لقد اطلعت كباقي المغاربة عبر الإعلام على إحدى القرارات التي تزمع الحكومة اتخاذها لحل إشكالية الخصاص الحاصل في أساتذة التعليم العالي، حيث استقرت مبادرة الحكومة على اللجوء إلى توظيف الإداريين الحاصلين على الدكتوراة منذ سنوات والذين تم إدماجهم سابقا في الوظائف العمومية (الجماعات، الوزارات..) وكذلك ما ورد عن عزم الحكومة إفساح المجال لطلبة السلك الثالث والدكتوراة للتدريس في الجامعات. ونظرا لحساسية الموقف راسلت السيد رئيس الحكومة حول خطورة الموقف ومبينا في نفس الوقت أن أزمة التعليم العالي ليست وليدة اليوم ولا يمكن تحميلها كليا للحكومة الحالية. ولتوضيح الصورة فلا بد أن نرجع إلى التاريخ القريب لمعرفة سبب الخصاص الحاصل الذي تعانيه الجامعة المغربية فيما يخص الموارد البشرية. إن أول جريمة ارتكبت في حق الجامعة المغربية هي ما سمي بالمغادرة الطوعية منذ ما يزيد عن عشرسنوات حيث فتح الباب أمام أساتذة مرموقين لمغادرة الجامعة المغربية في وقت هي في أمس الحاجة إليهم. إن قرار المغادرة الطوعية الغريب من نوعه في العالم اعتبر أول ضربة قاصمة تنم عن جهل المسؤولين آنذاك بالتعليم العالي والبحث العلمي لسببين رئيسين. فمن جهة نحن نعلم أنه كلما تقدم الأستاذ في السن إلا واكتسب خبرة في التدريس والبحث العلمي بحيث يصبح وجوده مطلوبا أكثر لتأطير الطلبة و الباحثين، بل إنه في أمريكا يسمح للأستاذ الجامعي الإستمرار في الجامعة إلى سن الخمسة والسبعين إن هو أراد ذلك. ومن جهة أخرى تمت هذه المغادرة الطوعية في ظرفية دقيقة كان نظام التعليم العالي عندنا يستعد لدخول مغامرة أخرى جديدة سميت بنظام “أمد” أي “إجازة-ماستر دكتوراة” وهو نظام تم استنساخه من نظام بولونيا الأوروبي لإصلاح التعليم العالي. وكوني كنت ضمن لجنة جامعة بروكسيل لمناقشة هذا النظام الجديد فإننا نعلم أن تطبيق نظام بولونيا أو أمد يرمي إلى زيادة عدد الدروس التطبيقية لإعداد الطالب خريج الجامعة لمواكبة سوق الشغل وميادين البحث، مما يعني أن تطبيق نظام أمد يتطلب آنذاك زيادة عدد أساتذة الجامعة بنسبة خمسة عشر بالمائة (1). إلا أن العكس هو الذي حصل في جامعاتنا حيث تم إعتماد نظام أمد الذي يتطلب زيادة في أطر الجامعة وفي نفس الوقت تم تسريح عشرة بالمائة من أطر التدريس مما فاقم خصاص الجامعة المغربية. ورغم حواراتي مع المسؤولين السابقين للتنبه لهذا الموضوع إلا أنه لا حياة لمن تنادي حيث لم نر أي حوار جدي في البرلمان حول محاسبة المسؤولين عن هذه المعادلة البئيسة. لننتقل إلى سبب أخر من أسباب نقصان الموارد البشرية و هو عامل السن. لقد حضرت المناظرة الوطنية للبحث العلمي سنة 2006 في عهد حكومة السيد إدريس جطو. وكان من بين أهداف المناظرة مناقشة التقرير النهائي الذي وضعته لجنة عهد إليها، على مدى سنة كاملة، دراسة أوضاع البحث العلمي في المغرب و إصدار توصيات (2). هذه اللجنة المكونة من حوالي عشرة أشخاص وضعت تقريرا مفصلا في جزئين كنت أتمنى أن تطلع عليه الحكومات المتعاقبة. ومن بين أهم ما جاء في هذا التقرير هو بيانات توزيع الأساتذة بالنسبة للسن، حيث أكد أن حوالي 45٪ من الأساتذة أنذاك تتجاوز سنهم 47 سنة أي ما معناه أنه خلال عشر سنوات على الأقل 30٪ من الأساتذة سوف يحالون إلى التقاعد وبحلول سنة 2018 سوف نفقد 40٪ من الأساتذة الذين سيحالون إلى التقاعد. ورغم أن الوزير الأول آنذاك وعد بتكوين لجنة لمتابعة توصيات اللجنة إلا أنه حسب علمي لم تكن هناك أية متابعة مما يفسر الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه. من الطبيعي أن تتعامل الحكومة الحالية مع هذا الإرث الثقيل الذي لا نحملها مسؤوليته اللهم إلا من باب عدم متابعة الموضوع أيام كانوا في شاطئ المعارضة، لكننا نحمل المسؤولية كل الحكومات والمعارضات المتعاقبة منذ ذلك الوقت. إن الجامعة هي الركيزة الأساسية التي لا يمكن الإستهانة بها، فهي التي تهيء أطر الدولة المستقبليين في شتى المجالات وبالتالي لا يجب أن يكون تعيين الأساتذة محل سياسات ارتجالية أو ترقيعية، كما أنه ليس من الحكمة أن تكون الجامعة وسيلة لإمتصاص البطالة. فأطر الجامعة يجب أن يكونوا مؤهلين علميا وثقافيا أكثر من غيرهم في أي قطاع أخر، وأن يراكموا خبرة في التدريس والبحث العلمي تساعدهم على أداء مهمتهم في تكوين أطر الدولة وأفراد المجتمع المستقبليين. إن اللجوء إلى ذوي الشهادات الذين انقطعوا عن التدريس والبحث منذ سنوات بحكم عملهم في إدارات الدولة والجماعات يعتبر انتحارا وإجهازا على ما تبقى من جودة التعليم العالي في الوطن. فالباحث الذي انقطع عن التدريس والبحث ولو لسنوات قليلة يصعب عليه تدارك الأمر والرجوع إلى الميدان الذي يشهد تقدما كل ثانية. كما أن طرق التدريس الحديثة التي تعتمد على تقنيات وطرق بيداغوجية لا يمكن أن يستوعبها شخص غاب في دهاليز الإدراة العمومية لسنوات. نتمنى من السيد رئيس الحكومة ومن المعارضة التي لم تحرك ساكنا أن تراجعوا هذا القرار وأن تضعوا الحكومات السابقة والبرلمان في مستوى المسؤولية، كما نقترح مايلي: • إفساح المجال حقيقيا أما الكفاءات العلمية المغربية الغيورة لإبداء المشورة والنصيحة فيما يتعلق بقرارت كهذه تحدد المسار المستقبلي للتعليم والبحث في المغرب • تكوين لجنة وطنية تضم خبراء مغاربة من الداخل والخارج لدراسة الموضوع ووضع سبل للخروج من هذه الورطة عبر مراحل من المدى القريب إلى البعيد • التفكير جديا في الإستعانة بالكفاءات العلمية المغربية بالخارج عبر شراكات تمكنهم من قضاء فترة من الوقت في المغرب للتدريس والبحث. • تنظيم مناظرة وطنية حول التدريس في التعليم العالي و كيفية الإستفادة من تجارب الأخرين في هذا الصدد • تنظيم مناظرة وطنية للبحث العلمي تكون استمرارية للمناظرات السابقة التي توقفت، ومتابعة التوصيات ذات الصلة. نعلم أن جزءا من المقترحات أعلاه كان من المفروض أن يقوم برنامج فينكوم للكفاءات بتفعيلها، لكن البرنامج أتى هزيلا ولم يحقق المبتغى لعدة أسباب فصلتها في كتاب نشرته سابقا(3). نتمنى من السادة المسؤولين أن تؤخذ هذه الملاحظات بعين الإعتبار ونحن على استعداد للتعاون مع المسؤولين لتحقيق مافيه الإصلاح. والله ولي التوفيق. مراجع: 1.عثمان البهالي، إعلان بولونيا لإصلاح التعليم العالي بأوروبا، مجلة المعرفة عدد 177، 2009. 2.Actes de la Rencontre Nationale sur la Recherche Scientifique et Technologique, MINISTERE DE L'EDUCATIONA NATIONALE, DE L'ENSEIGNEMENT SUPERIEUR, DELA FORMATION DES CADRES ET DE LA RECHERCHE SCIENTIFIQUE 3.عثمان البهالي "الكفاءات العلمية المغربية بالخارج: بلجيكا كنموذج" دار النشر المغربية، الدارالبيضاء 2010 *أستاذ البحوث ومدير نظم الأبحاث جامعة تكساس أي أند إم فرع قطر.