حدث ذلك في واحدة من أجمل الغابات وأكثرها خيرا وثراء، ابتليت الغابة بحكم الفيل الظالم الفاسد، الذي استعان بالذئاب والخنازير لإخضاع الحيوانات. كانت الذئاب تهاجم الحيوانات كل ليلة و تلتهمها، والخنازير تأكل الجيف وتتناسل. لم تعد الحيوانات آمنة على حياتها ورزقها وفاحت رائحة الخنازير الكريهة في أنحاء الغابة، ولما فاض الكيل بالحيوانات أعلنت الثورة ضد حكم الفيل وجرت موقعة ضارية قُتلت فيها مئات الحيوانات، لكنها في النهاية انتصرت على الفيل وطردته مع خنازيره وذئابه خارج الغابة. فوّضت الحيوانات الزرافة للحديث باسمها فذهبت للقاء الأسد وقالت: - أيها الأسد العظيم أنت تقود مجموعة من الأسود الشجعان، ولطالما دافعتم عن غابتنا ضد كل من يريد بها شرا.. أرجوك، تولَّ أمرنا، فنحن نحبك ونثق بك. تولى الأسد أمر الغابة، وسادت حالة من التفاؤل والسرور في البداية، ولكن بمرور الأيام لاحظت الحيوانات أن الأسد يستعين دائما بالخرفان، حتى بدا واضحا أنه سوف يسلم حكم الغابة إليهم. عندئذ اجتمعت الحيوانات للتشاور، فقال الهدهد: - احذروا يا زملائي، من الواضح أن الأسد عازم على تسليم السلطة إلى الخرفان.. الخرفان كاذبون وأنذال لا يحفظون العهود ولا يراعون الحقوق، كل ما يهمهم تحقيق مصالحهم بأي طريقة. صاحت النعامة: - لقد ثرنا على الفيل الظالم وذئابه وخنازيره من أجل أن نعيش بأمان وكرامة؛ وها هو الأسد سيمنح الحكم للخرفان الأنذال. يا لضيعة الدماء التي راحت هدرا!! على أن الحمار كان له رأي آخر، فقد أصدر نهيقا وقال: يا جماعة، لماذا تتوقعون الشر قبل وقوعه؟! من قال لكم إن الخرفان سيحكمون الغابة؟! قال الهدهد: - اِفهم يا حمار، كل الدلائل تؤكد أن هناك اتفاقا بين الأسد والخرفان. لقد قمنا بثورة على حكم الفيل حتى نقضي على الظلم ونعيش في أمان. سترى بنفسك أن حكم الخرفان ليس أفضل من حكم الفيل. يوما بعد يوم تحققت المخاوف، إذ تولى الخرفان حكم الغابة بالكامل وانسحب الأسد إلى العرين. سرعان ما اكتشفت الحيوانات أن حكم الخرفان ليس إلا الوجه الآخر من حكم الفيل.. نفس الظلم ونفس الاعتداء على الحقوق ونفس الأكاذيب، بل إن الخرفان استعانت بالذئاب المتوحشة التي عادت إلى مهاجمة الحيوانات الآمنة تماما كما كانت تفعل أيام الفيل. ساد الإحباط بين الحيوانات. وذات ليلة بينما الزرافة تتجول وحدها وهي حزينة، اعترض طريقها خنزير وقال: - مساء الخير أيتها الزرافة. أعلم بأنك حزينة من أجل ما يفعله الخرفان.. نحن الخنازير أيضا مستاؤون مما وصلت إليه غابتنا. لقد ثرتم ضد الفيل العظيم وطردتموه، وها أنتم تدفعون الثمن. أجابت الزرافة بحدة: - الفيل لم يكن عظيما بل كان ظالما وفاسدا، وهو السبب في كل مصائبنا. أنتم يا خنازير كنتم شركاءه وأدواته في الظلم والنهب والفساد. تنهد الخنزير وقال: - فلننس الماضي يا زرافتي العزيزة. لقد جئتكم برسالة صداقة من الخنازير. أعرف أنكم تعدون العدة لثورة جديدة ضد الخرفان. أنا أحذركم، لأن الخرفان اتفقوا مع مجموعات كبيرة من الذئاب سيمزقونكم إربا لو تمردتم عليهم. زفرت الزرافة بقوة وأدارت عنقها الطويل يمينا ويسارا (كعادتها إذا انفعلت)، ثم قالت: - لا تستهن بنا أيها الخنزير. نحن حيوانات الغابة عددنا أكبر بكثير من الخرفان والذئاب جميعا، كما أننا مقاتلون شجعان ومستعدون للدفاع عن حقوقنا إلى النهاية حتى لو هلكنا جميعا. - أنا لا أشكك في شجاعتكم. كل ما أرجوه منكم أن تغلّبوا العقل على العاطفة. إن عهد الفيل العجوز قد انتهى، وهو الآن ينتظر الموت بهدوء بجوار النهر.. نحن مئات من الخنازير المدربة، وإذا تحالفتم معنا سنقضي على الخرفان في يوم واحد. أيتها الزرافة، أرجو أن توافقي على طلبنا نحن الخنازير بالانضمام إليكم لنطرد الخرفان من الغابة. زفرت الزرافة مرة أخرى، وقالت: - أنا لا أملك حق الحديث باسم الحيوانات في هذا الأمر. أمهلني يوما واحدا أيها الخنزير. - هذه فرصة ذهبية لا تضيعوها من مخالبكم. نحن الخنازير في انتظار إشارة منكم لكي ننضم إليكم ونحارب الخرفان. هزت الزرافة رأسها وكأنها تفهمت وقالت: - غدا هنا في نفس الموعد سأخبرك برأي الحيوانات. تلك الليلة لم تنم الزرافة، ذهبت إلى الحيوانات جميعا. كانت تشرح الموضوع أمام كل مجموعة من الحيوانات، ثم تستمع باهتمام إلى آرائهم، وبينما هي تتحدث مع الحمير قال أكبرهم سنا: - أنا أقبل عرض الخنزير. أهم شيء الآن أن نطرد الخرفان بأي طريقة. يجب أن نستعين بالخنازير القوية في حربنا ضد الخرفان. أما النسناس فقد تشقلب مرتين في الهواء، ثم تعلق بجذع الشجرة وبدا عليه التفكير وقال: - أيتها الزرافة، أنا أرفض هذا العرض.. كيف نستعين بالخنازير الذين ثرنا ضدهم، والذين قتلوا المئات من زملائنا أثناء الثورة الأولى؟! هذا أمر لا أقبله أبدا. أما النعامة فقد انحنت حتى لامست الأرض وراحت تحك منقارها في التراب، ثم رفعت رأسها وقالت: - أيتها الزرافة إذا كنتِ قد نسيتِ ما فعله الخنازير فينا أيام حكم الفيل الطاغية فأنا لم أنس؛ أنا أفضل الموت على أن أتعاون مع الخنازير المجرمين. في النهاية ذهبت الزرافة إلى عرين الأسد.. وقفت أمامه وأحنت رقبتها الطويلة احتراما وقالت: - أيها الأسد العظيم، يا من دافعت أنت وأبناؤك الأسود عن غابتنا عشرات المرات، أنت يا من نطمئن جميعا بوجودك معنا، ويا من يخشى الأعداءُ بأسَك وقوتَك، تكلم، قل لنا كيف تفكر. لقد ثرنا ضد الفيل الظالم الفاسد فابتلانا الله بحكم الخرفان، وهم لا يقلون ظلما وفسادا عن الفيل. تثاءب الأسد وقال: - ماذا تريدين مني أيتها الزرافة؟! - أريدك أن تفصح عن موقفك أيها الأسد، أنت تتصرف بشكل غامض، هل أنت معنا أم مع الخرفان؟ - أنا مع كل ما يحقق خير الغابة. - هذا كلام عام بلا فائدة.. هل ستساعدنا في التخلص من الخرفان؟ أجبني بوضوح أيها الأسد. تثاءب الأسد من جديد، وقال: - سأجيبك في ما بعد أيتها الزرافة، أريد أن أنام الآن. خرجت الزرافة وهى تقول لنفسها: «لا فائدة من هذا الأسد. لا يمكن أن نعتمد عليه. من الواضح أنه متواطئ مع الخرفان». في الموعد المحدد، جاء الخنزير وقال: - هل استشرتِ الحيوانات أيتها الزرافة؟! ردت الزرافة بهدوء: - باستثناء بعض الحمير، فإن الحيوانات جميعا يرفضونكم أيها الخنازير، لأنكم شاركتم الفيل في ظلمه وفساده. لقد ثرنا ضدكم، فكيف نتعاون معكم بعد ذلك؟ لن يحدث ذلك أبدا. صاح الخنزير غاضبا: - هذا هو الغباء بعينه. لقد دمرتم الغابة بغبائكم وخيبتكم.. صرنا نعيش في فوضى وخراب، ونتمنى يوما واحدا من حكم الفيل العظيم. - بالنسبة إليكم، كان الفيل عظيما أيتها الخنازير، لأنه منحكم ما لا تستحقونه، أما نحن الحيوانات فلا نزال نرى الحقيقة. أيها الخنازير، أنتم والخرفان سواء في الظلم والفساد.. لا بد أن نتخلص منكم جميعا. صاح الخنزير: - اللعنة عليك وعلى حيواناتك. رفعت الزرافة قدمها مهددة وقالت: - انصرف من هنا إذا كنت حريصا على حياتك. خاف الخنزير وولى هاربا. ساعة الفجر، كانت الحيوانات كلها قد استعدت، طبقا للاتفاق. كانت تعلم بأن الخرفان لا يستيقظون قبل الضحى، وبالتالي قررت أن تشن الهجوم مبكرا. وقفت الزرافة وقالت: - أيتها الحيوانات الشجاعة، تذكروا زملاءنا الذين قتلهم الفيل بواسطة ذئابه وخنازيره، لقد ماتوا وهم يحلمون بالعدل. ها أنتم تثورون مرة أخرى من أجل العدل. لقد رفضتم أن تتعاونوا مع الخنازير، ولقد تخلى عنكم الأسد وتواطأ مع الخرفان. قدركم أن تقاتلوا وحدكم، لكنكم ستنتصرون بشجاعتكم. كان صوت الزرافة الرفيع الرنان يعكس حماسا صادقا أثّر في الحيوانات، فالتهبت مشاعرها وهجمت على الخرفان النائمين الذين استيقظوا مفزوعين واستدعوا الذئاب المتوحشة التي بدأت قتالا ضاريا ضد الحيوانات الثائرة. كانت الذئاب تثب على رقبة الضحية فتقتلها بعضة واحدة من أسنانها الحادة. سقط ضحايا كثيرون، وقبيل الظهر بدا واضحا أن الثورة على وشك الاندحار، فقد قتلت الذئاب عددا كبيرا من الحيوانات وبدأت الحيوانات الثائرة تحس بالوهن واليأس، على أنها فجأة استمعت إلى زئير رهيب، وسرعان ما ظهر الأسد الكبير ومعه مجموعة من الأسود انقضوا على الذئاب وأوسعوهم تمزيقا بمخالبهم، سقط نحو عشرة ذئاب قتلى ولاذ الباقون بالفرار، ولما تأكد الخرفان من هزيمتهم استلقوا جميعا على الأرض وناموا على جنوبهم وكأنهم يعلنون استسلامهم ويستدرون عطف الأسد الذي زأر بقوة وقال: - أيتها الخرفان لقد صبرت عليكم حتى ظنت الحيوانات بي الظنون. منحتكم الفرصة لكي تعودوا إلى الحق لكنكم ازددتم في الظلم والعدوان حتى استعنتم بالذئاب في قتل الحيوانات البريئة، تماما كما كان الفيل الظالم يفعل. هنا كان لا بد أن أتدخل لأحمي الحيوانات من شركم. إن واجبنا نحن الأسود ليس فقط الدفاع عن الغابة ضد هجوم الأعداء، لكن واجبنا أيضا أن نحمي الحيوانات البريئة من العدوان الظالم. ارتفعت أصوات الحيوانات بالشكر الحار للأسد القائد، الذي زأر مرة أخرى وكأنه يرد التحية وقال: - الآن وقد قمت بواجبي وطردت الخرفان من الحكم، سأعود مع زملائي إلى العرين. أيها الإخوة الحيوانات سأترك لكم اختيار من ترونه مناسبا لكي يحكم بدلا من الخرفان، من تريدون لكي تمنحوه حكم هذه الغابة؟ ارتفعت أصوات الحيوانات جميعا هاتفة باسم الزرافة، التي بان عليها الخجل فأطرقت وراحت تحرك سيقانها وتحك الأرض بحوافرها، ثم تطلعت نحو الحيوانات وصاحت: - أشكركم يا إخوتي على هذه الثقة الغالية، وأشكر الأسد العظيم لأنه قهر الذئاب المتوحشة وساعدنا على التخلص من الخرفان الأشرار. أعدكم بالعدل الذي طالما حلمنا به وقاتلنا من أجل تحقيقه. عمت صيحات الفرح الغابة كلها، إذ أحست الحيوانات لأول مرة بأن ثورتها نجحت وبأنها تبدأ عهدا جديدا. الديمقراطية هي الحل.