د. عبد النبي أبوالعرب أستاذ جامعي، دكتوراه في علوم التدبير والتسويق وقع المغرب مؤخرا تحت أعين الملك محمد السادس شراكة استراتيجية مع دولة الصين الشعبية. وهي خطوة تأتي لتأكيد المقاربة الجديدة للدبلوماسية المغربية في إدارة خريطة تحالفاتها الدولية، والقائمة على التوسع خارج دائرة شركائها التقليديين، بالانفتاح في عالم متعدد الأقطاب، على باقي القوى العظمى الدولية، وعلى رأسها الصين وروسيا والهند. وهو المنحى الذي أعلنه الملك محمد السادس علانية في خطابه خلال القمة المغربية الخليجية الأخيرة، والتي أسست لشراكة إستراتيجية أخرى، مغربية خليجية، في تأكيد لهذه المقاربة الجديدة للمغرب في إدارة علاقاته الدولية. في هذا المقال سنركز على الشراكة الإستراتيجية الأخيرة مع الصين، حتى نفهم طبيعتها وأهدافها، خاصة بالنسبة للمغرب، ونجيب عن السؤال حول ما الذي يمكن أن يدفع بلدا صغيرا كالمغرب ويؤهله، إلى الانخراط في علاقة استراتيجيه مع بلد عملاق كالصين؟ كما سنحاول أن نفهم كيف يمكن لهذه العلاقة، التي قد تبدوا ظاهريا غير متكافئة تماما لصالح الصين، أن تمكن المغرب من تحقيق اختراقات ونجاحات إستراتيجية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الدبلوماسي، داخليا وخارجيا. هذه الإشكاليات التي سنحاول الإجابة عليها على أربع مستويات : المستوى الأول يتعلق بماهية وطبيعة العلاقة التي يروم أو يطمح المغرب إلى تأسيسها مع الصين : هل هي سياسية أم اقتصادية بالدرجة الأولى ؟ إن العلاقة التي يمكن تأسيسها اليوم مع الصين هي اقتصادية بالدرجة الأولى، وذلك بالنظر إلى عدد من الاعتبارات. أولها متعلق بالمقاربة الصينية لعلاقاتها ومحيطها الدولي، فهي تبتعد كثيرا عن السياسة وتقترب أكثر من الاقتصاد. أما ثاني الاعتبارات فيعود إلى كون العلاقات السياسية تتطلب وقتا أكثر وانسجاما أكبر. فالشراكة الاقتصادية هي نتاج السوق، أما الشراكة السياسية فهي نتاج الهوية والمصير والتوازنات الجيوستراتيجية والأمنية الدولية. والأكيد أن المغرب اليوم هو أقرب إلى الخانة الأولى منه إلى الثانية. هذا لا يعني أن هذه الشراكة لن تكون لها آثار سياسية أو أنها لن تكون يوما ما ذات أبعاد جيوستراتيجية قوية. لا، فيكفي أن تتطور المصالح الاقتصادية بما يكفي حتى تصبح لها تداعيات سياسية كبيرة، ويصبح الدفاع عنها من الأولويات الجيوستراتيجية. وعليه، فإنه لا بد من التأكيد على أن الأبعاد الدبلوماسية والجيوستراتيجية ليست غائبة تماما عن المغرب وهو يوقع اتفاقياته الاقتصادية في كل المجالات مع العملاق الأسيوي، خاصة ونحن نتقاسم مع هذا البلد إشكالات الوحدة الترابية، في قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وقضية تايوان بالنسبة للصين. فقد يكون هذا القاسم المشترك القاعدة القوية التي ستمكن من بناء رؤية منسجمة ومتوافقة حول هذه الملفات التي تستدعي مقاربة دولية، خاصة وأن الصين تملك ورقة الفيتو الذهبية، من داخل أقوى مجلس في العالم، مجلس الأمن. إذن الاقتصاد أولا، والسياسة ثانيا، هذا هو عين الصواب، خاصة مع الصينيين، المعروفون بكثرة تحفظهم وتدرجهم في التقدم في العلاقات مع الآخرين. فما هي إذن الأهداف الاقتصادية التي يتوخاها المغرب من شراكته بهذا العملاق الاقتصادي الأسيوي؟ هل يمكن أن يراهن المغرب مثلا على غزو منتجاته وبضائعه للأسواق الصينية ؟ وهنا نأتي إلى المستوى الثاني لتفكيك أبعاد الشراكة المغربية الصينية. فالصين اليوم هي مصنع العالم. وهي تنتج تقريبا كل شيئا. وإن لم تكن تنتجه، فيكفي أن تدفع الثمن حتى تنتجه لك بسرعة قياسية وأثمنة لا تقاوم ! لقد تطورت القدرات الإنتاجية للصين بشكل رهيب، سواء على مستوى عدد المنتجات ومجالاتها، أو على مستوى جودتها التقنية. لقد أتثبت الصين للعالم أنها اليوم قوة صناعية من الدرجة الأولى في الجودة والتقنية منذ أن خرجت على العالم بصور ربانها وهو ينزل من مركبته الفضائية، صينية الصنع، ويغرس علمها الأحمر في قلب كوكب القمر كعلامة لا يمكن بعدها التشكيك في قدراتها الصناعية وجودتها. منذ 2013، أصبحت الصين أول بلد مسجل لبراءات الاختراع. نجاحات باهرة انتهت بها إلى أن أصبحت في وقت قياسي أول اقتصاد في العالم حسب أرقام صندوق النقد الدولي ل2015، حيث وصل ناتجها الداخلي الإجمالي حسب مبدأ "تعادل القوة الشرائية" إلى 17632 مليار دولار، أمام الولايات ب17416 مليار دولار. هذا المركز الأول الذي أكدته أيضا أرقام مبادلاتها الخارجية لسنة 2014 ب4160 مليار دولار، مقابل حوالي 3900 مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية! ما موقع المغرب أمام هذا التنين الملتهم ؟ كل دول العالم خاسرة تقريبا في ميزان مبادلاتها مع الصين، والمغرب لا يخرج عن القاعدة! يستورد المغرب حوالي 3 مليار دولار ولا يصدر إلا 300 مليون دولار. نكاد نستورد كل شيء، ولا نكاد نصدر إلا الفوسفاط، بفارق يبلغ عشرة أضعاف ! هل يمكن أن نتدارك هذه الهوة ؟ بالطبع نعم، ولكن على المستوى الطويل الأمد وبشرط أن يصبح المغرب قوة صناعية منتجة وتنافسية على المستوى الدولي، في مجالات لا تتوفر فيها الصين على منتجاتها الداخلية. لنقلها بصراحة، تبدو المهمة بشبه المستحيلة ! ولكن لا مفر من العمل على إعادة التوازن إلى هذا الميزان العاجز للمبادلات. كيف ؟ لتكن البداية بالتقليص من الواردات لصالح المنتوج الداخلي، خاصة فيما يتعلق بمنتجات يتوفر فيها المغرب على نسيج صناعي محلي، كالصناعات الكهربائية والنسيج. ويجب تشديد المراقبة الجمركية على كل المنتجات التي تأتي بأسماء مغايرة لأقسامها الجمركية وتنتهي بالإغراق الغير المشروع للسوق الداخلية. أما على المستوى المتوسط والبعيد الأمد، فلنأمل على أن تصبح الصين سوقا للمنتجات المغربية في مجالات عالية التقنية، كالطائرات والسيارات مثلا. لا يجب أن نفقد الأمل ! والحالة هذه، لا بد من التساؤل في المستوى الثالث لتحليل هذه الشراكة الإستراتيجية المغربية الصينية، حول السر في إقدام المغرب على إسقاط تأشيرة الدخول إلى المغرب عن الصينيين. ما أهميتها في سياق الأهداف الاقتصادية التي يتوخاها المغرب من شراكته بدولة ماوتستونغ ؟ إن هذه الخطوة قد تبدو في البداية حماقة ومجازفة خطيرة في وجه بلد المليار وأربعمائة مليون نسمة! ولكن مهلا. إن المغرب وهو يتطلع إلى جعل الصين اليوم أحد دعائم الاستثمار والنهضة التنموية المغربية يرفع الورقة البيضاء أمام حركة الصينيين كإعلان حسن نية وكمنطلق انفتاح لابد ان تكون له أثار مشجعة على كل الجوانب الأخرى للشراكة التي تم توقيعها. هل رأيتم يوما صينيا يتسول في أحد دول العالم؟ الصيني أينما ارتحل يشتغل كالنمل والنحل بدون توقف! توافد الصينيين سيكون له أثر واضح في تحريك دينامية التجارة والاستثمار والتبادل … فالرهان الأول لهذه المبادرة هو جلب سياحة نوعية لرجال الأعمال الصينيين لإطلاق مشاريع استثمارية تعزز مكانة المغرب في عرضه الصناعي والتجاري امام العالم، من خلال رفع كل التعقيدات التي قد تؤول دون تشجيعهم على ذلك، بدءا بتأشيرة الدخول. ولكن المغرب يراهن أيضا على السياحة الاستهلاكية الصينية. لقد بلغ عدد السياح الصينيين 100 مليون سائح سنة 2014 وأنفقوا حوالي 160 مليار دولار! أرقام تسيل لعاب كل الوجهات السياحية في العالم، بما فيها المغرب الذي يراهن على تحقيق رقم ال20 مليون سائح. ألا يمكن جلب 1% فقط من هذا الكم الهائل من السياح ومن مجموع نفقاتهم؟ ألا يمكن تحقيق رقم مليون سائح صيني الى المغرب في أفق 2025 بمجموع إنفاق يبلغ 1,6 مليار دولار؟ هذا ليس من المستحيلات أبدا وهو أحد الرهانات الحقيقية التي يمكن تحقيقها إذا نجحنا في تفعيل كل الجوانب الإيجابية الأخرى لهذه الشراكة الإستراتيجية مع دولة الصين العظيمة. لأنها بالفعل شراكة مكنت من وضع اللبنات الأساسية لخلق نموذج اقتصادي رابح – رابح بين بلد صغير كالمغرب وبلد عملاق كالصين. فالدارس للاتفاقيات التي تم توقيعها أمام الملك محمد السادس ببكين يفهم الإستراتيجية التي تقود تطلع المغرب للاستفادة من زخم النهضة الصينية الجارفة. فجل الاتفاقيات تصب في هدف واحد: جعل المغرب معبرا ومنفذا وشريكا في الحركة الصينية، الصناعية والاستثمارية والتجارية واللوجستية والمالية في وجه العالم عامة، وفي وجه أوروبا وإفريقيا خاصة. وهنا نستدعي المستوى الرابع والأخير لتفكيك الشراكة المغربية الصينية، حيث يتلخص الرهان الحقيقي لهذه الشراكة في جعل المغرب، بناء على كل المؤهلات التي نتوفر عليها اليوم، قاعدة إنتاج وقناة عبور وشبكة توزيع صينية في وجه العالم. كيف؟ الجواب نجده في الاتفاقيات التي تم توقيعها. لا بد بداية أن نلاحظ تعدد القطاعات المعنية بال15 اتفاقية التي تم توقيعها أمام الملك محمد السادس. فهي تهم قطاعات الطيران والسيارات والسكك الحديدية والطاقة والنسيج والدراسات التقنية والبناء والإسمنت والتعاون السياحي والدفاع والصناعات العسكرية والاستثمار.. ولعلنا يمكن أن نميز رهانين وهدفين استراتيجيين أساسيين يتخللان كل هذه الاتفاقيات، تساعدنا في فهم الرؤية الاقتصادية التي تقود الشراكة المغربية الصينية. الرهان الأول، داخلي، هو إشراك الرأسمال والخبرة الصينيين في تطوير القطاعين الصناعي واللوجيستي بالمغرب، بشكل مرتبط. وقد نجح الجانب المغربي في هذا الشق إلى حد كبير، حيث جل الاتفاقيات التي تم توقيعها هي في الحقيقية حقائب تحمل أموالا وخبرات صينية سيتم ضخها في الاقتصاد الوطني، بشراكة مع الرأسمال والمؤسسات الوطنية. كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية تطوير مركز صناعي ولوجستيكي من أجل تصنيع قطع غيار الصناعات السككية والخاصة بالسيارات والطيران وتلك التي تروم إحداث مركب صناعي صيني مغربي. أو تلك التي تهدف إلى اقتناء وبناء وحدة لصناعة الحافلات الكهربائية بالمغرب، أو تلك التي تهم تطوير وحدة لإنتاج خلايا اللاقطات الشمسية بالمغرب. وهنا نلاحظ حضور القطاعات الرئيسية في الإستراتيجية الصناعية المغربية، وهي قطاعات السيارات والطائرات والطاقات المتجددة… الرهان الثاني، خارجي، هو جعل المغرب قناة تصريف للاستثمار والرأسمال الصيني للتوغل أكثر داخل القارة السمراء بناء على الخبرات التي تمتلكها البنوك المغربية في أفريقيا وتوفرها على شبكة بنكية قوية في جل بلدانها. ويظهر ذلك من خلال عدة اتفاقيات، على رأسها مذكرة التفاهم الموقعة بين صندوق الصين إفريقيا للتنمية والتجاري وفا بنك، والتي تروم مواكبة المقاولات الإفريقية، وفتح آفاق جديدة لاستكشاف فرص استثمارية مغربية صينية بإفريقيا. واتفاقية إنشاء صندوق للاستثمار صيني-مغربي بقيمة مليار دولار التي تم توقيعها مع البنك المغربي للتجارة الخارجية لإفريقيا ويستهدف قطاعات صناعة الطيران والمالية والمركبات الصناعية والبنية التحتية. كما يظهر ذلك أيضا في مذكرة تفاهم بين البنك المغربي للتجارة الخارجية لإفريقيا وصندوق الصين إفريقيا للتنمية، والتي تتعلق بمواكبة البنك لتمويل المشاريع التنموية في القطاعات التي يستهدفها الصندوق بإفريقيا. إننا في الختام نفهم إذن الإستراتيجية التي تحكم الشراكة المغربية الاقتصادية الصينية، والتي تتلخص في هدف جعل المغرب قاعدة متقدمة للقوة الاقتصادية الصينية، كسبيل وحيد، لا خيار غيره، سيمكن المغرب أولا من إعادة التوازن إلى علاقاته الاقتصادية مع هذا البلد الذي لا يمكن تجاهله اليوم على مستوى الخريطة الصناعية والتجارية والمالية والدبلوماسية الدولية، وسيمكنه ثانيا من ربط عجلة المغرب بالقاطرة الاقتصادية الصينية السريعة حتى تدفع بها أكثر وترفع من وثيرة سرعتها التنموية. على أن التحدي الذي يبقى قائما هو في تعميق هذه الشراكة حتى تصبح إستراتيجية بمعناها الحقيقي، لما سيتأثر عنها من أثار مهمة لمستقبل المغرب، سواء داخليا على المستوى الاقتصادي أو خارجيا على مستوى توحيد الجهود الدبلوماسية، خاصة بما يخدم قضيتنا الوطنية، قضية الصحراء المغربية. وهي رهانات ليست بالسهلة، وترتبط بمجهودات التفعيل والتنزيل التي سيبدلها الطرفان على حدا.