ملّ السيد الراعي من ثغاء القطيع وخواره ولغطه، فدرب حمارا أشهب أصلب لقيادتها، بالنيابة عنه، للمرعى وللارتواء، مقابل أن يمتلئ بطنه بالكثير من البرسيم اللذيذ والشراب الزلال، وأن يوفر له مسكنا رحبا إلى جانب خيول الإسطبل وحاشيته. كان الراعي في كل مرة يختار من القطيع أجود الخرفان ليذبحها، وأحسن الشياه ليَحْتلِب لبنها. وكان يكفيه فخرا، عندما يحل "عرس الذئب" في قريتنا، أن يشوي أكثر الخرفان تنطعا أمام الجميع، ويحرق أظلاف بعضها أحياء، تماما كما فعل نيرون في مدينة روما.. كان يلقي عليهم القبض من الزرائب، ثم يكبلهم أمام القطيع، ويجز صوفهم بالمِلْقَط، ويقلع أسنانهم، ويهشم رؤوسهم، وهم يبْصرون، ثم يقطع ألسنتهم، ويفقأ عيونهم. وفي النشوة الكبرى، يأمر يذبحهم بموسى الحلاقة؛ فتقطع أوردتهم وريدا وريدا... ومع ذلك، ظل القطيع وديعا، يُبْدي كل آيات الإيمان بالقدر شره وشره ؛ لأنه - بنباهته الحيوانية - يعرف أن في الغابة ذئابا جائعة، موزَّعة في كل رحابها وجنباتها، تتربّص بالضعيفة والفقيرة والجاهلة منها، وفي الزريبة سطوة الراعي والكلاب والمتآمرين. اعترضت بعض منظمات "بلاد الكفار" على المعاملة “الوحشية” للقطيع، ورصدت الانتهاكات في حقها، لكن الذئاب والراعي يكذّبون ذلك ببلاغاتهم اليومية، وبحفلاتهم الباذخة التي يدعون إليها عميلي الإفرنج. كثيرا ما فكر الراعي في بيع نصف هذا القطيع، والاحتفاظ بالنصف الآخر ؛ كما يفعل كل رؤساء دول "خير أمة أخرجت للناس" ، الذين يُهْدونهم خدّاما في بلدان عيسى وموسى وبودا والملحدين، أو طعاما للبحر والحيتان. ألف الكسل، وتدربت كلابه على الاستغلال الفاحش، والعيش من بقايا لحم ودم وصوف وعرق القطيع؛ فغدت أكثر سمنة من الفساد والريع الموزّع بينهم بالعدل. الغابة أدغال مرعبة، مكونة من جبال وسهول وهضاب وبراكين وشمس حارقة، وفي كل ركن سجون وملاهٍ لإعادة تأهيل حمْلان القطيع عبر الترهيب والترغيب. كما أنها تتضمن طحالب وفطريات وأحزابا ولدت للخضوع والمذلة، وأنواعا أخرى من الوحوش المفترسة؛ كالتماسيح والذئاب والكلاب والسياسيين وخَوَنة الوطن. شريعة أدغال الغابة في هذه القبيلة هي "البقاء للأقوى" مالا وانتماء ونفوذا، آكلا أو مأكولا أو معدّا للطبخ أو وقوده، ولا شيء آخر!.. يتكون القطيع من الأبقار و العجول والبغال و الماعز والخرفان والحِمْلان والفقراء والأمّيين وبعض الخنازير السياسيين .. جميعهم ذوو وجوه مِلاح، وكلهم قُرْن، يمشون في سواد، ويأكلون في سواد، وينظرون من سواد.. تشكلوا على مر الزمان، وألِفُوامرغمين العيش في مستنقع الأمية والجهل والمرض، في انتظار الموت، أو الافتراس من جانب الذئاب أو الراعي. مرت سنوات عجاف عديدة، و لم يستفق بعْدُ الراعي من نومه، الذي دام أكثر من مئة سنة، رغم أن الذئاب والكلاب وزعت القطيع الوديع بينها، وما تبقى غير الظلم والفساد و الهلاك، وحمير شيوخ ما عادت تقوى على حمايةِ القطيع من الذئاب والكلاب، وشظفِ العيش، والغابةِ التي تم رهنها لخنازير الله والمال والجنس، وعذاب الراعي الأرعن!.. طلب الراعي في هذا الصباح عقد اجتماع مع الحمير والكلاب والذئاب وبعض السياسيين الخبراء في تطويع القطيع. - "القطيع - سيدي الراعي - في تكاثر، والحمير ما زالت كلها بخير، ونحن نستبدلها كلما شاخت، ونسيت المسالك". - "هل تعلمون؟.. لقد وصف الأطباء لمرضي علاجا في القطيع!". - "ما يكون يا سيدي الراعي؟".. - "مخّ حمل حديث الولادة على الريق يوميا لمدة غير محدودة"... - "كيف؟!"... - "سأخلط المخ بحليب شاة مذبوحة، ودقيق قرن كبش من أكباش القطيع"... تقدم نحوه أحد الخنازير، وقال: "وكيف سننشر الظلم الذي نصنعه إذا انتهى أمر القطيع؟!" قال الراعي: "سأبني غابة ديموقراطية جديدة"... ومنذ ذلك الوقت، انضم الراعي إلى قطعان الغابة؛ فأصبح كبشا أملح أقرن تتربّص به الذئاب والكلاب والخونة، ويخشى ثورة القطيع الذي تخلص من غِماماته. استفاق الراعي مذعورا وَجِلا من الحلم الكابوس؛ فسنّ قانونا يمنع إزالة الغمامة من فم القطيع، ويزيد من كَمّية علف الحمير .. جدّد الثقة في الخنازير والكلاب والذئاب، وأقسموا جميعا على الاستمرار في نهب الغابة، وفي مواصلة الظلم والفساد... ثم عاد للنوم العميق!... إن أي تشابه بالواقع هو من قبيل الصدفة 1 - الغِمامة ما يشدُّ به فم البعير أو الكلب أو غيره من الدواب منعا له من الاكل أو العضّ أو النباح. وقد استعملت في هذه المقالة للتعبير عن المنع من التعبير والتغيير والتطوير . [email protected]