رغم أهمية عقد المؤتمرات الحزبية بالمغرب ما زالت الدراسات والأبحاث حولها شبه منعدمة؛ وحتى الأبحاث النادرة جدا في الموضوع ما زالت تعتبر محطة المؤتمرات الحزبية لحظات عابرة في الزمن السياسي المغربي، في حين أنها لحظات حاسمة فيه. المؤتمرات الحزبية ليست مجرد تجمعات بشرية تحولها وسائل الإعلام إلى أخبار إثارة، بل إنها أحداث سياسية مؤثرة في حاضر ومستقبل الأحزاب، ومحددة لنوعية علاقاتها مع الدولة والأحزاب والمواطن. وهذا ما ينطبق على المؤتمر الثالث لحزب "البام"، الذي انتخب إلياس العماري أمينا عاما، وهو انتخاب يمكن مقاربته من ثلاث زوايا: 1- مؤتمر الرسائل المشفرة. 2 – مؤتمر التحديات الكبرى ل"البام". 3- مؤتمر تداعيات القيادات الجديدة على الحزب. فما هي أهم رسائل انتخاب إلياس العماري أمينا عاما لحزب "البام"؟ وما هي تداعيات انتخابه؟ وما هي التحديات التي ستواجه الحزب بعد انتخاب العماري أمينا له؟ 1- رسائل انتخاب إلياس العماري انتخاب إلياس العماري أمينا لحزب "البام" في هذا الوقت بالذات ليس اعتباطيا، بل كان مخططا له من قبل، خصوصا وأنه تزامن مع إعلان رئيس الحكومة تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة. والأكيد أن انتخاب السيد إلياس العماري لقيادة "البام" جاء في الوقت الذي يعرف الحزب منعطفا حاسما لتحديد هويته الإيديولوجية وضبط اختلالاته التنظيمية، ورغبته في تجاوز مبررات التأسيس الأولى المرتبطة بكونه منتوجا سياسيا غير طبيعي، محمي من جهات عليا، ومدعوم إداريا، وجاء لخدمة أجندة معينة. لذلك -وحسب نظري المتواضع- فإن انتخاب المؤتمر الثالث لحزب "البام" إلياس العماري أمينا عاما له يحمل بين طياته ست رسائل، منها الواضحة ومنها المبطنة. الرسالة الأولى موجهة إلى القوى العليا في البلاد، ومفادها أن انتخاب العماري أمينا عاما تأكيد على أن "البام" حزب التوازن على الساحة السياسية، وامتداد لمشروع مؤسس الحزب فؤاد عالي الهمة، ولكن بكيفية أخرى. وإلياس العماري هو رجل المرحلة الذي يمكن للدولة أن تعتمد عليه في أجندتها الداخلية والخارجية. داخليا سيكون المنافس الشرس والقوي لحزب "البيجيدي" بعد تراجع أدوار حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الساحة السياسية. وخارجيا يبقى العماري من أقوى الشخصيات الفاعلة في السياسة الخارجية بالنسبة لملف الصحراء، وهذا ما أكدته نوعية الوفود الأجنبية التي حضرت في المؤتمر، من جنوب إفريقيا ومن نيجيريا ومن الأوروكواي، ومن الأحزاب اليسارية وأحزاب الخضر في أوروبا. وبحضور هذه الوفود الأجنبية برهن إلياس العماري بأن قيادته للحزب في هذه المحطة ستكون بالدرجة الأولى خدمة للوحدة الوطنية قبل خدمة الحزب، خصوصا في هذه السنة التي سيدخل فيها ملف الصحراء مرحلة دقيقة شهر أبريل المقبل، كما نص على ذلك التقرير الأخير لمجلس الأمن حول ملف الصحراء المغربية. الرسالة الثانية موجهة لمناضلي ومناضلات الحزب، ومفادها أن تدبير شؤون "البام" في عهد الأمين العام الجديد سيكون مختلفا عن تدبير الأمناء السابقين، وأن زمن التساهل وجعل الحزب في خدمة الأشخاص قد ولى، والتحاق بعض الكائنات الانتخابية وبعض النخب بالحزب وبعض الأعيان والبرجوازيين رغبة في الحماية أو تحقيق غايات مصلحية ضيقة قد انتهى. إستراتيجية الأمين العام الجديد هي بناء الحزب بمناضلين حقيقيين مؤمنين ومقتنعين بالمشروع الحزبي، وليس بكائنات انتخابية أو بنخب مستهلكة لا يمكن الاعتماد عليها لمواجهة حزب "البيجيدى"، المعروف بانضباط والتزام مناضليه، وهي قوته الضاربة. العماري يراهن على القيام بثورة هادئة على مستويات التنظيم والتدبير والحكامة، تشمل المكتب السياسي، وندوة التنسيق الجهوي، استعدادا للانتخابات التشريعية المقبلة التي ستكون المحك الحقيقي لنجاح أو فشل المؤتمر..إلياس العماري في حاجة إلى خلق دينامية سياسية مواكبة لتحديات المرحلة وما تحمله من رهانات وتحديات، وهو ما يفسر التعديلات التي أدخلت على النظام الأساسي للحزب، والتقليص من مهام المكتب السياسي، وتوسيع مهام المكتب الفيدرالي، وإلغاء منصب نائب الأمين العام ولجنة الانتخابات. الرسالة الثالثة موجهة إلى كل الأحزاب السياسية، ومفادها أن "البام" حزب قادم، وسيستمر في حصد المواسم الانتخابية، وسيكون الرقم الصعب في الانتخابات التشريعية المقبلة، خصوصا مع وصول الياس العماري، السياسي الماهر في التفاوض والمتقن للسياسة البراغماتية، والمنظر الإستراتيجي، والباحث عن تشكيل قطب سياسي يستجيب لاختيارات التحديث ومتطلباته الراهنة والمسقبلية..والأكيد أن عددا من قادة الأحزاب المغربية سيتقربون من "البام" ومن أمينه إلياس العماري، لأنهم يدركون أن الرجل هو رجل المرحلة، وأن الحزب هو حزب المرحلة، وإن كان يعاني من مقاومة حول المشروعية الشعبية، والتي سيعمل العماري على تصحيحها لمواجهة "البيجيدي"، المعروف بنزاهة ومصداقية أطره وممثليه ومرشحيه . الرسالة الرابعة موجهة لخصوم وأصدقاء العماري داخل وخارج "البام"، ومفادها أن انتخابه أمينا على الحزب ليس موجه ضد أي مؤسسة أو حزب سياسي أو ضد أي شخص، وأنه ليس له أي مشكل مع أي حزب، والمسألة الوحيدة التي يرفضها هي خوصصة المشترك، وفي مقدمته المجال الديني، الذي يعتبره مجالا محفظا لجلالة الملك؛ مؤكدا أن جاء للبناء وليس الهدم. وإعلان تموقع الحزب في وسط اليسار هو رسالة إلى الأحزاب اليسارية للتكتل في قطب يساري كبير، قد يقوده "البام" بقيادة العماري، بعد أن فشل في ذلك حزب الاتحاد الاشتراكي بقيادة إدريس لشكر. الرسالة الخامسة موجهة بالخصوص لبنكيران وحزبه، ومفادها أنه لم ينتخب لمواجهة "البيجيدي" أو أمينه العام، بل إن انتخابه مرتبط بمضامين الفصل 7 من الدستور، الذي حدد وظائف الأحزاب ومهامها. وللأمانة العلمية نشير إلى أن العماري حينما يتحدث عن السيد بنكيران فإنه يتحدث عنه بلغة سياسية لبقة، فيها مقومات الاحترام لرئيس حكومة المغاربة. ونادرا ما يهاجم العماري بنكيران بلغة نابية وعنيفة، لأنه يعتبره رئيس الحكومة المغربية بكل أطيافها السياسية وشرائحها الاجتماعية، وكل مس بشخصه هو مس بكرامة الدولة المغربية. وعكس ما يعتقد بعض المحللين والإعلاميين، فالعماري سيكون أكثر براغماتية مع بنكيران وحزبه، والصراع الذي سيحدث بينهما سيكون عبارة عن تنافس على احتلال المراتب الأولى في الانتخابات المقبلة، التي ستكون انتخابات تحدي بين الرجلين. بنكيران يريد أن يؤكد أنه "البيجيدي" هو حزب الشعب، قبل أن يكون حزب الدولة، والعماري يريد أن يؤكد أن "البام" لم يعد حزب الدولة، بل حزب الشعب أيضا. الرسالة السادسة انتخاب الياس العماري أمينا عاما لم يكن مفاجأة من ناحية السياق العام الذي عقد فيه المؤتمر. يعرف الكل أن "البام" -منذ تأسيسه- لم يكن له أمين عام قوي ومشاكس وكاريزماتي، وله دراية بدواليب الدولة والأحزاب والسياسة وأقنعتها، ومتقن للسياسة الشعبوية في زمن سياسي هيمن فيه الخطاب الشعبوي، فكان أمام المؤتمرين في المؤتمر الثالث للبام خياران، إما أن يحافظوا على الباكوري، رجل التوافقات والسياسة المرنة، أو انتخاب العماري، لما له من دراية وحنكة وخبرة في تدبير الشأن السياسي ووضع السيناريوهات التكتيكية والإستراتيجية، وله نفس مواصفات قادة الأحزاب الأكثر حضورا في المشهد الإعلامي والسياسي المغربي، وأقصد عبد الإله بنكيران وحميد شباط وادريس لشكر. اختار الياس العماري عقد المؤتمر في محطة دقيقة تزامنت مع إعلان الحكومة تاريخ إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة. إنه تحد كبير لعقد مؤتمر حزبي شهور على تنظيم الانتخابات، لما يمكن أن يصدر عنه من تداعيات وتصدعات داخلية أثناء انتخاب أجهزة الحزب. صحيح أن انتخاب إلياس العماري أمينا عاما للبام يشكل انتصارا للتيار اليساري المهيمن على الحزب، والرافض لأي تقارب مع العدالة والتنمية، وهذا مؤشر على أن "البام" مازال مخلصا لمشروعه الأصلي، الذي أسس من أجله، ألا وهو مواجهة المشروع الأصولي في المغرب؛ وهذا ما يفسر الرد القوي لنائب الأمين العام للبيجيدي، الذي وصف انتخاب الياس العماري ب"عودة لحزب التحكم والترهيب". 2- انتخاب العماري يضع "البام" أمام تحديات كبرى ا- تحديات داخلية الأول: مقاومة بعض القيادات اليسارية البامية التي كانت تستفيد من الريع المالي والسياسي لمشروع العماري، لأنها لم تستطع أن تهضم الترشح الوحيد، وانتخاب الياس العماري في هذه الفترة وانتخاب المنصوري على المجلس الوطني. الثاني: مغادرة بعض الكائنات الانتخابية التي لها شعبية لكونها لا تتفق والمشروع السياسي لالياس العماري، ذي التوجه اليساري. الثالث: كيفية استرجاع ثقة الشارع في الحزب، وفي مشروعه، خصوصا أنه يريد استنساخ حزب نداء تونس في مواجهة الإسلاميين. الرابع: محاولة بعض القوى الداخلية، والخارجية التي ستفقد مواقعها ومصالحها في عهد قيادة العماري، التشويش على الحزب وقيادته الجديدة . الخامس: تتمثل في طبيعة المعارك السياسية التي سينهجها إلياس العماري في الانتخابات التشريعية المقبلة، التي يراهن عليها ليصبح البام القوة الحزبية الأولى قبل العدالة والتنمية؛ وهذا تحد ليس بالهين، في الوقت الذي اعتبر بنكيران فوز العماري بقيادة البام انتصار أولي له في الانتخابات التشريعية المقبلة. السادس: كيفية إقناع الياس العماري الرأي العام بأن البام لم يعد حزب صديق الملك وحزب الدولة . ب- تحديات خارجية تتمثل في كيفية تموقع الحزب في المشهد الحزبي، ومدى إرادة القيادة الجديدة استرجاع ثقة المواطنين والفاعلين الحزبين في المشروع البامي، المتهم بأنه يستنسخ تجارب سياسية تضرب في العمق التعددية الحزبية بالمغرب، وكيفية الفوز بالانتخابات التشريعية المقبلة، وكيفية ضبط أسس التحالفات مع باقي الأحزاب. 3- تداعيات انتخاب العماري يمكن أن نلخص هذه التداعيات في النقط التالية: أ- إحداث خوف عند عدد من الفاعلين والمؤسسات من عودة خطاب الاستفزاز ومنهجية التحكم . ب- الخوف من العودة للتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب، خصوصا تلك التي كانت توصف بالإدارية، أثناء تنظيم الانتخابات التشريعية . ج- تخوف بعض الباميين من عزلة الحزب . د- التخوف من العودة بالمغرب إلى الوراء في مواجهة الإسلاميين، والتخوف من جر الشارع العام إلى مواجهات بين العلمانيين والمحافظين والإسلاميين والإثنيين. بعيدا عن كل أشكال الجدل التي أثيرت وتثار حول شخص الياس العماري والبام، فالحزب لن يبقى كما كان قبل انتخاب العماري، وعلاقاته مع الأحزاب الأخرى لن تبقى كما كانت، والمشهد الحزبي لن يبقى كما كان أيضا. على كل، يمكن أن تنتظر المواجهة الشاملة بين حزبي البام والبيجيدي، وبين الزعيمين العماري وبنكيران، اللذين يتنازعان شرعية الصدارة والريادة للمشهد الحزبي. وهناك أكثر من مؤشر يؤكد أن العماري وبنكيران سيكونان بطلي الانتخابات التشريعية، وسيهيمنان على الساحة السياسية والإعلامية، وهذا ما سيقوي من الفرجة السياسية في الانتخابات التشريعية المقبلة. لكن نتمنى أن تكون هذه الفرجة بين الزعيمين أو الحزبين عبارة عن تنافس مبني على أخلاق التنافس السياسي الملتزم بأبجديات التنافس السياسي التي تفترض نوعا من التحكم في اللغة وعدم شخصنة الصراع، وتفادي الشتم والسب والقذف، والسمو بالنقاش العمومي، والتركيز على البرامج وليس على الأشخاص، وخلق جاذبية في المواجهات... وإلا فإن الانتخابات التشريعية المقبلة ستعرف كارثة على مستوى المشاركة . لا يختلف اثنان حول أن مسالة التقارب والتفاهم بين البام والبيجيدي ضرورة في ظل الهشاشة البنيوية للمسار الإصلاحي والسياسي والحزبي والديمقراطي المغربي. وعليه فالالتزام بمصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب في عهدة حزب الأصالة والمعاصرة، بكل ما يملكه من قوى في الدولة والإدارة، ومن تحكم في الأعيان وأصحاب المال ومن نخب جديدة، وكذا حزب العدالة والتنمية، وما يملكه من عمق شعبي وتنظيم قوي ومن تراكمات في تدبير الشأن العام، يمكن أن تجنب المغرب الرجوع إلى الوراء، وإلا فإن التكلفة السياسية ستكون قاسية. *أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال