ينبني هذا العمل المتواضع على معاينة تتبعية تستمد منها شرعيتها بشكل كبير. فمما لاشك فيه أن مضمون هذه المعاينة يتحدد في أن ثمة تراكما معرفيا من الأهمية بمكان؛ يثير فضولا علميا، حصل منذ أمد في الممارسة الفكرية، وكذا السوسيولوجية، لأستاذنا الدكتور محمد جسوس. والحال أن هذا التراكم المعرفي، وهذه الحصيلة من الكتابات، والخلاصات، والاستنتاجات الأساسية الغنية في مبناها معناها لم يواكبها؛ في تقديرنا، قراءات تركيبية مقصدها استيعاب هذا الاجتهاد في حيثياته؛ وخطوطه العريضة، واستعراض المحاور الكبرى والطروحات المركزية للعمل السيوسيولوجي لدى الأستاذ محمد جسوس؛ وما وسمه من معاناة مبعثها قلق البحث وحرارة التساؤل... من هذه المعاينة إذن تتأسس مشروعية محاولتنا هاته وتنبني معها هذه المساءلات: 1. أية زاوية تقدرنا على الإطلالة على فكر محمد جسوس السوسيولوجي؟ 2. هل بوسع إسهام متواضع كهذا رسم صورة منصفة؛ إن لم نقل موضوعية، لمفكر، وباحث، وموجه، ومناضل من حجم محمد جسوس يؤكد بانتظام بأن العمل الثقافي لن يكون كذلك إلا إن أحدث قطيعة مع الأحلام، والإنشائيات المكتبية، والرومانسية ليضحى التزاما مبدئيا، ومعاناة حبلى بهموم اليومي؟ 3. هذا من جهة ومن جهة ثانية كيف ينظر محمد جسوس للقضايا السوسيولوجية الكبرى كمسألة التغير الاجتماعي1 والإشكاليات الساخنة فلسفيا وسوسيولوجيا نحو قضية التراث؛ والتفكير في الحداثة، والديمقراطية، والثقافة، ومآل المجتمع المغربي على الخصوص؟ بوسع المتتبع للإنتاج الفكري لدى محمد جسوس أن يتبين بأن المقدمة الأساسية للممارسة السوسيولوجية لديه هي الملاحظة. فالملاحظة كتقنية هي مرحلة أو قل إنها اللبنة المركزية في أي عمل ينشد العلمية ويتوخى الموضوعية قدر الإمكان؛ على اعتبار أنها تمدنا بسلسلة من الفرضيات تكون قابلة للاختبار باستمرار، وتثير فينا اليقظة الإبستمولوجية التي تشحذ روح الحذر والحيطة من الإطلاقيات المثالية والتوجهات الدوغمائية التي تشكل عوائق فعلية أمام القبول بلا نهائية الأحكام والإقرار بنسبية الأحكام، والمقاربات، والاستنتاجات. من ثمة، فتظافر الملاحظة والفرضيات يمكننا بشكل كبير من المساهمة الفعالة في إعادة تشييد الواقع السوسيولوجي باستمرار ليغدو توليفا بين الذات والموضوع؛ وعند ذاك يحق لنا حسب محمد جسوس التساؤل عن مدى إجرائية كل الأشكال النظرية من بديهيات، ومسلمات،وإحساسات، وقوانين، وتوجيهات عامة.وكل أشكال»الخردة» المعرفية المعروضة في السوق الفكري على حد تعبيره2. وتأسيسا على هذه المعطيات نتساءل : كيف وظف محمد جسوس الملاحظة كتقنية سوسيولوجية لرصد بعض التحولات التي تطبع المجتمع المغربي؟ وما هو ميلها المحتمل؟ ثم ما هو تأثيرها على نسق التصورات الاجتماعية، والأنماط السلوكية، والمعايير الاجتماعية وبالتالي على نسيج الثقافة السائدة؟ وأخيرا ما هي الإرهاصات والنتائج الأولى لهذه التحولات على صعيد الخريطة السوسيو أنثروبولوجية؟ في سياق إجابته عن هذه التساؤلات ينطلق محمد جسوس من ملاحظة هامة مؤداها أن هناك فعلا تحولات هيكلية عميقة يشهدها المجتمع المغربي؛ وهي تحولات تمس كافة البنيات الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية. ويمكن تلخيصها في النقط الآتية: * ظهور حركيات اجتماعية بشكل كبير واكبها بروز شرائح وفئات اجتماعية جديدة من أهم سماتها الهامشية؛ والعدمية في تصوراتها، وأفكارها خصوصا فيما يرتهن بالصراع الاجتماعي، والثقافي، و الإيديولوجي. * تسارع سيرورة الهجرة القروية بشكل إطرادي ومذهل في ذات الوقت وانعكاسات ذلك السلبية على شكل المدينة عبر النمو السرطاني لأحزمة البؤس وما واكب ذلك من مهن سفلى وأنشطة طفيلية، واستفحال الإجرام، واللصوصية... تكديح المرأة واستغلالها المضاعف؛ وبروز مراكز حضرية صغرى إلى حيز الوجود ساهم في ظهور إنتاج صناعي كالأوراش الميكانيكية بالإضافة إلى تربية الدواجن وتشجيع التعاونيات الحليبية... وحرف صغرى. كل هذا له تأثيره الكبير وفعله القوي على البادية والمدينة معا3. * تحول الأنماط التقليدية للتبعية إلى نمط بيروقراطي جديد سمته التعقيد بحيث يفصح عن نفسه من خلال المحسوبية المتعددة الأوجه؛ والعلاقات الزبونية المتنوعة الأشكال. * انزلاق التضامن العائلي والرحمي، وانشطار العلاقات القبلية، وتقلص الأدوار البطركية التقليدية؛ وتفكك التضامن الميكانيكي ليفسح المجال أكثر فأكثر لتضامن ذي طبيعة جديدة؛ ومن صنف مغاير يحدث على المستوى الرمزي؛ بحيث أن من بين نتائجه بروز الفردية في السلوكات، والانعزالية، والتقوقع الذاتي في نمط الحياة بالإضافة إلى ظاهرة النسائية جراء اختفاء دور الأب بشكل ملفت للنظر. * انوجاد أنماط إنتاج مختلفة ومتضاربة فيما بينها: داخل الأسرة، وفي السلوكات، والإنتاج، والصحة، والتعليم، والتصنيع، وتفاحش ظاهرة الاستعمار الداخلي الناجم عن استغلال المدينة للبادية؛ وتفاقم عصرنة القطاع العصري، وتقلدة القطاع التقليدي. كل هذا يثير الاستفهام التالي: هل نحن فعلا أمام نمط إنتاج موحد ومتجانس أم أننا على خلاف ذلك أمام مجتمع مركب ومزيج؟4 لكن ماذا أفرزت هذه التحولات، وهذه التعددية؟ وما تأثيراتها على التصورات الاجتماعية بما في ذلك ثقافة الأفراد والجماعات؟ وكيف استجاب النسق الثقافي المغربي لهذا التحول؟ يتناول محمد جسوس هذه السلسلة من التحولات من خلال الثقافة السائدة في المجتمع، وأيضا من خلال تصورات الأفراد عبر الارتكاز على قراءة تشخيصية، ومنهج تشريحي للنسق الثقافي المغربي. إن الثقافة بالنسبة لمحمد جسوس هي نسق من التصورات والمعتقدات، والنماذج السلوكية، والإحساسات التي يستجيب بها الإنسان للعالم المحيط به .فهي التي تلعب الدور الريادي في توجيه تصرفاته، وردود فعله الواعية واللاواعية. يقول محمد جسوس:» إن مفهومي للثقافة هو مفهوم واسع، نستعمله عادة في كل الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية. فما أقصده بالثقافة هو ذلك التركيب المتداخل الذي يتضمن مجموعة من التصورات، والمعتقدات، والرموز، والنماذج السلوكية، والأنساق الرمزية والإحساسات والعواطف والقيم التي تمارس، بالنسبة للإنسان، وبالنسبة للمجتمع مجموعة من الوظائف...وظائف أنثربولوجية (أي بالنسبة للإنسان) ووظائف سوسيولوجية (أي بالنسبة للمجتمع)، وبدون وجودها يقع اختلال في إنسانية الإنسان، وبدون وجودها يفقد المجتمع الكثير من فعاليته»5. نستفيد من هذا النص بأن الثقافة هي ما يجعل الإنسان إنسانا عاقلا متميزا بالوعي والتفكير الذي يضفي معنى معينا على المحيط وعلى مختلف إنتاجاته. فالثقافة تلجم الإنسان وتعقله بضبط نوازعه النفسية وتنظيم علاقاته الاجتماعية فضلا عن كونها توجهه بغاية مجابهة كل تحول محتمل؛ ومن ثمة فعاليتها كأداة من أدوات الصراع الطبقي والاجتماعي(بدون وجودها يفقد المجتمع الكثير من فعاليته)6. النسق الثقافي في المغرب نسق متعدد ونستطيع مع الأستاذ محمد جسوس التمييز بين الأشكال التالية علما بأن قاعدتها المشتركة هي التفكك، والتضارب، والانسجام: 1. ثقافة النخبة: هذا النموذج من الثقافة يتميز بكونه يسقط الخلاصات والاستنتاجات على النسق الثقافي ككل؛ وغالبية أطروحاتها عموميات فضفاضة تسقط من حيث لا تدري في منزلقات ابستمولوجية ونظرية خطيرة. إنها ثقافة غريبة عن الواقع الاجتماعي المغربي، ومع ذلك تطوع النظريات البرانية كرها وبدون مقياس ولا معيار داخل واقع مغاير7 معتقدة في إجرائيتها وصلاحيتها من غير نقد لأسسها، ولمفاهيمها، ولمدى إمكانية تبيئتها؛ إذ غالبا ما تعتبر هذه النظريات نظريات كبرى صالحة لكل زمان ومكان ولربما هذا ما يجعل تخريجاتها، ونتائجها وخلاصاتها متسمة بالخلط، والاضطراب، والميكانيكية السهلة. 2. الثقافة المخزنية: وتتحدد في تصورات رجل السلطة حول المجتمع ، ومفهوم المسؤولية لديه، وعلاقته بالمواطنين(...)8 3. ثقافة الأوليغارشية: وهذا الصنف يشمل ثقافة الأوليغارشية الكلاسيكية كأفكار العلماء، والنظريات الفقهية وتصورات الأعيان، والوجهاء وشيوخ الزوايا والشرفاء(...) 4. الثقافة الاستعمارية: وتتضمن هذه الثقافة تلك الحمولة من الأفكار التي كانت تروج في أوساط العسكر، والمخابرات العسكرية الاستعمارية. إنها ثقافة، كما يذهب إلى ذلك محمد جسوس، ارتبطت بالنسبة للمغرب بحركة اليمين المتطرف الأوروبية؛ وبعلاقاتها الوطيدة مع الحركة الفاشية خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.9 5. الثقافة الوسيطية: وتنتجها تلك الأجهزة والمؤسسات التي غالبا ما تكون حلقة وصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وتجدر الإشارة إلى أن دور هذه الأجهزة ما انفك يتعاظم ويتسارع خصوصا في العقود الأخيرة. 6. الثقافة الشعبية: وهي الثقافة الجماهيرية الطلائعية، بكل تجلياتها وتعابيرها، بما فيها الإيديولوجيات الصامتة التي خضعت منذ أزمان لتشويه فظيع من لدن الأبحاث الإثنولوجية الاستعمارية التي اعتبرت كل إنتاج شعبي؛ وكل تصور جماهيري فولكلورا للتسلية ليس إلا؛ غير مرتبط بالقاعدة السوسيواقتصادية التي تفرزه باستمرار. إن الثقافة الجماهيرية تضم التراث الشعبي: الزجل والأغاني والملحون والحجايات واللغة اليومية الدارجة... النسق الثقافي في المغرب يتشكل من هذه الأصناف الثقافية المختلفة، ومعلوم أن الأستاذ جسوس يرى بأن عدم الانطباق وغياب الانسجام هو الميزة المشتركة بينها. وسمة التضارب هاته تعتبر مؤشرا هاما لأزمة الثقافة في المغرب. يقول في هذا الصدد: « ليس هناك تماثلا بينها(يعني المكونات) ولا في توجهاتها، ولا في مضامينها، ولا في ما يمكن أن تحتويه من حركية ومن قدرة على التجاوز، أو من قدرة على شل حركية الواقع».10 إن هذه الأزمة في حد ذاتها، وفي بعدها العام؛ تعبر عن نفسها بشكل مقنع وعبر لوينات مختلفة وطرق ملتوية: في أشكال المعاملات، وردود الأفعال الشعبية، والمواقف، والمسلكيات... ويكفي أن نتمعن في القاموس الشعبي المتداول في اللغة الدارجة لنرى كلمات مثل: الحيالة، التنوعير، الهمزة، التسنطيحة، التقزدير... ومن غير شك أن هذا الاختلال الحاصل في النسق الثقافي المطبوع بالتفكك، والمأزوم كذلك تمخض عنه سلسلة من الانهيارات الخطيرة، بحسبان أنها ساهمت في خلخلة عدد لا يستهان به من القضايا التي تعتبر ساخنة لمركزيتها في المجتمع العام. ويمكننا تصنيف هذه الانهيارات في ما يلي من النقط : * ظهور خلخلة فيما يتعلق بالمفاهيم الثقيلة، والمقولات الكبرى للمجتمع ككل والتي هي في الواقع مكسب هام كالوطنية، والمصلحة الوطنية، علما بأن هاتين المقولتين شكلتا في التاريخ الوطني نوعا من العصبية عبأ طاقات خلاقة فكان لهما مفعولهما القوي على الخصوص غذاة معركة التحرير الوطني. * خلخلة في المقولات التي شكلت المطالب الشعبية منذ أمد كالشغل، السكن، النقل، العلاج الصحي، والكرامة... فهذه المقولات لم يواكبها حسب جسوس تطور شمولي بنيوي، أي تطور من نمط مجتمعي إلى نمط آخر، بل كل ما واكبها هو تسارع عملية التقلدة وتسارع سيرورة التفكك. * تسارع عملية الانفصام والانفصال بين مختلف الفعاليات الثقافية الأساسية في المجتمع المغربي وإن شئنا لقول في الإطارات، والنظم، والأنساق المرجعية(الحلال والحرام،الشرع...) والدين الإسلامي، والتقاليد، والمعتقدات الشعبية، والعقائد، والأفكار، والرموز(...) والأمثلة عديدة، ومتنوعة في هذا المجال، إذ ما نراه حراما ومدنسا حسب الدين قد يكون مسموحا به في مجال آخر غيره.11 وبوسعنا ملاحظة ذات الأمر إذا تأملنا المجال الأخلاقي. فالميتافيزيقا واللاهوت لا تزالان منظومتين مرجعيتين موجهتين؛ ومن ذلك أن الخير والشر ينظر إليهما عموما من زاوية التقسيم الثنائي المانوي الاختزالي اللاجدلي: الشر عيب. فلا ينظر إلى الشر بوصفه شرا في حد ذاته، وباعتباره فعلا لا يطابق العقل والمعقول، كل ما هناك يتم اعتبار الشر «حشومة» وكفى. * يكمن اختلال النسق الثقافي المغربي في انوجاد إرهاصات من الفكر العلمي الذي يسعى إلى البحث عن معقولية الأشياء، وإضفاء طابع النسبية على الظواهر المختلفة، جنبا إلى جنب مع أصناف الغيبيات اللاعقلانية المكرسة للاستسلامية، والاتكالية، والمهدوية، والحنين إلى الماضي. إن هذا النمط من التفكير يذهب إلى اعتبار المجتمع، والتاريخ، والكون ظواهر تسير على هدي قوي متعالية عن البشر. * ومن الاختلالات الأساسية في النسق الثقافي المغربي تنامي ما يمكن نعته بظاهرة التسيب الثقافي الذي لا يقر بالمرجعية بل لا يعتبرها ضرورية مما يجر إلى القول بأن هذا النوع من الثقافة يتلألأ بالنور الشاحب للمثل الشعبي « أولاد عبد الواحد كلهم واحد». هكذا إذن نلاحظ أنواع الخلط والاضطراب بين مختلف مكونات النسق الثقافي التي تم استعراضها، ومعلوم أن هذا الاختلال البنيوي؛ وهذا التفكك هو ما وسمه محمد جسوس بالأزمتولوجيا. ومرد هذه الأزمتولوجيا إلى عدم قدرة التاريخ، والمجتمع المغربي على إبراز مشروع ثقافي، وحضاري مستقبلي، مبني على التفتح، ومفتوح على المستقبل، ويحظى بما يكفي من السند، والدعم من لدن مختلف المكونات الأساسية للمجتمع المغربي. 12 ويستطرد محمد جسوس قائلا:» نحن أمام نوع من المشروع الثقافي الضمني الذي هو واقع لا يمكن أن يتحول شيئا فشيئا إلى ثقافة وهذا ما أسميه ثقافة الأزمة».13 الأزمتولوجيا ظاهرة ثقافية واجتماعية طفقت تربو بشكل سرطاني. لقد أضحت ترعى بين أحضانها النظرة الستاتيكية للتاريخ؛ وتفرخ مختلف أشكال الوصولية، والانتهازية، والنفاق الاجتماعي، والانهزامية، والسلوك الزئبقي، والقزمية الفكرية، والهروبية التي من بين تجلياتها الثقافة الخبزية و العدمية واللامبالاة. وبناء على كل هذا يتساءل محمد جسوس: أما العمل أمام هذه الوضعية، وضعية التشتت والأزمة؟ إنه من أجل تجاوز حالة الأزمتولوجيا وكل إفرازاتها يلح الأستاذ جسوس على تبني العقلانية لا كفلسفة وتصورات نسقية مجردة، وإنما كتعبير عن حاجة ملحة، وضرورة وجودية، وتبني التحديث المناهض لسيرورة التقلدة، فضلا عن الديمقراطية بما هي اختيار فعال لا غنى عنه. إن العقلانية العليا التي يدعو إليها محمد جسوس صيرورة تاريخية تسمح لمعذبي الأرض ، وللإنسان المقهور بالتغلب على الصعاب للحصول على الامتياز التاريخي والحضاري الذي لا مندوحة منه، بحيث يقتضي تطبيقها في مختلف الحياة الاجتماعية: في مكونات العيش، ومجالات الإنتاج، والإدارة، والقانون، والمعاملات السياسية؛ وتمس مختلف المؤسسات الاجتماعية، وكل الممارسات المعرفية، والعلمية والتكنولوجية؛ بل وتمس في نهاية المطاف حتى المجالات القيمية، والدينية، وتعامل الإنسان مع المقدس، ومع المثل، والقيم العليا، بحيث يفترض أن العقلنة تهم حتى مجالات الأخلاق، والمعتقدات... على أن هذه العقلانية العليا تقتضي الانطلاق من مقدمات منطقية تؤكد بأن العالم يخضع منذ وجوده لنظام منطقي؛ ومستقل عن الذات استقلال موضوعيا لا دخل فيه لقوى الغيب. العالم في الاختيار العقلاني ناهض على قوانين منطقية يلزم اكتشافها عن طريق البحث العلمي المسترسل. من ثمة فإنه يغدو قابلا للقياس؛ والدراسة العلمية الموضوعية، وخاضعا لسلطان العقل. وتأسيسا على هذا فإن ما يظهر معتما وغير واضح الآن لا يدخل في عداد الأسرار والألغاز التي لا حل لها؛ والتي تتحكم فيها قوى اللاعقل والشعوذة وإنما من منظور العلم الوضعي سيكون قابلا للمعرفة في المستقبل. فلا شيء إطلاقي البتة. ولا شيء مقدس. ولا شيء سرمدي في الوضع البشري. ولا شيء بوسعنا اعتباره قدرا تاريخيا محتوما ومتعاليا عن الشر. إن الظواهر الكونية توجد وجودا مستقلا عن الإرادة الإنسانية؛ وعن الذات العارفة بكل همومها ومكبوتاتها وتصوراتها. يلزمنا إذن فرض العقلانية بوصفها سلوكا ومعاملات وباعتبارها مواقف واختيارات للدفع بها إلى أقصى حد ممكن لأنها تشكل نمط المعرفة الجديدة المرتكزة على قاعدة تقويض النمط اللاهوتي للمعرفة. كما يلزمنا، زيادة على ذلك، الانفتاح على تجربة الحضارة الغربية للاندماج فيها نظرا لكونيتها وشموليتها. ليست الحضارة في ملك الغرب بقدر ما هي في ملك من قرر الاندماج فيها والعمل داخلها... اختيارنا الوحيد... يقول محمد جسوس هو الاندماج في التاريخ بكل مكوناته، ومجابهة سلبياته، ومحاولة فرض ما لنا من قيم واختيارات. أما ما عدا ذلك فهو الظلام المطلق، والتحطيم بدون بناء وهو بالمحصلة تكريس للأوضاع الراهنة. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الأطروحات التي صاغها الأستاذ جسوس تختلف بكثير عن الدعاوى التحديثية اللاتاريخية التي تروج في الفكر العربي الحديث والمعاصر، والتي دافعت بحرارة عن مشاريع نهضوية تتبنى تاريخا آخر غير تاريخ الشعب العربي الفعلي؛ ذلك أن محمد جسوس يدعو العرب إلى المزيد من الارتباط بالهوية القومية، و الحضارية، وبضرورة قراءة التراث العربي الإسلامي بعيدا عن الهرطقة والسجال اللذين يغتالان العقل العربي14؛ وبعيدا عن كل تراثوية خصوصانية سلفية تكرس التقلدة والإقطاعية المتخلفة التي تشيئ الإنسان؛ وتستعبده، وبعيدا عن كل شوفينية تسترسل في التنويه بالذات وتقريضها. وهكذا فالإنسان العربي مدعو إلى التعرف على تراثه وملزم في الوقت نفسه بالتعرف على التراث الغربي لأجل تملكه في تعدديته من دون العمل على تحويل هذه القراءة إلى قيم عليا إطلاقية بحسبان أن هذا الماضي قد يكون عامل تحفيز وتطوير، أو عامل شل وعجز... تقتضي استعادة التراث تصفية حساباتنا المعرفية معه عبر تعريته في أفق ضبط ميكانيزماته، وفضحها بتشريحها على غرار ما يتم في التحليل النفسي15 ليتم تحرير الإنسان العربي؛ هذا الإنسان الذي كلما حلم أو تحدث إلا ويكون كلامه مثقلا بشكل كبير بماضيه وتراثه؛ الشيء الذي يجعل الحقائق مشوهة ومحرفة؛ والخطاب خطابا سجاليا عقيما، وانفعاليا، وعاطفيا في حيثياته وفي نتائجه وتحريجاته. وأخيرا نصل إلى الاختيار الثالث في خطاب محمد جسوس السوسيولوجي؛ إنه الاختيار الديمقراطي. ومعلوم أن الديمقراطية تطرح لديه كقيمة حضارية سامية؛ وكضرورة تاريخية ملحة قصد تجنب كل أشكال احتقار الإنسان؛ ومن أجل المحافظة على كرامة الإنسان العربي وإنسانيته. إن الإنسان العربي أحوج من غيره إلى اللباس؛ والعلاج؛ والتمدرس وضمان الحرية. إنه في حاجة إلى الاستثمار والتجهيز... وطبيعي أن هذه المطالب الاجتماعية لن تحقق إلا عبر دمقرطة العلاقات الاجتماعية وعليه فالديمقراطية ضرورة تاريخية لتأسيس تاريخ التقدم والتحرر وازدهار الإنسان. هوامش وإحالات 1. مداخلة محمد جسوس في ندوة:»عن التقليد والتخلف التاريخي«مجلة «بيت الحكمة»، العدد الأول1986، بمشاركة عبد الله العروي، عبد العزيز بلال،ومحمد جسوس، ص155.. 2. يصنف محمد جسوس النظريات التي تهتم بالتنمية والتغير الاجتماعي إلى أربع نظريات ذات جذر مشترك وهي: نظرية التحديث ونظرية الامبريالية ثم نظرية الخصوصانية وأخيرا النظرية الكارثية، انظر: الديمقراطية كضرورة حضارية حوار مع د. محمد جسوس أجراه الأستاذ الدكتور محمد سبيلا، مجلة »الوحدة«، العدد 50 نونبر 1988، ص ص: 171- 172. 3. محمد جسوس: التطورات... مرجع مذكور، ص 49-53 و التنشئة الاجتماعية للطفل المغربي، مجلة: الدراسات النفسية و التربوية، العدد 01، يناير 1982، الطبعة الثانية1985، ص ص : 52-54. 4. محمد جسوس: ثقافة الأطفال وثقافة الأمهات في الوسط الشعبي المغربي، مجلة الدراسات النفسية والتربوية، العدد الخاص بثقافة الطفل بالمغرب، ص:33. 5. مجلة» بيت الحكمة» العدد:03 أكتوبر 1986، ص 51. 6. محمد جسوس: من أزمة الثقافة إلى ثقافة الأزمة، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد :224، ص4. 7. نفسه، ص :4. 8. محمد جسوس: التطورات العائلية..مرجع مذكور، ص :49-53. 9. محمد جسوس: مسألة السلطة مسألة مجتمعية، الملحق الأسبوعي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد : 134، ص:2. 10. عبد اللطيف اللعبي: قصائد تحت الكمامة، انظر المقدمة، منشورات البديل. 11. محمد جسوس: من أزمة الثقافة...م.م ص:5. 12. محمد جسوس: جدلية العقلنة والعقلانية، مجلة» الوحدة» العدد : 51، دجنبر 1988، ص :38. 13. محمد جسوس: من أزمة الثقافة...م.م ص: 01. 14. محمد نفسه، ص:1. 15. نفسه. 16. نفسه. 17. محمد جسوس: جدلية...م م .ص:32. 18. يرى المحلل النفسي جاك لاكان بأن الجانب التقدمي في التحليل النفسي يكمن في كونه يسعى إلى تحرير الفرد من القيود المرضية والعقد النفسية باعتبارها المسؤولة الأولى عن شل عمليات تفكيره ولأنها تحول دون ممارسة لحياته بشكل طبيعي وسليم. (*) باحث سوسيولوجي - المحمدية -