وضعت الزيارة الملكية للملك محمد السادس إلى العاصمة بكين في مايو 2016 اللبنة الأساسية لعهد جديد من العلاقات المغربية الصينية. ويدخل هذا التحرك المغربي في ظل سياسة تنويع الشركاء الاستراتيجيين والسعي وراء بناء نمط اقتصادي مستديم يجعل المملكة أكثر استقلالية في اتخاذ قراراتها. كما يدخل كذلك في إطار تزايد الوعي بفشل الحلفاء التقليديين في تصدير نموذجهم التنموي وبروز نماذج أخرى، على رأسها النموذج الصيني، التي قد تكون أكثر جاذبية بالنسبة للكثير من البلدان الإفريقية، ودول العالم الثالث بصفة عامة. ويمكن اعتبار توقيع العاهل المغربي والرئيس الصيني "سي جين بينغ" شخصيا على معاهدة الشراكة الاستراتيجية مؤشرا قويا على الرغبة المشتركة في الرقي بالعلاقات الثنائية المغربية الصينية إلى مستويات أعلى مما هي عليه، خاصة وأن إفريقيا باتت ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للصين ليس في مجال الطاقة فحسب، بل أيضا في مجالات الفلاحة والتصنيع، وكذلك في مجال التعاون الدبلوماسي في مختلف القضايا العالمية. ويمكن للمغرب أن يصبح حليفا مثاليا للصين في إفريقيا بفضل استقراره الداخلي وموقعه الجيواستراتيجي باعتباره حلقة وصل تربط بين كل من إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، خاصة وأنه يربط علاقات تجارية حرة مع العديد من البلدان تصل في مجموعها أزيد من 50 دولة. أما التجارب الإفريقية للمغرب فيمكن أن تكون عامل جذب أساسي بالنسبة للصين. وفي ظل هذا المنحى التصاعدي للعلاقات المغربية الصينية، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماهي المجالات التي يمكن للمغرب أن يستفيد فيها من العلاقة المتميزة مع الصين؟ السياحة أصبحت الصين أكبر مصدر للسياح إلى الخارج في العالم، ما دفع العديد من الوجهات السياحية العالمية إلى الدخول في منافسة شرسة من أجل استقطاب السياح الصينيين الذين بلغ عددهم في عام 2015 ما مجموع 109 ملايين شخص، بمساهمة قدرت ب 229 مليار دولار في تنمية الاقتصاد السياحي العالمي. ويعتبر هذا من النتائج الطبيعية للنمو الاقتصادي الكبير الذي عرفته الصين في الثلاثين سنة الأخيرة وما رافقه من زيادة في نصيب الفرد من الدخل الوطني الإجمالي. فالانفتاح الذي تلا عشرات السنين من الانغلاق جعل المواطن الصيني تواقا إلى التعرف على العالم وعلى مختلف ثقافات الشعوب. وهو تطور إيجابي جداً يجعل قطاع السياحة واعدا على الصعيد العالمي، باعتبار أن السائح الصيني ينفق بسخاء تعبيرا منه على ذاته كشخص راق وميسور كما يتمثل ذلك المجتمع الصيني. وبحسب تقارير الصحافة الصينية، فقد ارتفع الطلب على وجهة المغرب بعد إلغاء التأشيرة في شهر يونيو المنصرم، مما يؤشر على ارتفاع حتمي لعدد السياح الصينيين القادمين إلى المغرب، خاصة في شهري أكتوبر وفبراير الذين يصادفان عطلتي العيد الوطني وأعياد رأس السنة داخل الصين. وعليه يجب على محترفي قطاع السياحة المغربية القيام بالاستعدادات الضرورية لاستقبال السائح الصيني وتحسين انطباعه بخصوص ظروف المبيت والمأكل والتسوق، خاصة أن الصينيين يعتمدون كثيرا على وسيلة التواصل الاجتماعي "ويتشات" (Wechat) لإشهار كل ما هو جيد والتشهير بكل ما هو قبيح. التصنيع في ظل السياسة الجديدة لتطوير الصناعات الصينية والانتقال إلى الصناعات الذكية بحلول عام 2025، وفي إطار التعاون الصيني الإفريقي، تستعد الصين لتوطين أكثر من 10000 مصنع بالدول الإفريقية. وتخص هذه المصانع قطاعات تعتمد على وفرة اليد العاملة بامتياز، كقطاعات النسيج والجلد والآلات الميكانيكية والآلات المنزلية، وكذلك التصنيع الزراعي، الشيء الذي يخدم الأهداف من وراء خطة التسريع الصناعي التي تشهدها المملكة. وقد بادرت شركات صينية مختصة داخل المناطق الصناعية بالاستثمار بنجاح في دول إفريقية كنيجيريا وإثيوبيا وأوغندا وجنوب إفريقيا. وتقوم مجموعات من الشركات الصينية بالتكتل فيما بينها في مركب صناعي واحد، مما يساعدها على إحداث تكامل فيما بينها وعلى عقد شراكات مع شركات محلية. وبحلول سنة 2015، وصل عدد المناطق الاقتصادية الصينية في إفريقيا إلى 20 مركبا يضم ما مجموعه 360 معملا حققت مبيعات تجاوزت 13 مليار دولار وأدت ضرائب بمجموع 560 مليون دولار. فهذه التجربة جديرة بأن تتم محاكاتها في المغرب لمحاولة اعتصار أقصى ما يمكن من منافع وراء شراكته الاستراتيجية مع الصين. اللوجيستيك يمكن القول إن الاستثمار الصيني الكبير في فتح قناة جديدة في البناما عبارة عن مؤشر قوي على أهمية اللوجيستيك بالنسبة للتنين الصيني. فعلى الرغم من أنه لم يحدث في تاريخها الحديث أن أرسلت جنودها إلى الخارج، إلا أنها أرسلت البحرية الصينية لحماية أساطيلها الملاحية من القراصنة الصوماليين. فاللوجستيك والطرق الملاحية والتجارية المختلفة هي الرئة التي يتنفس من خلالها الاقتصاد الصيني. وبخصوص المغرب، فهو بالنسبة لها عبارة عن منصة حيوية لإرسال سلعها بأقل كلفة إلى كل من أوروبا وإفريقيا. وفي هذا السياق، فالبنية التحتية الجيدة التي باتت تتمتع بها طنجة باتت تحظى بأهمية خاصة لدى المستثمرين الصينيين. في المقابل، فقد بات من الممكن بالنسبة للحكومة المغربية وممثلي الجهات التواصل مباشرة مع الشركات الكبرى الصينية التي تحتاج الى بنية لوجيستيكية كبيرة في إفريقيا، وإقناعها باختيار المغرب، كشركة علي بابا مثلا التي تمتاز بشهرتها الكبيرة على مستوى التسوق على الإنترنت؛ بحيث حققت مبيعات ب14.6 مليار دولار خلال سنة 2015. البحث العلمي بعد أن أمضت الصين وقتا طويلا كمعمل للعالم، أصبح الصينيون يعملون جاهدين لامتلاك تقنيات تمكنهم من تجاوز الصورة النمطية عن المنتجات الصينية من "صنع في الصين" إلى "ابتكر في الصين". وخلال السنوات الخمس الأخيرة، عرفت الصين ما يمكن وصفه بالثورة التقنية؛ حيث بلغ مجموع استثمارها في التقنيات الجديدة 2.2% من الناتج الوطني الخام، وهي نسبة تتجاوز النسبة التي يوفرها الاتحاد الأوروبي للهدف ذاته. وبإمكان المغرب الاستفادة من هذا التوجه الصيني عن طريق تشجيع الطلبة الباحثين على اختيار الصين لإتمام بحوثهم والاستفادة من التمويل الصيني والامكانيات التقنية في مشاريع بحث تهم المغرب، مع التركيز على المجالات التي يسعى المغرب إلى أن يكون رائدا إقليميا فيها، كمجال الطاقات المتجددة واللوجستية وصناعة السيارات. ويبدو أنه بات من الضروري السعي إلى الحصول على عدد أكبر من المنح الدراسية، ومن تقنين عملية الحصول على هذه المنح ومتابعة الطلبة المغاربة في الصين وفتح المجال أمامهم للمشاركة في تنمية التعاون المغربي الصيني. الثقافة يولي الصينيون أهمية كبيرة لتاريخهم العريق الممتد ل 5000 سنة، وما فتئوا يضاعفون المبادرات من أجل إحياء تراثهم والرفع من تأثير الثقافة الصينية على المستوى الدولي. ويتميّز المغرب بمزيج ثقافي عربي أمازيغي أفريقي أوروبي إسلامي لا يقل غنى عن نظيره الصيني. وبالإمكان الاستفادة من تجربة الصين في مجال المحافظة على التراث والتنقيبات الأثرية التي توقفت في الكثير من المواقع الأثرية في المغرب لضعف الإمكانيات المادية والبشرية، كما حدث مثلا مع مدينة شالة الأثرية بالرباط التي لا يزال معظم أجزائها تحت الانقاض، وكما هو حادث أيضاً لقصور الجنوب الشرقي للمملكة التي شهدت أزهى عصور المغرب، غير أنها لا زالت تنتظر من يرجع إليها روحها، خاصة أنها تدخل في نطاق طريق الحرير التاريخي الذي أصبحت الصين تولي اهتماما كبيرا لإحيائه. وعلى العموم، فالظروف المحيطة بكل من المغرب والصين، والمستوى التنموي لكل منهما، وكذا الخطط الاستراتيجية المستقبلية لكل منهما، تجعل منهما حليفين من الناحية الموضوعية؛ بحيث تتميز علاقاتهما بالتكامل وليس التنافس بصفة عامة. بيد أنه يبقى على الجانب المغربي، ممثل في الشركات الخاصة وغيرها، أن يبذل المزيد من المجهود لضمان أقصى قدر ممكن من الاستفادة من الفرص التي توفرها الصين. وفضلا عن ذلك، يجب أن يكون للبحث العلمي الدور الأبرز لرسم مختلف الخطط وتقييم النتائج في أفق تحسين أداء الشراكة المغربية الصينية وجعلها أكثر فعالية واستدامة. *باحث في العلاقات الصينية الإفريقية بمعهد السياسة بجامعة صن يات سين