وتحقق التواصل والانتشار: أي أنها تستجيب لمطالب المجتمع بما هو كائن وبما يجب أن يكون. وبقدر ما يكون محكوما بها هي تخضع له بحسب قوة الجدل الرابط بينها ووفق ما هو متاح من عناصر الفعل والتأثير . وفي صلب هذا الفعل توجد فئة من أفراد المجتمع تتميز بنشاطها في مجال الثقافة ، هذه الفئة التي جرت العادة على تسميتها بفئة «المثقفين». إنها فئة لا يمكن أن ينظر إليها كفئة مهنة أو حرفة ، أو صاحبة امتيازات حصلت عليها أو تهفو إليها ، ولكن فئة قليلة العدد ،لا تعمل من أجل نفسها لتحقيق مصلحة فردية بل من أجل مصالح عامة ، ولا ينالها منها إلا الكسب المعنوي والرمزي من خلال قبول خطابها ورواجه المؤثر في المجتمع . ومفهوم» المثقف « ليس محددا بصورة دقيقة وثابتة، إذ ظل قابلا لحمل مفاهيم مختلفة عبر الزمن .فهو مفهوم مشروط بطبيعة الدينامية التي يعرفها المجتمع وحاجاته من الثقافة ، وبما تستطيعه هذه الثقافة في تنشيط تلك الدينامية إيجابا أو سلبا لخدمة المجتمع توجيها ومراقبة أو اقترحا أو نقدا . قد نقول إن مفهوم «المثقف «يحدد اجتماعيا وضمن علاقات مصلحية كما تراها تشكيلات مجتمعية. وفي هذه الحالة فإن المفهوم سيعبر عن اختيار يتكفل المثقف بالتعبير عنه ،وسيكون تبعا فردا في النخبة التي يتحدد موقعها في العمل في الحقل الثقافي بجعل الثفافة وسيلة ووظيفة وتخصصا بإنجاز خطاب معزز بقوة العلم والمعرفة ( علم التاريخ ،علم الاجتماع ،الفلسفة ، القانون ،إلخ ..) خطاب ذي أثر ونتائج في تحريك الدينامية الاجتماعية بتمثل المطالب والحاجات العامة لا بإنتاج فكر أو إبداع وفن أو علم فقط ، ولكن بخطاب يأتي بعد ذلك ، أي يخوض في قضايا كبرى تهم حياة المجتمع : مشكلاته ، أزماته ، صراعاته ، اختياراته الممكنة هويته ، تخلفه وتقدمه ، حاضره ومستقبله إلخ ... والمثقف في المغرب إذا أردنا أن نتحدث عنه يتعين أن ننظر إليه وفق هذه الصورة ، سواء أكان واحدا من أصحاب التكوين الفلسفي أو السوسيولوجي أو الأدبي أو القانوني والاقتصادي والسياسي ، أم كان باحثا في مجال من مجالات العلم ،،، فهو يجب أن يتميز بخطابه الذي ذكرناه أولا وثانيا بعلاقته بالمجتمع أي بالمؤسسات التي تمكنه من القيام بدوره كمثقف . هذه العلاقة التي وحدها تعطي مضمونا ووظيفة ومفهوما للمثقف ، وأيضا موقعا بين مواقع النخب ( السياسيين ورجال الأعمال رجال الحكم ، الباحثون العلماء ،الفقهاء، رجال القضاء ) حتى لو كان من أفراد هذه النخب أو لم يكن ،فالمثقف يحدد له موقعه الخاص بتميز خطابه سواء أكان - هو -عضوا في إحدى النخب السائدة في المجتمع ، أم لم يكن ، سواء أكان مناضلا في حزب سياسي أم كان معارضا . إن هذا الموقع المتميز قد يراه من يحرص على بقاء هيمنة نخبة اجتماعية معينة موقعا مزعجا وخاصة ذلك السياسي النافذ في حزب من الأحزاب السياسية التي تحولت إلى تنظيمات نخبوية تكرس البراغماتية طمعا في تحقيق مصالح موجودة أو منتظرة. إن الموقع الذي يحظى به من نعتبره مثقفا هو موقع يمنحه سلطة رمزية متواطئ عليها ، من خلال الإنصات إلى خطاب من يمثله وما يتمثله هذا الخطاب ، ومن خلال السماح بنشره وتداوله وتبنيه من طرف النخبة السائدة أو من طرف النخب المعارضة ، ومن ثم يكون الموقع موقع جدل ونقاش بغض النظر عن النتائج المرغوب فيها . ولذا حين نحاول تعيين هذا الموقع في الحقل الثقافي بالمغرب أو في سياق الدينامية المجتمعية بالمغرب نجد أن هذا الموقع دائما متحرك : اندمج في مراحل تاريخية في موقع نخبة العلماء ( الفقهاء ) ومرة في موقع النخبة السياسية ( رجال الحكم ) وفي المرحلة القريبة تماهى مع الفئة الاجتماعية التي اكتسبت قدرا لائقا من المعرفة ( الجامعيين، المحامين ، الأدباء ... ) و اختارت معارضة النظام السائد في مختلف جوانبه الثقافية ( التقليد) والسياسية (الرجعية) ورفعت شعارات لها مرجعيات كبرى ( ديمقراطية ، اشتراكية ، تقدمية ) . إلا أننا في المرحلة الراهنة نجد هذا الموقع قد دخل مرحلة الشك وفقدان المرجعيات لقوة الإقناع والانتشار ، ومن ثم اختلت والتبست علاقة «المثقف « بالواقع إجمالا فصارت ارتباطاته مهزوزة ومتعثرة وغير ذات تأثير ملحوظ ومنشط للجدل والحوار، بل أمست لا تقترب من الحوار بمعناه البحث عن الاختيار الصواب . والسبب أن هذا الموقع توزعت وتشظت مساحته، وكثرت فيه الخطابات المائعة االمتهافتة والتي تتوالد في الحقل الثقافي باعتبارها خطاب مثقفين ، وهي في الواقع مجرد خطابات متعلمين . وكان خلف هذا الالتباس جملة عوامل أهمها : اتساع دائرة المتعلمين من أصحاب الشهادات والمتخصصين في مختلف الميادين بما فيه ميدان علوم القانون والسياسة والاجتماع - اتساع المجال الحزبي بتشظيه نتيجة النزاع القائم بين النخب ، وغلبة المفهوم البراجماتي للسياسة ، - ظهور وظائف الوساطة والتدبير الاجتماعيين في مجال الخدمات والسمسرة حتى في مجال الثقافة ( المهرجانات) - اتساع النفوذ الخارجي الذي خلق له أتباعا ومنفذين في خدمة استراتجيات التبعية، - توالد جمعيات ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني وبخاصة الجمعيات الثقافية التي يتحرك فيها أفراد يحسبون أنفسهم مثقفين . - ظهور نوازع إقليمية -جهوية- عرقية ولغوية تخلط بين السياسي والثقافي - تمكن النظام من استقطاب كثير من الأطر التي نشطت الظواهر السابقة وصارت تنتج خطابا ثقافيا يكسر الحدود بين التناقضات - تحول في مفهوم المعارضة وانتقالها إلى جماعات تمارس معارضة المعارضة . - اقتحام عدد هام من المتعلمين مجال الإعلام بترويج خطابات.تشكك في وجود المثقفين والأحزاب . معبرة عن طموحها الذاتي إلى احتلال موقع المثقف بحجة الفصل بين السياسي والثقافي, انتشار الخطابات التي تبثها القنوات الفضائية والأنترنيت والتي تعطي أشباه المثقفين مساحات تأثير غير محدودة. - إضافة إلى هذا شيوع تصورات «ما بعد حداثية « تحطم مفاهيم مثل القيم والحقيقة وتفسح مجال الافتراضي والمؤقت والاستهلاكي . ونتيجة ذلك أن أصبح موقع المثقف محاصرا بالشك . هذه عوامل أدت إلى التشويش على أهم القضايا التي يشتغل عليها المثقف صار اقترابه منها صعبا مثل القضايا القومية والوطنية واللغوية والحداثة والحرية ، إذ شحنت هذه القضايا بتناقضات تساوى في شرحها أطراف اليمين واليسار حتى صارت متعايشة لا تتوافق إلا مؤقتا من أجل مصالح منتظرة ( مناصب ، مواقع . زعامات ،منافع إلخ .. ) إذن من يكون المثقف في هذه المرحلة ؟؟؟ ما هي ارتباطاته ؟؟ ما هو خطابه ؟ من يمثل ؟ وأي مشروع يريد الدفاع عنه؟و ما ذا يستطيع أن ينتقد ؟؟ هذه الأسئلة و غيرها هي ما يجب أن يناقشه كل من يضع نفسه في موقع المثقف أولا ُ. ثم يتصدى للقضايا ذات الأسبقية وألا يعطي في المرحلة الحالية العناية الكبرى لعلاقته بالحزب السياسي إلا إذا أدرك أن الحزب الذي ينتمي إليه يحتوي إمكانات جديرة بتقبل خطابه . ويسانده في تصديه للعوامل المسطرة أعلاه . نحن ننتظر هذا المثقف الذي يعيد الوعي إلى النخب ويوقظها من أوهامها وتنبيهها إلى المخاطر التي تتربص بالمجتمع وتوشك أن تدمره وطنيا وقوميا ولغويا وترابيا . المثقف الذي نريد الإنصات إليه هو ذلك الواعي برسالته التي تستعمل ضمير الجماعة « نحن» هو أيضا الرسام الذي يقترح الصورة المشخصة للواقع بلا زيف ولا تشويه ويرسم أمامها أفق الأمل . هو المعلم الذي يتمكن من أن يجعل مدرسته الشاملة في عقول المجتمع بتحريك الضمير الفاعل المبدع . هو المثقف العضوي الذي يؤمن بأن الحزب لا يصنعه ولمن ينصت إليه : فالمثقفون هم من يمكن الأحزاب من معرفة خطة سيرها وتحديد أهدافها . علما بأن لا وجود لمجتمع متطور وقوي بلا مثقفين يوجهون النخب المختلفة في المجتمع . إن المثقف ، الذي ننتظره ،موجود بيننا . وهو فقط يتردد في النهوض بدوره. عليه ألا يستسلم للشك . لأن المجتمع فقط يطلب منه أن يميز خطابه بحسب ما تستوجبه المرحلة من قضايا : قضايا المصير . والمستقبل والمناعة .الضرورية للقرار الديموقراطي ومواجهة الانتهاز والانحراف السياسيين واستعادة البعد الوطني . وغني عن القول أن لامجتمع يمكنه أن يحافظ على وجوده وتقدمه دون وجود مثقفين لهم أثر في النخب الاجتماعية وعموم أفراد المجتمع . (*) مساهمة في سلسلة آراء لكتاب ومثقفين وباحثين سينشرها الملحق تباعا حول تيمة «وضع المثقف في مغرب اليوم ودوره».