من أجل نقاش هادئ حول خطاب المصالحة التاريخية كثر في الآونة الأخيرة الخلط واللغط في المواقف والآراء بخصوص نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، وأيضا بخصوص مشاورات عبد الإله بنكيران مع الأحزاب من أجل تشكيل أغلبيته؛ لكن الذي زاد في هذا الخلط واللغط هو عدد من الانفعالات - حتى لا أسميها أشياء أخرى- مع دعوة إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، إلى إنجاز مصالحة تاريخية شجاعة، ومواجهة نزوعات التعصب والتنافر والاستعداء. مصالحة قيمية سؤالها الجذري الموجه: كيف نجعل الحياة بيننا أقل جهلا وبؤسا وفقرا وتوترا وعنفا، لتكون أكثر أمنا وتكافؤا وتواصلا وتضامنا ومحبة ورفاهية؟ ما الذي حملته مقالة إلياس العماري حتى تَجُرَّ معها هذه المواقف الانفعالية والمنطلقة من أحكام مسبقة عن الرجل؟ كيف لأناس كانوا ينتقدونه بالأمس ويتهمونه بكونه أداة "التحكم"، يرفضون اليوم هذه الدعوة الحضارية إلى الحوار والمصالحة من أجل الوطن، وصون المشترك، والتأسيس لميثاق جديد بين الفاعلين يضع أفقه تحصين البناء الديمقراطي ومصلحة الوطن أولا وأخيرا؟ ألم يَكْتَوِ مناضلو العدالة والتنمية، بالأمس إثر أحداث 16 مايو 2003 الأليمة، من أصوات عدد من الفاعلين نادت بحلّ الحزب، باعتباره هو من يغذي فكريا تيارات التطرف والحقد والكراهية المُوَلِّدَة للإرهاب؟ لماذا يحاولون اليوم تأليب الرأي العام - مستعملين في ذلك وسائل الإعلام المسخرة لهم وما أكثرها- ضد إلياس العماري وضد "البام"؟ حتى أن البعض منهم لم يتورع في الدعوة إلى حل هذا الحزب؟ يجب أن يعلم هؤلاء جيدا أن "البام" ليس حزب إلياس العماري ولا حزب جهة دون أخرى ولا حزب قبيلة دون أخرى. الأصالة والمعاصرة حزب يحمل مشروعا مجتمعيا ساهم فيه مناضلوه من تيارات يسارية وغيرها، التأموا حوله وحددوا أفقه في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية، وهم ملتفون حوله وليس حول الشخص أو الزعيم، ويسعون جاهدين إلى العمل بمنطق المؤسسات والهياكل وليس الاشخاص؛ بل إن جزءا كبيرا منهم ما زال متشبثا بمطلب نظام الملكية البرلمانية. وبذلك، فكل إساءة لهذه الحزب أو لزعيمه هي إساءة لجميع مناضليه، وللتذكير فهم أيضا مغاربة يحملون الجنسية المغربية ولم يأتوا من قطر آخر ولهم حقوق وعليهم واجبات كما يسري على المغاربة جميعا. إن استعمال هذا المنطق في تأليب الرأي العام هو الذي من شأنه خلق الفتنة في المجتمع وتقسيمه بدون سند إلى تيارات قد يتحول الصراع بينها في المستقبل إلى ما لا تحمد عقباه. رسالة إلياس العماري لم تكن موجهة إلى حزب العدالة والتنمية بعينه، وإن كان معنيا بها؛ لأنه ليس سوى جزءا من نسق عام يشمل باقي الأحزاب السياسية بدون استثناء وكل الفاعلين. ومن حق أي رئيس حزب كما من حق جميع الفاعلين الحزبيين والمعنيين بالحقل السياسي أن يطلق مبادرة من هذا النوع. قد لا يتفق البعض مع توقيت الرسالة، وقد يكون "البام" قد ارتكب أخطاء كما ترتكبها جميع الأحزاب؛ لكن هذا لا يمنع من الفاعل الحزبي وهو الذي يُفترض فيه الحكمة والتبصر من التعامل مع الأحداث والوقائع بإيجاب والتقاط الفرص لبناء المستقبل وليس فقط الانفعال إزاءها. هذا الأمر قد يكون مقبولا من قبل المناضلين العاديين في القواعد ولكن غير مقبول من القيادات الحزبية. بخصوص الفصل ال47 من الدستور لترجيح كفة الشك والريبة في دعوة إلياس العماري إلى المصالحة التاريخية، ربط بعضهم بين هذه الدعوة وبين مذكرة الحزب التي يستعد لرفعها إلى الملك محمد السادس لتعديل المقتضى الدستوري الخاص بتعيين الملك لرئيس الحكومة. لذلك، فهم يدَّعون أن تعديل هذا المقتضى فيه محاولة للانقلاب على الإرادة الشعبية التي بوأت حزب العدالة والتنمية مكانة الصدارة في انتخابات 7 أكتوبر، وكأن النتائج التي حصَّلتها الأحزاب الأخرى مهما كانت قيمتها غير نابعة من الإرادة الشعبية؟ لِنَكُن منطقيين، هناك حاجة - وهذا رأيي الخاص لا أُلزم فيه أحدا- إلى تعديل الفصل ال47 من الدستور بدون أن نصبغه بالواقع السياسي الحالي، لا من لدن هذا الحزب أو ذاك، سواء كان "البيجيدي" أو "البام" هو المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب. لقد حسم الملك في اتباع المنهجية الديمقراطية بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها؛ لكن لنطرح فرضية وهي غير مستبعدة في العملية السياسية: ماذا لو استأسد الحزب الفائز على باقي الأحزاب الأخرى التي يريد أن يتحالف معها لتشكيل أغلبيته؟ ماذا لو لم يستطع هذا الحزب جمع أغلبيته وتشكيل حكومته التي سيقترحها على الملك لأن عرضه لم يحظ بتوافق باقي الأحزاب؟ إن رفض العدالة والتنمية لتعديل الفصل ال47 سنده فقط أنه اليوم في موقع قوة وذلك بمنطق: "أنا أو لا أحد"، بمعنى إما أن يقود هو الحكومة أو التهديد بالعودة إلى الانتخابات، مع العلم أن التكلفة المالية والمادية واللوجستيكية وأيضا السياسية لهذه الأخيرة ثقيلة جدا. هذا المنطق في التفكير يجد تبريره في طموح الحزب نحو الهيمنة على النظام الحزبي المغربي، وهو نهج لفظه النظام السياسي المغربي منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي تشريعيا ومؤسساتيا وممارسة. وهم "التحكم" إن مقولة "التحكم"، التي يرددها أتباع العدالة والتنمية ضد "البام" وأمينه العام، هي مقولة واهية ووهمية؛ لكنهم وظفوها بشكل منهجي في حملتهم الانتخابية ونجحوا في ذلك بشكل عَضَّد خطاب المظلومية والضحية لديهم، حتى أضحت الحملة الانتخابية خالية من كل نقاش عن الحصيلة الحكومية أو البرنامج الانتخابي. وأصبحنا، كما أشار إلى ذلك أحد المتخصصين في سوسيولوجيا الانتخابات بالمغرب، كأننا إزاء استفتاء سيصوت فيه المغاربة على بنكيران أو على منافسه إلياس العماري؛ فكانت النتيجة كما عرفنا جميعا، ليس المجال مناسبا هنا لتحليلها، لأنها تحتمل قراءات متعددة. إن انزعاج حزب العدالة والتنمية من "البام" ليس مرده "التحكم" الذي نجح في إبداع مفهومه وفي تسويقه سياسيا لصالحه، وإنما لأن حزب الأصالة والمعاصرة هو الوحيد القادر على منافسته سياسيا بالنظر إلى الوضع الحزبي الحالي المُتَرهِّل. وما يخيفه منه ليس "التحكم" كما يُرَوِّج لذلك، بل هو فقدان الصدارة في المشهد الحزبي بعدما استشعر دفئها، والابتعاد عن تسيير دواليب الحكومة بعدما أدرك فوائدها، لما توفره من فرص كبيرة لتطبيع موقعه في النسق السياسي وأساسا مع المؤسسة الملكية، واستقطاب أتباع ومناصرين جدد، وتشبيك علاقاته الحزبية الدولية. لأنه لو كان يريد مقاومة "التحكم" - وهو بالمناسبة مصطلح ليس له أي موقع في أدبيات العلوم السياسية من قبيل: مفاهيم الاستبداد مثلا أو السلطوية أو الشمولية...- فلماذا تنازل عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة في ولايته السابقة عن جل صلاحياته التي يتقاسمها مع الملك دستوريا، وظل طيلة هذه المدة يردد: "أنا أساعد الملك وهو الذي يحكم". لقد كان هاجسه الأساس هو تطبيع حزبه مع النظام ومع المؤسسة الملكية بالخصوص. زد على ذلك فشل حكومته في إعمال مقتضيات الدستور وفي ترجمتها تشريعيا ومؤسساتيا ترجمة ديمقراطية وحقوقية، والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال للدخول فيها هنا. لقد عانى الفاعلون الحقوقيون والمدنيون كثيرا من عدم إشراكهم في أجرأة العديد من المقتضيات الدستورية، كما نص على ذلك القانون الأسمى للدولة؛ فتمت هندسة حوارات ومشاورات مغشوشة تَحَكَّم الحزب الذي يقود الحكومة في مداخلها ومخارجها، وتوتّرت العلاقة بين الطرفين. والأمر نفسه كان مع جزء كبير من النقابات، بل تجاوزهم بنكيران وقال لهم بالحرف في إحدى جلسات مجلس المستشارين وهو بصدد دفاعه عن "إصلاح" صندوق التقاعد: خَلِّيوْنِي منِّي للمواطنين"؛ وفي ذلك ضرب للنقابات وللعمل النقابي. من هو حزب الدولة؟ أما اتهام الأصالة والمعاصرة بأنه حزب الدولة أو الإدارة، فإن هذه الأسطوانة أصبحت مشروخة ولا تُقنع أحدا. ولنفترض ذلك، كيف نفسر تحالف "البيجيدي" في ولايته الحكومية السابقة مع أحزاب يدرك الجميع أنها صنيعة الإدارة أو ولدت في كنفها؟ زد على ذلك أن الاتهام بالعلاقة مع الإدارة وفضلها عليه في الولادة هو اتهام لا يسقط على حزب العدالة والتنمية نفسه ولا يمكن أن يمسحه من تاريخه، إذ كل الفاعلين والملاحظين يعلمون جيدا أفضال المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب على "البيجيدي"، وهو الشخص المقرب من القصر وزعيم حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية المنشق عن حزب الحركة الشعبية في 1967، والذي فتح هذا الحزب في وجه الإسلاميين في سنة 1996، بإيعاز من وزير الداخلية الأسبق صانع الخرائط الانتخابية إدريس البصري، علما أن الدكتور الخطيب يُعَدّ من مؤسسي "الفديك"، جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، التي صنعها النظام في 1963 لمواجهة قوة أحزاب الحركة الوطنية. ثم إن مقولة أن "البام" أكل من أصوات ومقاعد باقي الأحزاب، بما فيها الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، هي أكذوبة لا يمكن أن تنطلي على عاقل؛ فإذا كانت النتائج التي حصل عليها "البام" في اقتراع 7 أكتوبر على حساب هذه الأحزاب المذكورة، فهل النتائج التي حصل عليها "البيجيدي" هي في دوائر خارج المغرب؟ قد يقول قائل لكن الكتلة الناخبة لهذا الحزب ظلت قارة بل زادت، ودليله على ذلك أنها (أي الكتلة الناخبة) هي نفسها التي صوتت عليه في الانتخابات الجماعية لسنة 2015. هذا الرأي يحتمل فقط جزءا من الصواب، لأنه قبل ذلك ما هي النتائج التي كان يحصل عليها "البيجيدي" في المحطات الانتخابية السابقة؟ لقد طور نتائجه بشكل تصاعدي هذا أكيد، ويمكن أنه زاد من كتلته الناخبة، لكنها أصلا قبل ذلك لم تكن موجودة بل تحولت لصالحه نتيجة تقهقر باقي الأحزاب؛ بما فيها الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية، والشيء نفسه بالنسبة إلى "البام". إن التمادي في شيطنة الآخر لا يمكن أن يجني منه المجتمع المغربي سوى مزيدا من التوتر وتغذية الانقسامات. فالقول إن تصدر حزب العدالة والتنمية نتائج الانتخابات مردُّه إلى الإرادة الشعبية والتشكيك في النتائج التي حققها البام هو مجرد محاولة للحرث في البحر، إذ كيف نفسر التقدم الذي حققه حزب الأصالة والمعاصرة؟ هل كانت نتائجه مزورة؟ ولو كانت كذلك لماذا سكت العدالة والتنمية على التزوير إذن وهو المشرف مؤسساتيا على المسلسل الانتخابي؟ هذا السلوك غير مقبول بتاتا، لأن مؤداه أن النتائج التي حققها البيجيدي ذات مصداقية والتي حققها الآخرون أو البام على وجه التحديد هي على العكس من ذلك؟ يعنى حتى لو كان البام قد تصدر انتخابات مجلس النواب الأخيرة سيقول البيجيدي إنها مزورة؟ لقد انتهت الانتخابات الآن، وكل الفاعلين السياسيين المشاركين والهيئات الحقوقية أقرت بشفافية ونزاهته مع تسجيل عدد من حالات الاختلال والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخدش من سلامة المسلسل الانتخابي ككل، يحق لكل متضرر من الأحزاب وله ما يثبت وقوع تجاوزات للقوانين حرمته ولو من صوت واحد ما عليه إلا أن يلجأ إلى القضاء. لم يكن الغرض من هذه المقالة هو الرد على انفعالات البعض بخصوص دعوة إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، إلى المصالحة التاريخية؛ ولكن فقط محاولة مناقشة بعض المواقف، والتذكير بأن أدبيات الحوار وإرساء جو الثقة لما فيه مصلحة الوطن يقتضي الابتعاد عن شخصنة النقاش أو الاختباء وراءه لتوجيه أسهم النقد بطريقة غير مباشر إلى فاعلين آخرين. في سياق كان ما زال ساخنا حول نتائج اقتراع 7 أكتوبر 2016، وحول المشاورات لتشكيل الحكومة، ركز الخطاب الملكي الأخير بمقر البرلمان في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى على ضرورة الاهتمام بمصلحة المواطن؛ وفي ذلك رسالة إلى من يهمهم الأمر بأنه كيفما كانت النتائج، وكيفما كانت الاصطفافات، فإنه يجب أن تصب في آخر المطاف في المصلحة العليا للوطن، وفي خدمة المواطن أولا وأخيرا. *أستاذ العلوم السياسية