مما لا شك فيه أن المتتبع العادي للحياة السياسية المغربية في السنين الأخيرة قد لاحظ بوضوح كامل أن الحقل السياسي المغربي أصبح يتداول في السنين الأخيرة، على نطاق واسع، "جهازا مفاهيميا" ينتمي إلى المرجعية الثقافية الشعبية أكثر مما ينتمي إلى مرجعية الثقافة السياسية التي ترتكز على حمولة فكرية راسخة. فمنذ سنة 2011، أو على أكثر تقدير سنة 2012، وبالضبط منذ مجيء حكومة عبد الإله بنكيران، هيمنت على المشهد السياسي الوطني لغة سياسية جديدة أصبحت متداولة بين الفاعلين السياسيين. وقد أصبحت هذه اللغة منشطا جوهريا لكل أشكال السجال، ولكل المعارك والنزاعات السياسية التي دارت وما زالت تدور بين هؤلاء. إن عبارات مثل "التماسيح والعفاريت" التي ابتكرها رئيس الحكومة، دون أن ننسى ما سمته الصحافة الوطنية "قفشات بنكيران"، ليست تعبيرا نشازا ومعزولا في قارة سجالية يشارك في تسخين طقسها وإعلاء سقف فرجتها وشعبيتها حميد شباط وإلياس العماري، أو إدريس لشكر بشكل خاص، كما يشاركها سياسيون آخرون، دون أن ننسى فئات عريضة من الشعب المغربي تتفاعل بأشكال مختلفة مع هذا المعجم الشعبي. فعبد الإله بنكيران ليس السياسي الوحيد الذي يمتلك كفاءات خطابية تواصلية قوية، بالرغم من أنه أكثرهم قدرة على استخدام رموز وإيحاءات الثقافة الشعبية، وأكثرهم صناعة للفرجة والإثارة، وربما لأنه كثير الكلام ولا يفوت مناسبة من المناسبات لأخذ الكلمة والحديث في أي شيء، بما في ذلك ما قد يكون قاله لزوجته، أو حتى ما قاله للملك، بعد فترات سياسية طويلة كان فيها رؤساء السلطة التنفيذية في المغرب لا يتكلمون، ولا نكاد نسمع صوتهم على الإطلاق. ومما لا شك فيه أننا سنشاهد في الحملة الانتخابية لتشريعيات 07 أكتوبر 2016 مشاهد لا حصر لها، ستحضر فيها بقوة هذه اللغة المشار إليها. ومن الطبيعي أن كثيرا من عتاة الحقل السياسي المغربي سيتحولون إلى صناع للإثارة، وسيستعينون بالكفاءات التواصلية القوية لأولئك الذين نسميهم "لحلايقية"، بثقافتهم الشعبية الغنية، وذاكرتهم التراثية اليقظة. من الضروري أن نؤكد أن اللقاء بين الثقافة السياسية والثقافة الشعبية ليس ظاهرة حصرية خاصة بالمجتمعات التقليدية، ومن ضمنها المغرب؛ فحتى في مجتمعات الحداثة والديمقراطيات الكبرى يتم هذا اللقاء في بعض السياقات السياسية الدقيقة، وبعض المراحل التاريخية المميزة، دون أن ننسى وجود أحزاب أوروبية وأمريكية بعينها معروفة بتوجهها "الشعبوي" العلني. غير إن حضور الثقافة الشعبية في قلب الثقافة السياسية أقوى تأثيرا وأعمق أثرا في مجتمعات التقليد.. يسعى هذا المقال، في ضوء تتبع الحياة السياسية المغربية، إلى رصد وتحليل هذه الجسور التواصلية بين الثقافة السياسية والثقافة الشعبية، وبالتالي بسط وعاء نظري حصري يفسر هذه العلاقات الخفية بين الثقافتين السياسية والشعبية، وهي التي لا نكاد ننتبه إليها أو نتبينها بشكل ملموس. فمما لا شك فيه، من زاوية النظر هذه، أن هذه الجسور وهذه العلاقات معقدة ولا تطفو على سطح الواقع التاريخي بصفة مباشرة وواضحة، وهذا بالضبط ما يتطلب القيام باستقصاء سوسيو- تاريخي. لقد توصلنا إلى رصد وتصنيف هذه العلاقات المعقدة ة واللامرئية بين الثقافة السياسية وبين الثقافة الشعبية في نظام منطقي، معتمدين على معاينتنا السوسيولوجية الدقيقة التي سمحت بتتبع التفاصيل الصغيرة للفعل الاجتماعي، من جهة، وللفعل السياسي، من جهة أخرى. وبعد ذلك، وضعنا هذه المادة السوسيولوجية والسياسية الغنية على طاولة التحليل المفاهيمي. وإذا كانت فرضيتنا تقر بوجود علاقات قوية بين الثقافة السياسية وبين الثقافة الشعبية، فإن الأمر يتطلب، في المقام الأول، الإجابة عن سؤال مركزي هو الآتي: على أيّ أساس تاريخي أو سوسيولوجي تقوم هذه العلاقات؟ هل تحتكم إلى منطق الصيرورة التاريخية وإكراهاتها الموضوعية التي تقتضي في خضم التوافقات أو التسويات الإستراتيجية للمجتمع توحيد الخيارات والمنظورات الإيديولوجية أو مأسسة وشرعنة التعاون بينهما؛ وهو ما قد يفضي إلى تبادل الخطاب السياسي والخطاب الثقافي لعلاقات مختلفة على أساس المصالح الاجتماعية لكليهما، حيث تصبح الثقافة أو الثقافة الشعبية بصفة خاصة حاضرة داخل الحقل السياسي، والثقافة السياسية حاضرة في قلب الحقل الثقافي؟ أم إلى طبيعة الاختيارات الذاتية لكلتا الثقافتين، حيث تكون هذه التبادلات كلها في هذه الحالة، لا فقط منتمية إلى حقل الوعي التاريخي الموضوعي، بل منتمية أيضا وبقوة إلى حقل اللاشعور؟ يتعلق الأمر إذن، كما هو واضح من طبيعة هذا السؤال، بعلاقات معقدة، أو بمعنى آخر غير ميكانيكية وغير ملموسة بسهولة على مستوى المعاينة السوسيولوجية؛ غير أننا إذا نظرنا إلى هذه العلاقات كظاهرة اجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية. بمعنى من خلال صفتها الميكرو- سوسيولوجية، سنجد أن لها فعلا ملامح "إمبريقية" قابلة للملاحظة والمعاينة الميدانية. لا شك، إذن، في أن هذا السؤال وهو مثقل بحمولة تاريخية قوية يلتقي مع كل الأسئلة الكبرى لمجتمع من المجتمعات، في الحالة التي يقوم فيها هذا الأخير بإنتاج وإعادة إنتاج ذاته. ولا شك أيضا في أن الأمر يقتضي، في تقديرنا الخاص، أن نكون إلى حد بعيد فيبيريين، نسبة إلى ماكس فيبرMax Weber، في محاولة رصد ومعاينة وتحليل معطيات ميكرو- سوسيولوجية، بالكيفية التي تنبجس من خلالها من قلب الصيرورة التاريخية. ما الثقافة السياسية وما الثقافة الشعبية؟ من قلب هذا الهاجس الإبستيمولوجي بالذات، ينبغي وضع التساؤل الآتي: ما الثقافة السياسية وما الثقافة الشعبية؟ نشأ مفهوم الثقافة السياسية في حقل الأنثروبولوجيا في بدايته، ثم انتقل فيما بعد إلى حقل الأبحاث المنتمية إلى علم السياسة. وانتقال المفاهيم من حقل علمي إلى آخر، كما هو معروف، ظاهرة عادية في حقل العلوم الإنسانية. ومن الطبيعي أن تكون هناك جسور تواصلية دائمة تصل علما بعلم آخر؛ بل إن بعض المفاهيم، في ضوء هذه العلاقات المشار إليها، قد تحقق نجاحات منهجية باهرة خارج نطاق الحقل العلمي الذي يعتبر موطنها المنهجي الأصلي. وليس غريبا على الإطلاق أن يرحل مفهوم الثقافة السياسية من الأنثروبولوجيا إلى علم السياسة أو غيره من العلوم الاجتماعية، نظرا لأن مفهوم الثقافة في حد ذاته مفهوم أنثروبولوجي تأسيسي، خاصة منذ الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. من الملاحظ أننا حين نقول "ثقافة سياسية"، فهذا يفترض اقتناعنا بوجود ثقافة غير سياسية. وحين نقول "ثقافة شعبية"، فنحن نفترض وجود ثقافة أو ثقافات ليست شعبية؛ غير أنه بالرغم من التمييز القائم بين ثقافة نخبة وبين ثقافة جماهير، أو بين ثقافة حضرية وبين ثقافة قروية، تظل الثقافة الشعبية ملكا عموميا، أو بعبارة أخرى ملكا للشعب بكامله، بغض النظر عن الانتماءات الإيديولوجية أو الطبقية أو الاجتماعية، سواء كانت هذه الأخيرة فئوية أو قبلية أو مجالية أو معرفية، أو حتى حين تكون محددة بناء على نسق القرابات السائدة. وربما أمكن القول إن هذا المعطى السوسيولوجي يعدّ أحد العوامل التاريخية التي تزيد في تقوية العلاقات المتبادلة بين الثقافة السياسية وبين الثقافة الشعبية؛ فهذه العلاقات بالذات تتقوى أو تتشرعن بفعل عدم وجود حدود تماس إيديولوجي واضح وصلب بين حقل الثقافة السياسية وبين حقل الثقافة الشعبية. وهذا ما يؤدي بصفة موضوعية، في بعض السياقات السوسيولوجية الخاصة، إلى توحيد العمل وتوحيد الأهداف التي تسام من خلالها كلتا الثقافتين في التأثير على الفعل الاجتماعي، وبالتالي على المؤسسات والتنظيمات السياسية والاقتصادية والثقافية القائم ؛ غير أننا في سياق سوسيولوجي مختلف تماما عن السياق الأول المشار إليه، نلاحظ أن مفهوم الثقافة السياسية ومفهوم الثقافة الشعبية كليهما ينطويان على خلفية سوسيولوجية انقسامية أو تجزيئية. بمعنى أن الأمر في هذه الحالة يبدو متعلقا بحقلين ميكرو- سوسيولوجيين لا تربط بينهما علاقات جدلية وموضوعية، وملموسة على سطح الفعل التاريخي. صحيح أن للثقافة السياسية والثقافة الشعبية طابعا ميكرو- سوسيولوجيا قابلا للرصد والملاحظة بهذه الصفة الانقسامية؛ غير أن الأمر لا يتعلق حتى في هذه الحالة من الانكشاف، إلا بمعطيات إثنوغرافية مبعثرة وفاقدة لانتماءاتها التاريخية الموضوعية. ومما لا شك فيه أن أهمية هذا الطابع الاتنوغرافي المؤكد تكمن في تقديمه للثقافتين: السياسية والشعبية، في سياق سوسيولوجي له طابع نزاعي؛ فالثقافة السياسية تعمل عملها داخل الحقل السياسي، وهو حقل تناقضي وتعددي بين مصالح إيديولوجية متباينة أو حتى متنافرة، سواء بين طبقات اجتماعية بالمعنى الماكرو-سوسيولوجي أو مجموعات اجتماعية متباينة بالمعنى الميكرو-سوسيولوجي "دينية أو لغوية أو مهنية أو جهوية إلخ....". وهذه الظاهرة موجودة في المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي على حد سواء. والثقافة الشعبية تعمل عملها أيضا داخل الحقل الاجتماعي؛ وهو حقل الاختلالات أو اللا-تكافؤات الثقافية، حيث هناك أنماط مختلفة من الثقافات تحوم حولها، سواء من جهة التقارب أو التباعد السوسيولوجيين: - ثقافة وطنية أو قومية – ثقافة سامية – ثقافة عالمة – ثقافة شفوية – ثقافة رسمية – ثقافة مقدسة – ثقافة قروية – ثقافة حضرية إلخ... وبالمنطق السوسيولوجي نفسه، فحين نقول: ثقافة سياسية، فهذا معناه أن هناك ثقافات غير سياسية. صحيح أن الأمر يتعلق بصفات، حتى إذا أقررنا بوجودها الموضوعي، فهي تبقى مع ذلك ترسيمات يؤسسها المؤرخ أو السوسيولوجي أو الأنتروبولوجي. بعبارة أخرى، فالأمر يتعلق بما يسمى أنماطا إجرائية، لا حقائق متناسقة وملموسة بشكل دقيق؛ غير أن وجودها وانتظامها الجدلي في سيرورة تاريخية، قابل للإثبات في تقدير فرضيتنا السابقة. ما يهمنا في هذا السياق من التحليل هو التأكيد على ملاحظتين: الملاحظة الأولى هي أن هذه الأنماط من الثقافات بصيغة التعدد تفيد على مستوى التحليل السوسيولوجي بأن هذه الأخيرة تستبطن نزاعات أو مصالح اجتماعية حقيقية ينبغي رصدها في قلب عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي في مجتمع من المجتمعات، وأن لهذا الاستبطان أبعادا أو ملامح ميكرو-سوسيولوجية تنبجس من عمق الصيرورة التاريخية؛ لكنه ليس من السهل الظفر بها. الملاحظة الثانية هي أن هذه الأنماط من الثقافات تتبادل علاقات سوسيولوجية معقدة، بناء على نوعية ومنطق المصالح والتسويات الاجتماعية الجارية أو السائدة. بمعنى أن هاجس التعايش فيما بينها يشغلها، خاصة في خضم عملية التموقع الاجتماعي في سلم التراتبيات التي تتم هيكلتها وشرعنتها في حقل الصراعات القائمة. هاتان الملاحظتان الآنفتان، إذ تفيدان وتثبتان مشروعية الحديث عن علاقات تبادلية حقيقية بين الثقافة السياسية والثقافة الشعبية، تؤكدان أيضا أن المفهوم المرجعي، أي مفهوم الثقافة، من حيث يحيل أو ينطوي على معاني التوحيد والتشميل، يخفي في الوقت نفسه طابع النزاع والتنافر والتجزئ. إذا ذهبنا مع عالم السياسة المعاصر Georges Burdeau، في اعتباره أن مفهوم الشعب، على مستوى التحليل السوسيوسياسي، لا يقترن بالدين أو باللغة أو بالانتماء الاجتماعي كيفما كان نوعه، حيث إن هذا المفهوم في جوهره مفهوم سياسي ويتسم بقصدية سياسية واضحة لا يمكن إنكارها، أمكننا القول إن المضمون السوسيوسياسي لمفهوم الثقافة الشعبية أمر لا غبار عليه. يعتبر عالم السياسة المعاصر Maurice Duvergerأن الثقافة السياسية هي جملة الملامح السياسية للثقافة، بمعنى تلك المنظومة الثقافية التي تشتغل داخل الحقل السياسي. وما يهمنا بالذات في هذا الاشتغال هو الكيفية التي يتم بها، بمعنى المواقع والأدوار والوظائف التي تضطلع بها الثقافة داخل الحقل السياسي. انطلاقا من هذه التحديدات المفاهيمية، يمكن أن تستخلص ملاحظتين: الملاحظة الأولى: هي أن الأمر يتعلق بثقافات سياسية بصيغة الجمع، لا بثقافة سياسية واحدة. الملاحظة الثانية: هي أن حضور الثقافة أو الثقافة الشعبية في قلب الثقافة السياسية أمر لا غبار عليه، لأن الأمر يتعلق بمجال المعتقدات والعواطف الجماعية لمجتمع من المجتمعات. إن رصد وتحليل هذه العلاقة المعقدة المشار إليها يسمحان بالكشف عن جوانب مهمة من حركية السلوكيات السياسية القائمة داخل الحقل السياسي، بما يتيحه من تفسير لطبيعة المواقف والتحالفات والتعارضات السياسية الجارية؛ لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بتلك التقاليد والأعراف الخفية التي تهيكل المشهد السياسي بصورة ماكرة في أغلب الأحيان. مما لا شك فيه أن هناك ضوابط أو قواعد تنظم الحقل السياسي، أو بعبارة أخرى هناك مرجعية قانونية يحتكم إليها الفاعلون السياسيون داخل حقل نشاطهم الخاص؛ غير أن تشريح الثقافة السياسية التي تهيكل قناعاتهم ومواقفهم وميولهم السياسية، من خلال رصد علاقاتها المعقدة مع الثقافة الشعبية، يكشف عن الكثير من خبايا الحقل السياسي. إذا كانت الثقافة الشعبية تجسد الوجدان الثقافي لشعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات، فإن الثقافة السياسية ذاتها هي الوجدان السياسي للفاعلين السياسيين داخل الحقل السياسي. إنها ما يمكن أن نسميه بمصطلح علم السياسة مسكوتا سياسيا عنه، لا يظهر مفعوله على سطح الأفكار ولا المؤسسات السياسية. وبناء على هذا الطابع الوجداني المشترك بالذات، يصح لنا أن نتحدث عن القرابة بين الثقافتين. ملامح التواصل بين "الثقافتين" وصفاته تنبني هذه المحاولة، رصدا ومعاينة وتحليلا، على ملاحظات أهمها: أولا – تعتبر الثقافة السياسية والثقافة الشعبية، على حد سواء، خزانا طقوسيا ونظاما رمزيا يلتقي جدليا في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي، أي في تلك الصيرورة التاريخية التي من خلالها يعيد مجتمع ما تمثل ذاته بذاته؛ وهو النظام الذي يسهم في تشكيل هرمية خاصة للتراتبيات الاجتماعية والاقتصادية السائدة. ثانيا- تمتاز الثقافة السياسية بحس تواصلي قوي، باعتبارها تنطلق من مشاعر المجتمع وجهازه السيكولوجي الجماعي المرجعي. ومن ثمة نفهم وظائفها التواصلية الفائقة فيما يتعلق بخلق الإحساس بالانتماء إلى أمة أو شعب أو عشيرة أو مجموعة دينية وغيرها. والثقافة الشعبية، على غرار الثقافة السياسية، بما تمتلكه من قدرة طقوسية خارقة، لها كفاءة تواصلية كبيرة؛ لأن التواصل مع الفضاء الاجتماعي يعدّ أحد رهاناتها الإستراتيجية. ثالثا- تنتمي الثقافة السياسية والثقافة الشعبية، على حد سواء، إلى حقل اللاشعور؛ ربما لأن الطابع اللاشعوري هو ما يميز الثقافة بصفة عامة. رابعا- تمتلك الثقافة الشعبية والثقافة السياسية، على حد سواء، ميولا وكفاءات فرجوية، حيث إننا نجد كلتيهما تعشقان الفضاء العمومي وتسهمان إلى حد كبير في تخصيب الخيال الاجتماعي والمدارك الجماعية. ونجد الثقافة الإيديولوجية أو الخطاب الإيديولوجي بدوره يقوم بهذه المهام العمومية، ويمتلك هذه الخصائص الفرجوية؛ غير أن الثقافة الشعبية أو الثقافة السياسية، على خلاف هذا الأخير، ليست شعارات جوفاء أو جاهزة للاستهلاك العام بل أنظمة رمزية وطقوسية مشفرة ومفتوحة ومثيرة لشهية التأويل الاجتماعي العمومي. إن الأمر يقتضي هنا التمييز بين وظيفتي الفرجة العمومية والتعبئة الجماعية. وهذا شرط أساسي في سبيل فهم صحيح للفرق القائم بين ثقافة شعبية / ثقافة سياسية من جهة، وثقافة إيديولوجية من جهة أخرى. خامسا- تمارس الثقافة السياسية والثقافة الشعبية بالقوة نفسها، باعتبارهما ملكية عمومية لمجتمع أو لشعب من الشعوب، وظائف سوسيولوجية أو بالتحديد سوسيو-سياسية تذكرنا بما يسميه Pierre Bourdieu "سلطة رمزية لا ينتبه إليها أحد، لأنها مختفية أو لا مرئية". من هذا المنطلق بالذات، تعتبر كلتا الثقافتين فاعلين اجتماعيين قويين في تثبيت أسس المعادلة السوسيو-تاريخية المعقدة التي يشير إليها بيير بورديو في سياق مختلف تماما عن سياقنا الخاص، باستخدامه لعبة لفظية ذكية، وذلك كما يلي: "Sensus- consensus" أي المعنى – الإجماع/ التوافق. ومما لا شك فيه أن اللقاء بين الثقافة السياسية والثقافة الشعبية يسهم إلى حد كبير في صناعة وهندسة الانسجام المطلوب بين هذا الثنائي المفاهيمي المشار إليه. وفي ذلك بالضبط، تكمن قوته. الثقافة الشعبية في قلب الحقل السياسي تتوغل الثقافة الشعبية بعمق كبير داخل الحقل السياسي، وتؤثر بشكل لافت للنظر على طبيعة الأفكار والمشاعر والسلوكيات السياسية؛ غير أن هذه المسألة تتم ملاحظتها سوسيولوجيا بشكل أوضح في حالة المجتمعات التقليدية. والمجتمع المغربي، على سبيل المثال لا الحصر، يقدم دليلا قويا في هذا السياق. يمكننا رصد مواقع ووظائف الثقافة الشعبية داخل حقل الثقافة السياسية في سياقين: في سياق تحليل الخطاب السياسي، وهو إما تحليل سوسيولوجي أو سياسي أو سيميائي أو غيره؛ في سياق تحليل السلوكيات السياسية المرتبطة به. وفي العادة، يسمح مثل هذا النوع من التحليل بالوقوف على البنيات الثقافية التي تهيكل هذا الخطاب بطريقة واضحة أحيانا ومضمرة أحيانا أخرى. إن المقصود بذلك هو مجموعة من الرموز والدلالات التي تأتي في بعض الحالات مشفرة؛ لكنها تمنح هذا الخطاب بالذات شحنات وجدانية إضافية، تسمح له بإعادة إنتاج ذاته بصورة ديناميكية ومؤثرة. ومن هذا المنطلق بالضبط، نفهم هذا التعايش العاطفي بين الثقافة الشعبية وبين الثقافة السياسية، وبالتالي نفهم لماذا يجد رجل السياسة نفسه مضطرا للاستعانة بالخصوبة الرمزية والإيحائية للثقافة الشعبية، ومنساقا أحيانا أخرى بصفة لاشعورية وراء غوايتها اللذيذة التي يفشل "العقل السياسي" في مقاومتها والتصدي لها. تنفتح شهية رجل السياسة على عوالم الثقافة الشعبية، لأنه يعثر بداخلها على مادة عجائبية وملحمية غنية جدا، وهو يستثمرها في إشهار برنامج سياسي أو انتخابي، وفي الترويج لمواقف سياسية أو تبرير أخرى؛ غير أن هناك شيئا له أهمية قصوى في خضم هذا الاستثمار هو أن عوالم الثقافة الشعبية ومادتها الرمزية الغنية أداة تواصلية قوية جدا، وهو ما يجعل منها أسلوبا متميزا لممارسة الإقناع واستخدام كافة أنواع الحجاج والسجال ضد الخصوم السياسيين المفترضين. يسمح لنا هذا التحليل كذلك بالوقوف على الكيفية التي يقترح بها خطاب سياسي أو آخر الحلول المفترضة لحل القضايا أو المشاكل السياسية المطروحة، وبالتالي نوعية المرجعية الثقافية التي تستند إليها هذه الاقتراحات أو هذه الأفكار السياسية. وهذه المسألة مهمة جدا على المستوى السوسيولوجي والسيكولوجي، من أجل فهم الأعراف والطقوس، التي يحتكم إليها الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون داخل الحقل السياسي. غايتنا من هذا البحث عن علاقة الثقافة الشعبية بالثقافة السياسية هو ما يلي: أولا- تفسير السيرورة السيكولوجية والسوسيولوجية التي من خلالها يتحول المعتقد الشعبي إلى قوة وجدانية محركة للمعتقد السياسي وميوله التخيلية التي تختفي في العادة وراء ستار العقل العملي؛ وهي القوة الوجدانية الجارفة التي تذكرنا بتلك القوة الخارقة التي يسميها Régis Debray في سياقات تحليلية مختلفة "Le mytho- moteur". ثانيا- المساهمة في تحليل سوسيو-سياسي للسلوك السياسي الذي من خلاله يتبادل الفاعلون السياسيون علاقات خاصة جدا. يكتسي هذا النوع من التحليل أهميته، فيما يتعلق أيضا بالكشف عن هوية العلاقات السائدة داخل الحقل السياسي، وبالتالي رصد المرجعية الثقافية التي تحتكم إليها التحالفات والخصومات السياسية الجارية، كأن نتساءل مثلا: لماذا يتحالف هذا الفريق السياسي مع آخر، ولماذا يتعارض مع ذاك؟ ولماذا تنقلب علاقات الود والمحاباة إلى علاقات عداوة وحروب سياسية، قد تبدو تافهة وسطحية أحيانا؟ والعكس صحيح أيضا. يساعدنا هذا النوع من التحليل كذلك في تفسير معايير الانتماء والولاء السياسيين، سواء بالنسبة إلى الأفراد أو بالنسبة إلى الجماعات السياسية أو التشكيلات الإيديولوجية المختلفة، بمعنى فهم المقاييس التي يعتمدها هؤلاء في اختياراتهم وانتماءاتهم السياسية. من المؤكد أن معايير الولاء أو الانتماء السياسي لها أصول سوسيولوجية متنوعة "سوسيو-لسانية – دينية – قبلية – مهنية – اقتصادية عائلية – عقلانية إلخ.....". ويعتبر هذا النوع من التحليل، بمعنى تشخيص الفعل السياسي وتفسيره تفسيرا ثقافيا، دالا بالنسبة إلى السوسيولوجيا، في بحثها عن مفاتيح الفعل الاجتماعي، كما تصوره وأراده مؤسسوها الأوائل. يتعلق الأمر، في ضوء الرؤية المعتمدة في تحليل الموضوع، بالمرجعية الثقافية التي يستقي منها الفاعلون السياسيون شرعيتهم السياسية، بمعنى كيفية "تبنين" السلطة السياسية؛ غير أن هناك شيئا آخر يكتسي أهمية بالغة هو كيفية "تبنين" السلطة الاجتماعية ذاتها، لأن الأمر يخص أيضا الكيفية التي من خلالها يتم انضمام الفاعلين الاجتماعيين بدورهم إلى الحقل السياسي أو ابتعادهم عنه أو انسحابهم منه. وفي هذه الحالة، يمكن القول إن استحضار المرجعية الثقافية للمادة السياسية، فكرا وفعلا، يقدم إفادات مهمة جدا للتحليل السوسيولوجي، في مقاربته الخاصة للفعل الاجتماعي. إن أهمية التصنيف الفيبيري الشهير للمشروعية السياسية يأتي بالذات من وعي ماكس فيبير الدقيق بأن السلطة السياسية تستمد قوتها وفاعليتها، ليس فقط من نوعية المؤسسات السياسية والاقتصادية السائدة، وقوة الأجهزة الإيديولوجية التي تعمل على تثبيتها على أرض الواقع؛ بل بالضبط من نوعية المرجعيات الثقافية المعيارية الراسخة في النسيج الاجتماعي للمجتمع. تكمن أهمية هذا التحليل في إحالته على سياقين جوهريين: أولا- في أن تفسير وتحليل الخطاب السياسي، وبالتالي تفسير جملة الأفعال السياسية التي تقترن به، يقتضي النظر إلى هذا الخطاب من الخارج، أي من خارج الحقل السياسي. ثانيا- في أن أصل السلطة السياسية أصل ثقافي في المقام الأول. إن البحث عن الجسور التواصلية بين الثقافة الشعبية والثقافة السياسية، أو بصيغة أخرى البحث عن آثار أو مواقع أو وظائف للثقافة الشعبية في قلب الحقل السياسي، خاصة في حالة المجتمع التقليدي، وسيلة أساسية من وسائل رصد الكيفية التي يعمل بها التقليد داخل الحقل الخاص بالحداثة. فالأمر يتعلق في هذا الجسر التواصلي المفتوح على كل الاحتمالات التبادلية الممكنة، وبالكيفية التي حاولنا تشريح مفاصله السياسية والسوسيولوجية، بكل التقاطعات الثقافية التي يلتقي عندها بكيفية غير واضحة في غالب الأحيان، وجدان ثقافي تقليدي له زخم سيكولوجي وسوسيولوجي قوي، بعدد هائل من الأفكار والمعتقدات والقيم التي يتشكل منها الحقل السياسي الحديث. *أستاذ باحث - جامعة محمد الأول بوجدة