ألاحظ في كل سنة أن عددا كبيراً من النساء اللواتي يزرن عيادتي يدخلن في حالة اكتئاب أو قلق حاد بمجرد اقتراب حلول الأعياد الدينية أو بعد انقضائها ويقصصن علي ما وقع لهن من مواقف وأحداث متقاربة ومتشابهة جداً؛ وما هي في الواقع إلا نتاج تراكمات مشاكل ونزاعات كثيرة على مدار سنوات عديدة، وغالباً ما تنفجر في مناسبات الأعياد. إليكم ملخص أحد الحوارات التي تعبر عن تلك المعاناة وطبيعة المشكلات الزوجية المرتبطة بالأعياد: -الزوجة: هادْ العام نْعَيْدو عند والِدِيَ ان شاء الله -الزوج: لا غَدي نْعيْدو كِديما عند والِدِيَ -الزوجة: وْعْلاش ديما عْند وَلِديكْ؟ -الزوج: حيتْ هَكا وْخوتي كلهم غَدي يْجيوْ -الزوجة: وحتى أنا خوتي غَدي يْجيوْ وْتْوْحْشْتهم - الزوج: المرأة ديما كتْبعْ راجلْها -الزوجة: وْعْلاش اختك راجْلْها كَيتْبعْها كل عام وكيْعَيْدو عند بَاكْ؟ -الزوج: اختي بْعيدَ عْليك وما تْصْدْعِيلِيَشْ الرَّاسْ - الزوجة: وعلاش مانْعَيْدوش بوحَدْنا فْدارْنا ومنْمشيوْ لا عْندْ واليديك لا عْندْ والْدِيَ؟َ - الزوج: غَدي نْعَيْدو عْندْ والِدِيَ وْصافي هكذا ينشب النزاع والشجار في معظم العائلات المغربية. من أين أتت "فريضة" أن يُقضى العيد عند آباء الزوج وليس العكس؟ هناك عدة أجوبة سأحاول تلخيصها في النقاط الآتية: أ- في الثقافة المغربية يعتبر الزوج الذي يلبي رغبات زوجته في الوقت نفسه "راجْل واشْ مْنْ راجْل" من طرف عائلة الزوجة و"ماشي راجْل هاداك مْرْتو جَرَّاهْ بْحال النَّعْجَة" أو "ساحْرالو ومْوْكْلاه" من طرف عائلة الزوج.. لهذا وليبرهن الزوج أنه "راجْل"، وأنه يقود الباخرة، "يجر" زوجته دائماً لقضاء الأعياد عند والديه. ب- عدم المساواة بين الزوج والزوجة والتربية المغربية يفرضان على الزوجة طاعة زوجها ويعطيان للزوج السلطة عليها. ج- في مجتمعنا يَعتبر الآباء أن الفتاة ليست لهم لأنها في النهاية سوف تتزوج وتكون مِلكا لزوجها ومحسوبة على عائلته، ومن العار أن تطلق وترجع إلى بيت أبويها؛ ولهذا نسمع هذه العبارة التي تعبر عن تفضيل الابن على الابنة في مفهوم التبعية العائلية: "هَداك ْولْدي وغَدي ْيوْلْد وْلادْ بْسْميْتي، أما البنت غَدي تْبعْ راجْلْها وتْوْلْد وْلاد مشي بْسْميْتي". أمر خطير أن يميز الجدّ بين أحفاده من ابنه الذين يحملون اسمه ومن ابنته لأنهم يحملون اسم أبيهم.. نلاحظ أن أب الزوجة يعتبر أن من الطبيعي أن تقضي ابنته الأعياد في بيت أب الزوج، ولا يغضب عليها، عكس ما إذا أمضى ابنه العيد في بيت أب الزوجة؛ وهذا فعلاً أمر خطير.. كيف للآباء أن يغضبوا على الابن وليس على الابنة؟ فهل حبهم لابنهم يفوق حبهم لابنتهم؟.. حقاً إنه لأمر عجيب يدهش العقول! وأي نموذج لحب الآباء لأبنائهم نقدمه في هذه الحالة لأطفالنا ذكوراً وإناثاً؟.. الأطفال يضطربون من هذا المشهد الذي لا يتقبله فكرهم البريء والمنطقي؛ ما يُسبب لهم اضطرابات مرعبة تهز ثقتهم في أنفسهم، وبالخصوص لدى الطفلات. أي عدلٍ هذا أن تُحرم الزوجة من قضاء العيد عند والديها ويفرض عليها قضاؤه عند عائلة زوجها؟ هذا الظلم يكون سبباً في الصراع والشجار بين الزوجين. ويتشبع الأطفال للأسف بهذا النموذج فيعيدون إنتاجه في مستقبل حياتهم الزوجية. إلى متى يستمر مجتمعنا على هذا النهج الذي يهدم مستقبله؟..يست كل العادات والتقاليد مفيدة لبناء مجتمعنا؛ بل يجب أن نعيد النظر فيها ونترك البالية الهادمة منها، ونشجع التي تحمي كيان الأسرة والطفولة. إن الشجار بين الزوجين، الناتج عن ظلم المجتمع عادة ما يدوم عدة أسابيع وأشهر، ويتسبب في أمراض نفسية لدى الزوجة، ويخلق وضعية مزرية لاستقرار العائلة بأكملها. من الطبيعي أن يشعر الأطفال بأنهم أقرب إلى أجدادهم من جهة الأم أكثر من جهة الأب، ويطرحوا دائما هذا السؤال: "عْلاشْ مَنْمشِيوْشْ عند لْمِّيمَة"، فيكون رد الأم "بابَكُم مَبْغاش".. وإذا طرحوا السؤال نفسه على الأب يكون الرد: "سيدي غَدي يْغضْب". أي منطق يتقبل هذه الأجوبة الخطيرة لتكوين طفل متوازنٍ في منطقه وذهنه؟ وأي نموذج زوجي نقدمه للطفل؟ وأي مكانة وقيمة نعطيها للطفل ليعبر هو الآخر عن رأيه ورغبته في أي مكان يفضل قضاء العيد فيه؟ أليس هذا السلوك دكتاتورية محضة تضرب عرض الحائط رغبة الزوجة والأطفال؟ وعن أي سعادة وتوازن عائلي بإمكاننا الحديث عنها هذه الظاهرة الصارخة؟ هل هذا هو هدف مؤسسة الزواج؟ أين هو الحوار البناء؟ أين هو التناغم والانسجام بين الزوجين؟ أين هي كرامة واحترام المرأة؟ أين هو الإنصاف والعدل؟ أهذه هي الفضائل الإنسانية والإلهية؟ أسباب السرطان الأسري أو الحروب العائلية.. هناك ظاهرة أخرى يمكننا رصدها، وهي أنه حينما يجتمع كل الإخوة في بيت الآباء لقضاء العيد سرعان ما يتحول هذا الجمع إلى دراما، إذ تظهر تراكمات من المشاكل والنزاعات المسكوت عنها، خاصة أنه طيلة السنة لا توجد فرص ليجتمع كل أفراد العائلة مع بعضهم البعض، ويبقى العيد الفرصة الوحيدة لذلك. دائما ما تكون هناك مشاكل بين الزوجة وحماتها (لْعْكوزَة)، تبدأ أصلاً منذ زمن الخطوبة، بالإضافة إلى النزاعات بين الزوجة وأخوات الزوج (لْوَايْسْ).. كما تحتدم المنافسة بين الزوجات (لْعْرايْسْ)، التي تخلقها الحماة (لعكوزة)، فتتكون مجموعات تتحالف في ما بينها، وكأننا في حرب عائلية. وتطفو أيضاً مشاكل أخرى، مثل الأخ الذي طلب قرضاً مالياً من أخيه ورفض الاستجابة له، أو أخ آخر طلب من أخيه مبلغاً مالياً ولم يوف بوعده في سداده، أو أخ مفضل على الآخر عند الأم لأنه أغنى منه وأكثر منه تقديماً للهدايا. ويبرز كذلك الحقد الأسري والحسد العائلي لأن أخاً اشترى سيارة أو شقة أو فيلا... الخ.. تجتمع العائلة وكل فرد ينتظر الفرصة لتصفية الحسابات مع الآخر. وفي غالب الأحيان تنفجر "القنبلة" حول مائدة الطعام، حيث يكون الجميع حاضرين، والكل يركز نظره في الصحن متجنباً أعين من له نزاع معه، وينتظر الفرصة ل"افتراسه"، وسرعان ما ينفجر النزاع على أتفه شيء، فتظهر التحالفات والخصومات وترتفع الأصوات والتهديدات وتصفية الحسابات بين الأطراف. وفي بعض الأحيان تحدث اشتباكات عنيفة بالألسن والأيادي، وقد تقع معارك دموية؛ أما الأطفال الحاضرون فيرتعدون ويرتعبون من هذا المشهد الحربي. ولا تقف هذه الدراما إلا إذا أغمي على الأم، فيصمت الكل ويتدخلون لإنقاذها، فيجدون أنفسهم في مستعجلات المستشفى والكل يتهم الآخر وينعته بأنه المسؤول عن ضغط زر إلقاء القنبلة بهذه العبارة: "هَدْشِي لِبْغِيتْ تْقتْل اْمِّي"، فيرد عليه خصمه: "اَفْعايْلْك اَلمْسْخوط لِغَدِي يْقتْلوها".. وغالباً ما تستمر الحرب العائلية في أروقة المستشفى. كيف يعقل أن تقع هذه الأحداث داخل عائلة واحدة وفي أيام العيد بالخصوص، التي لها جلالها وحرمتها؟ وكيف نبني مجتمعا سليما إذا غاب السلم داخل العائلة التي تعتبر الخلية الأساسية داخل لمجتمع؟ أليس هذا الأمر بمثابة السرطان داخل الخلية الاجتماعية؟ السبب الرئيسي في هذا هو غياب تربية حقيقية مستوحاة من الفضائل الروحانية ومبنية على المحبة الخالصة.. وألخص هذا الغياب في النقاط الآتية: 1- غياب التربية على الوحدة في التنوع: ولو أنها عائلة واحدة فأفرادها متنوعون في شكلهم وأفكارهم، وليس من الضروري أن تكون لهم الرؤية نفسها وفلسفة الحياة نفسها، ولا حتى العقيدة نفسها. التربية الحقيقية هي التي تهتم أساسا بوحدة الأسرة وتتقبل الاختلاف في جميع المجالات واحترام الآخر وترسيخ التسامح والتعايش داخل العائلة؛ كما أنها تكون مبنية على نهج ديمقراطي يسوده الإنصاف والمشاورة، ويسري على الصغيرة والكبيرة لأخذ القرار بدون أي تمييز. 2- الظلم الاجتماعي السائد في التعامل بين الذكر والأنثى من ناحية عدم المساواة منذ صغرهما وحتى في كبرهما. 3- غياب تربية مبنية على الإنصاف والاحترام والحياء بمفهومه الحقيقي. 4- غياب تربية مبنية على الحوار وترسيخ الفضائل واعتماد نهج قائم على المقارنة والتفرقة بين الإخوة وعدم تعليم طرق سليمة مبنية على الصدق والتسامح والمحبة والصراحة لإيجاد حلول تشاركية لكل العراقيل والمشاكل بينهم. 5- غياب روح التعاون والتشارك في بناء السِّلم العائلي: مع الأسف الشديد فالأبوان كثيراً ما يلجآن لا شعورياً إلى سياسة "فرق تسد" بين أطفالهم، إذ يقارنون في ما بينهم ويفضلون الذكر على الأنثى والغني على الفقير؛ وبالتالي ينمو التنافس والسباق بين الإخوة، فتسمع دائماً هذه العبارة: "مَعْنْدي زْهَر اْمِّي كتفضل دايْمَنْ خويا عْلِيَّ".. وبهذا لا يتعلمون روح التعاون والتضحية بحثاً عن سلام عائلي. 6- غياب الحنان والعطف والتعبير عن المحبة: حينما يرى الإخوة ألا حنان بين الأبوين، وأن الأم تشتكي صباح مساء من قسوة الأب وسوء معاملته لها، فيتشاجران بالسب، ولربما بالضرب؛ وبذلك لا يرون آثار المحبة والاحترام والمودة بين من أنجباهم، فكيف لهؤلاء أن يسود بينهم حب وحنان ومودة؟ من أين سيأتون بهذا النموذج العائلي الحقيقي القائم على المحبة؟ هل من عالم الخيال أو من عالم الدراما والتلفزة والأفلام؟... من المستحيل بالطبع خلق هذا النموذج المنشود خارج العائلة. وحصيلة هذا النوع من التربية المنحرفة هو تفكك العائلة والعداوة والبغضاء بين الأشقاء والإخوة.. وحتى إن لم تكن هناك عداوة فستكون هناك علاقات فارغة مجردة من كل حب صادق. إن التربية النمطية الحالية في مجتمعنا المغربي هي سبب تفكك العائلة؛ وبالتالي انهيار بنيات المجتمع.. التربية ليست أمرا بسيطا، بل هي منبع الحياة، ولكن إن غابت أو انحرفت عن مسارها الصحيح تصبح منبع الخراب وعلة الاندثار. إن التربية كالسكين داخل المطبخ، إذا أحسنا استعماله فسيفيدنا جداً، لكن إذا لم نستعمله بحذر وبذكاء فسوف يكون خطراً على أرواحنا، وسيتسبب لنا في جروح شديدة. آن الأوان لخلق تربية جديدة قائمة على المحبة والعدل والإنصاف لبناء علاقات أسرية سليمة، فتعود أعيادنا بهجةً وسروراً على الجميع. *طبيب ومحلل نفساني [email protected]