(2/4) ما معنى التطابق والترجمة والبصمة اللسنية الأمازيغية؟ نظرا أن التطابق، بين تعابير الأمازيغية والدارجة، دليل أن تعابير هذه الدارجة تحمل نفس البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، باعتبارها ترجمة حرفية لتعابير هذه الأخيرة إلى العربية، فإنه يجدر توضيح مفاهيم التطابق، والترجمة، والبصمة اللسنية الأمازيغية. فالتطابق، في المعنى أو المبنى أو في كليهما، بين تعابير الأمازيغية والدارجة، لا يعني أن كل تعبير بالدارجة هو ترجمة لنفس التعبير من الأمازيغية. فمثلا العبارة الدارجة: "شرب لما" (اشرب الماء)، لا يمكن أن نقول عنها إنها ترجمة لمقابلها الأمازيغي "سو أمان". لماذا؟ لأن إذا صحّ أنها ترجمة من الأمازيغية، فيصحّ أن تكون كذلك ترجمة من الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية (Bois de l'eau, drink water, bebe agua). فمثل هذه التعابير، ذات المعاني والتراكيب المشتركة بين غالبية اللغات، لا تعتمد إذن دليلا على أن أصل التعبير الدارج أمازيغي، حتى لو كان الأمر كذلك. التعابير الدارجة التي تقوم دليلا على أن أصلها أمازيغي، هي فقط تلك التي تحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، كما في تعابير من قبيل: "قبط طريق لمراكش"، "مشاو لو حوايجو فتران"، "جابها فراسو"، "دزت فوجه صاحبك"، "غير هدر معه بقى يبكي"، "كيف كيجيك هاذ لولد"، "جابوه لمحكمة بدراع عليه"، "طيّح الهدرا لخوه"، "ضرب كيلو حوت أو باقي فيه جوع"، "دّيها فراسك"، "فات عليه لكار"، "لبنت ولات مرا ونص"، "زيت العود"، "أنا براسي ما فاهم والو"، " حظ راسك لايفوزو بيك"، "كلا لعصا بزاف"، "كاين شتا برّا"، "خرجو لو لولاد صالحين"، "فوت علي عند لمغرب"، "شد الباب موراك"، طيّب لي راسي بلهدرا"...، ومئات أخرى من مثل هذه التعابير التي لا يمكن أن يكون قد نطقها للمرة الأولى إلا من كان يجيد الأمازيغية، لأن معناها أو مبناها أو هما معا أمازيغيان، ويشكّلان علامة مسجلة للأمازيغية كبصمة لسنية خاصة بها، ولهذا فلا معنى ولا استعمال لمثل هذه التعابير في أية لهجة عروبية. ولتوضيح أكثر لمفهوم البصمة اللسنية الأمازيغية، نأخذ (مثال لأحد المعلقين من قراء "هسبريس" الذي يرد به على المدافعين عن عروبية الدارجة) هذه الجملة: "طاحت عليه الدار". فهذا التعبير، رغم أن له مقابلا في الأمازيغية، إلا أنه لا يمكن الجزم أنه ترجمة لهذا المقابل الأمازيغي إلى العربية، وحتى لو كان الأمر فعلا كذلك. لماذا؟ لأنه لا يحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، لكونه تعبيرا مشتركا بين اللغتين، وغيرهما من اللغات، كما في الفرنسية مثلا: La maison s'est écroulée sur lui . لكن عندما نقول: "طاحت عليه الدار بخمسين مليون"، فهنا يصبح التعبير أمازيغيا مائة في المائة، لأنه يحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، والتي هي غريبة عن أية لهجة عروبية، مما يجعل التعبير فاقدا لأي معنى في هذه اللهجة العروبية، لأن الجملة هي كلام أمازيغي بألفاظ عربية. فلا يعود فعل "طاح" يعني معناه العربي الذي هو "سقط"، كما في "طاحت عليه الدار"، بل يكتسب، في عبارة "طاحت عليه الدار بخمسين مليون"، معناه الأمازيغي، والذي يدل على كلفة بناء الدار. وهو دليل قاطع أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة هو أمازيغي تكلم أمازيغيته بألفاظ عربية. كذلك عندما نقول "ضربو فراس" (ضربه في الرأس)، لا يمكن الجزم أن هذه العبارة ترجمة حرفية لمقابلها الأمازيغي، حتى لو كان الأمر فعلا كذلك. لماذا؟ لأن معناها وتركيبها، كما هما أمازيغيان فهما كذلك عربيان. فالعبارة لا تحمل إذن البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية. لكن عندما نقول "ضربو لبرد" (تعرّض لنزلة برد حرفيا: ضربه البرد)، فهنا تكون الجملة أمازيغية مائة في المائة رغم صياغتها بألفاظ عربية، لأنه لا معنى لها في جميع اللهجات العروبية، إذ البرد لا "يضرب" حسب هذه اللهجات. لكن في الأمازيغية، يشكّل هذا "الضرب"، المسند إلى البرد، بصمة لسنية خاصة بها، مما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة هو أمازيغي تكلم أمازيغيته بألفاظ عربية، أي ترجم "إيوت يت أصمّيظ" إلى العربية، مع الاحتفاظ على نفس المعنى الأمازيغي الذي لا يستقيم مع أية لهجة عروبية (البرد لا "يضرب" في العربية). ونفس الشيء عندما نقول "غدّا نقبطو لفلوس ديال لكرا" (غدا سنقبض نقود الكراء): فليس هناك ما يدل على حضور البصمة اللسنية الأمازيغية في هذه العبارة، وبالتالي فلا يمكن الجزم أنها مترجمة من الأمازيغية، حتى ولو كان الأمر فعلا كذلك. لكن عندما نقول: "غدّا نقبطو طْريق لكازا" (غدا نسافر إلى الدارالبيضاء حرفيا: غدا نقبض الطريق إلى الدارالبيضاء)، فهنا يكون التعبير أمازيغيا مائة في المائة رغم صياغته بألفاظ عربية، لأنه لا معنى لهذا التعبير في جميع اللهجات العروبية، إذ الطريق لا "يُقبض" في أية من هذه اللهجات. فإذا كان له معنى في استعماله الدارج، فذلك لأنه ترجمة حرفية لمعناه الأمازيغي كما هو في التعبير الأمازيغي الأصلي: "أزكّا أنامز أبريد غور كازا". وذلك لأن في الأمازيغية وحدها من دون اللهجات العروبية، يعني فعل "أمز" (قبض)، عندما يكون مفعوله هو الطريق، "الانطلاق نحو..."، السفر إلى..."، التوجه إلى..."، ولا علاقة له بما يفيد الاستلام والإمساك، أي القبض بمعناه الحقيقي. كل هذا يؤكد، وبالمطلق، أنه لا يمكن أن يكون قد نطق للمرة الأولى بعبارة "نقّبطو طْريق" إلا من كان أمازيغيا ويجيد الأمازيغية، إذ اكتفى بترجمة كلامه الأمازيغي حرفيا إلى العربية. وهو ما يثبت، مرة أخرى، أن الذين أبدعوا الدارجة هم بالضرورة أمازيغيون. وتظهر البصمة اللسنية الأمازيغية، كذلك، في المسميات الدارجة للحرف والصنائع، مثل: "تنجّارت" (النجارة)، "تكبّاست" (مهنة الكباس، الذي يعمل في الجبس)، "تاكزّارت" (الجزارة)، "تحفّافت" (الحلاقة)، "تاوزيريت" (مهنة الذي يعمل وزيرا)، "تامغربيت" (الخصوصية المغربية)... فرغم أن الجذور والألفاظ التي صيغت منها هذه الأسماء هي عربية، إلا أن شكل الصياغة أمازيغي، ولا وجود له في أية لهجة عروبية، مما يعطي لهذه الأسماء، المشتقة من كلمات عربية، معاني أمازيغية وليست عربية في الدارجة. وهو ما يعني أن الذي استعمل هذه الأسماء للمرة الأولى في الدارجة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا. ومما يعبّر أيضا، وبشكل بارز ولافت، عن حضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة، شيوع استعمال الأداة النحوية الأمازيغية "بو"، بصيغة المذكر المفرد فقط، والتي تعني في الأمازيغية "ذو، صاحب"، كما في تعابير: "بولحية"، بوزبال"، "بوكرش"، "بوحمرون"... هي أداة نحوية أمازيغية أصيلة وليست استعمالا دارجا للفظ "أبو" العربي، كما يعتقد التعريبيون بسبب تقارب المعنى بين "بو" الأمازيغية و"أبو" العربية كما نجدها في: "أبو الهول"، "أبو جهل"، "أبو لهب"، "أبو نواس"، "أبو هريرة"... والدليل أنها أمازيغية أصيلة هو أنها تؤنث وتُجمع في الأمازيغية، عكس لو افترضنا، كما يفعل التعريبيون، أن أصلها هو "أبو" العربية، حيث لا يمكن جمع العبارة الدارجة "بولحية" ولا تأنيثها، إلا إذا استعملنا ألفاظا أخرى، فنقول: "أصحاب اللحى"، "صاحبة اللحية"، "صاحبات اللحى" أو "مولات اللحية"، "مّالين اللحية". وفي هذه الحالة نلاحظ أن "أصحاب" و"صاحبة"، و"مولات" و"مّالين"، ليسا جمعا ولا مؤنثا لأداة "بو"، بل هما شيء آخر مختلف وإن كان يؤدّي نفس المعنى. أما في الأمازيغية فجمع "بو" هو "أيت"، ومؤنثها هو"مْ" (حرف ميم ساكنة) التي تجمع على "إستم". فنقول "بو تاميمت، م تاميمت" (صاحب، صاحبة العسل = بائع، بائعة العسل)، "أيت تاميمت، إستم تاميمت" (أصحاب، صاحبات العسل = بائعو، بائعات العسل)، "بويسركاس، ميسركاس (كثير الكذب، كذّاب كثيرة الكذب، كذّابة)، "أيت إسركاس، إستم إيسركاس"، (كثيرو الكذب، كذّابون كثيرات الكذب، كذّابات) "بو تيكّاز، متيكّاز" (صاحب الوشم ذات الوشم)، "أيت تيكّاز، إستم تيكّاز" (أصحاب الوشم ذوات الوشم)... فهذه الأداة "بو" هي إذن أمازيغية أصيلة وأصلية، وتستعمل في الدارجة، تماما كما تستعمل في الأمازيغية دون تغيير أو ترجمة، متبوعة بلفظ عربي يكون ترجمة حرفية لمقابله الأمازيغي، كما في عبارات: "بولحية" (صاحب اللحية) "بوكرش" (ذو البطن المنتفخ = طمّاع غير قنوع)، "بوراس" (صاحب الرأس الكبيرة)، "بوحمرون" (ذو الحمرة وصف أمازيغي لمرض الحصبة)، "بوصفير" (ذو الاصفرار وصف أمازيغي لمرض اليرقان)...، التي (عبارات) هي ترجمات حرفية لأصلها الأمازيغي: "بوتامارت"، "بو أديس"، "بوكايّو"، "بوزكّاغ"، "بووراغ"، مع الاحتفاظ بأداة "بو" في شكلها ونطقها الأمازيغيين. فهذه الأداة "بو" المستعملة في الدارجة ليست إذن ترجمة لها من الأمازيغية، بل هي نفسها أمازيغية شكلا ومعنى ونطقا. أما الترجمة فتخص الجمع والمؤنث، فنجمع مثلا في الدارجة عبارة "بولحية" ب"مّالين اللحية"، ونؤنثها ب"مولات اللحية". ومما يثير الضحك والاشمئزاز في نفس الوقت أن التعريب الأعمى، المرضي والهوسي، الأهوج والأرعن، حوّل "باب بوجلود"، الحي العتيق المعروف بمدينة فاس، إلى "باب أبي الجنود"، مع الحرص على كتابة "أبي"، التي جاءت مضافا إليه، طبقا للقاعدة النحوية والإملائية السليمة للأسماء الخمسة التي ينتمي إليها لفظ "أبو". وكل هذا "الضبط" لقواعد الأسماء الخمسة، هو: أولا، من أجل الإقناع، وبالكذب والتزوير، أن فاس مدينة عربية بناها وسكنها العرب، كما تدل على ذلك أسماء أبوابها التاريخية مثل "باب أبي الجنود"، الذي يبيّن أن الذي أطلق هذه التسمية على هذا الباب لا يمكن أن يكون إلا عربيا يتقن العربية الفصحى، و"نحويا" يجيد حتى إعراب الأسماء الخمسة. ثانيا، من أجل إتلاف كل أثر لسني قد يدل على أن التسمية (بوجلود) هي في الأصل ترجمة من الأمازيغية، مما يعني أن فاس بناها وسكنها الأمازيغ الذين أطلقوا على هذا الباب تسمية أمازيغية، ترجموها حرفيا إلى العربية بعبارة "بوجلود"، مع الاحتفاظ على الأداة الأمازيغية "بو" كما هي في أصلها، حسب ما شرحنا سابقا. بالفعل، "بوجلود" هي ترجمة إلى العربية لأصلها الأمازيغي "بويلماون" (إلم، جمع إلماون = جلد، جلود). وسمي المكان ب"بويلماون"، أي "بوجلود" في ترجمته إلى العربية، لأنه كان ساحة يقام فيها كرنفال "بويلماون" الأمازيغي السنوي المعروف، الذي هو حفل جماعي بلباس تنكري من جلود الحيوانات، قبل أن يقتصر هذا اللباس فقط على جلود أضاحي العيد. وإذا كان طقس "بويلماون" الأمازيغي كاد أن يختفي بعدة مناطق من المغرب، كما في الريف الذي كان حاضرا به بشكل كبير، كما يحكي ذلك "مولييراس" في الجزء الأول من كتابه حول "المغرب المجهول"، فإنه لا زال يمارس بمنطقة سوس كل سنة بمناسبة عيد الأضحى. عبارة "بوجلود" الدارجة هي إذن ترجمة لأصلها الأمازيغي "بويلماون"، ومنها تستمد معناها اللغوي والتاريخي، في حين أن عبارة "أبي الجنود" لا تحمل أية دلالة تاريخية ولا حتى لغوية، لأن عبارة "أبي الجنود" لا معنى ولا استعمال لها في العربية. فلو كانت هذه العبارة هي "قائد الجنود" أو "أمير الجنود"، لكان لها على الأقل معنى مقبول لغويا في العربية. ولهذا فإن استبدال "بوجلود" ب"أبي الجنود" هو شيء مخجل ومضحك في نفس الوقت: مخجل لأنه يخفي وراءه قدرا كبيرا من العنصرية التي تبرّر إبادة كل ما له علاقة بالأمازيغية أو يذكّر بها ويحيل عليها مثل عبارة "بوجلود". وهو مضحك، لأن هذه العبارة "أبي الجنود" لا يصدّقها ولا يستعملها إطلاقا سكان فاس ولا أي مغربي آخر المعنيون بالموضوع، والذين لا زالوا يستعملون دائما عبارة "بوجلود"، المترجمة من أصلها الأمازيغي، ولا يكترثون بعبارة "أبي الجنود" المفروضة كتابيا، والتي لم يسبق أن سمع بها ولا استعملها أجدادهم، قبل طاعون التعريب الذي انطلق في مرحلته الجنونية مع استقلال المغرب. الأداة الأمازيغية "بو"، المستعملة في الدارجة، هي إذن بصمة لسنية أمازيغية أصلية وعريقة، ولا يمكن أن تكون ذات أصل عربي، لأنها غير معروفة وغير مستعملة وغير ذات معنى في أية لهجة عروبية، قديما وحديثا. وبالتالي فإن أول من استعمل ونطق العبارات الدارجة التي تتضمن أداة "بو"، مثل "بولحية"، "بونيف" (ذو النيف الكبير)، بوفلجة" (صاحب انفراج واسع بين اثنين من أنيابه)، "بوحبة" (صاحب الدملة)... لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا ترجم أمازيغيته إلى العربية، محتفظا بأداة "بو" كما يستعملها في أمازيغيته. لن أتحدث عن المظاهر الأخرى للبصمة اللسنية الأمازيغية، التي تؤكد الأصل الأمازيغي لتعابير الدارجة، والتي (المظاهر) مرّ أن شرحتها في كتابات سابقة حول الموضوع، مثل غياب المثنى في الدارجة، ووجود الزمن الحاضر فيها، وقدرتها على استيعاب أفعال للغات أجنبية وتصريفها واستعمالها كما لو كانت جزءا من الدارجة، مثل: "واش كومونديت أش تاكل ولاّ باقي؟" (تدريج الفعل الفرنسي Commander)، "راه كيدوّش" (تدريج الفعل الفرنسي Se doucher)، "تيراو عليه بالكابوس" (تدريج الفعل الفرنسي Tirer )، "كيعرف إيدريبلي بلكرا" (تدريج الفعل الفرنسي Dribbler)... وهذه خاصية لسنية أمازيغية بامتياز، ولا وجود لها في العربية وباقي اللهجات العروبية إلا في حالات نادرة جدا تعد على رؤوس الأصابع (انظر تفصيل هذه الخاصية الأمازيغية، التي انتقلت إلى الدارجة، في مقال "عبقرية اللغة الأمازيغية وسر صمودها" على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/99751.html). وتجدر الإشارة إلى أنه رغم أن الدارجة الحالية دخلت عليها تعابير جديدة، انتقلت إليها من العربية المدرسية، ومن التلفزيون المغربي والفضائيات العربية، وفقدت بذلك بعضا من أصالتها المغربية التي اكتسبتها من اللغة الأمازيغية، مثل اختفاء عبارة "الماء باردين" (نعم "باردين" بالجمع، لأن "الماء" اسم جمع في الأمازيغية، فترجمت العبارة إلى العربية بمعناها الأمازيغي وقاعدتها النحوية الأمازيغية)، التي كان أبناء جيلي يسمعونها كل صيف في الأسواق الأسبوعية عندما كان "الكرّاب" (الساقي أو البائع المتجول للماء الشروب) ينادي بأعلى صوته: "لما باردين"، إلا أن البصمة اللسنية الأمازيغية، رغم كل ذلك، لا تزال تشكّل دائما الروح اللسنية لهذه الدارجة، حتى أننا نلمسها، نظرا للعلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر والشخصية، في تفكير المغاربة وسلوكهم، المختلفين عن تفكير وسلوك عرب الشرق الأوسط. لماذا تحضر الأساطير والمعتقدات الأمازيغية في الدارجة؟ وحضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة لا يقتصر على المعنى والتركيب، المكوّنين الجوهريين للغة، بل قد نجده حتى في الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، التي تعبّر عن تصور خاص بالشعب الأمازيغي للظواهر وللطبيعة وللأشياء وحتى للدولة. فعبارة "عروست شتا" أو "عروست نّوْ" (قوس قزح حرفيا: عروسة المطر)، التي لا تزال شائعة الاستعمال بالجهة الشرقية من المغرب وبالجزائر، هي ترجمة لأصلها الأمازيغي، الذي هو "تيسليت ن ونزار" (عروسة المطر). فهذا المفهوم، "تيسليت ن ونزار"، أي "عروسة شتا" (المطر) في ترجمتها الحرفية إلى الدارجة، يعبّر عن تصور أسطوري لدى الأمازيغيين، مفاده الاعتقاد أن تلك الألوان الجميلة الزاهية (قوس قزح)، التي تزيّن السماء بعد نزول الغيث، تمثّل العروسة الجميلة ذات الملابس المزوّقة والأنيقة، التي كان أجداد الأمازيغ يزفّونها إلى إله المطر، تعبيرا عن امتنانهم له وعرفانا منهم بجميله وفضله (Voir "ANZAR", par: G.CAMPS et S.Chaker, Encyclopédie Berbère, Edisud, Aix-en-Provence, 1989, vol. VI, p. 795-798) . ولهذا فهي تحمل اسمها الأصلي المطابق للمسمّى، أي "تيسليت ن ونزار" (عروسة المطر)، الذي ترجم حرفيا إلى الدارجة بعبارة "عروست شتا". وواضح أن هذا الاعتقاد الأسطوري لا أثر لوجوده في التراث العربي ولا المشرقي بصفة عامة، وبالتالي فلا يمكن أن يكون مصدره هذا التراث أو هذا المشرق. فهو اعتقاد أسطوري محلي أمازيغي. وهو ما يعني أن عبارة "عروست شتا"، المستعملة في الدارجة، هي ترجمة حرفية لأصلها الأمازيغي إلى العربية، وأن أول من نطق بها واستعملها لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يستعمل ويجيد الأمازيغية. وقريب من المفهوم الأسطوري ل"عروست شتا"، هناك مفهوم "عرس ذّيب"، الذي هو، أيضا، ترجمة حرفية إلى العربية لنفس المفهوم الأمازيغي الذي هو "تامغرا ن ووشّن" (عرس الذئب). ويطلق هذا المفهوم على حالة الاضطراب الجوي المفاجئ، الذي ينذر بأمطار عاصفية ورياح هوجاء مدمرة، لكن، وبشكل مفاجئ كذلك، سرعان ما تهدأ الرياح وتصفو السماء وتنقشع السحب وتسطع الشمس. لماذا يطلق في الأمازيغية على هذه الحالة من الاضطراب العرضي العابر "تامغرا ن ووشّن" (عرس الذئب)؟ لأن "تامغرا ن ووشّن"، هذه، قصة معروفة في التراث الشفوي الأمازيغي القديم، الذي تلعب فيه الحيوانات، وخصوصا الذئب والثعلب والقنفذ، دور "البطولة". ومضمون القصة أن الذئب، بعد أن ألحّ عليه والداه أن يتزوّج، وهو الذي كان برفض دائما الزواج، اشترط عليهما، كشرط تعجيزي يرمي من ورائه الإفلات من الزواج، أن يقام حفل زواجه في يوم ممطر ومشمس معا. فأصبحت هذه "الخدعة" (الجمع بين نقيضين طقسيين)، التي لجأ إليها الذئب، تطلق على حالة الطقس المشابهة لشرط الذئب، أي الحالة التي تسطع فيها الشمس بمجرد أن تبدأ الأمطار في النزول، للدلالة على أن تلك الحالة عبارة عن مجرد "خدعة" تشبه "عرس الذئب"، كما أراده واشترطه. وغني عن البيان أن هذه القصة، وما أعطته من وصف لحالة عابرة و"مخادعة" من الاضطراب الجوي، لا وجود لها في التراث العربي، لا الشفوي ولا المكتوب. فهي تراث محلي أمازيغي. ولهذا فعبارة "عرس ذّيب" لا معنى ولا استعمال لها، مثل "عروست شتا" كذلك، في أية لهجة عروبية. فهي ترجمة إلى العربية لأصلها الأمازيغي "تامغرا ن ووشّن". وما كان يمكن أن يقوم بهذه الترجمة إلا من كان أمازيغيا ويجيد الأمازيغية. ومن المصطلحات الأمازيغية التي حظيت باهتمام كبير بعد ترجمتها إلى العربية، وكانت موضوع العديد من الدراسات والبحوث، الاسم الحقيقي للدولة الحقيقية للمغرب، وهو مصطلح "المخزن"، المترجم من أصله الأمازيغي، الذي هو "أكادير" أو "أجدير". فاسم "أكادير" كان يطلق، كما هو معروف، على مكان يُختار بموقع محمي ومحصّن، يخصص لتخزين وحفظ المؤن والبذور والأسلحة والأدوات الفلاحية للقبيلة، مشكلا بذلك ما يسميه A.Adam "Grenier collectif fortifié"، أي مخزنا جماعيا محصّنا (A.Adam, "Agadir", Encyclopédie berbère, tome 2, Edisud 1985, p. 237 – 239).. وكان تنظيم "أكادير" يخضع لقوانين عرفية دقيقة، صارمة وآمرة يمتثل لها الجميع، تُلزم بانتخاب مجلس يشرف على تسيير "المخزن الجماعي" (أكادير)، يتكون من ستة إلى ثمانية أعضاء، منهم الرئيس (أمغار) والأمناء (إنفلاس)، كانت لهم صلاحية التقرير في كل ما يهم مصلحة القبيلة والجماعة. وهذا ما جعل من "أكادير" "مخزنا" للممتلكات القبيلة، ومقرا لاتخاذ القرارات التي تهم مصلحة هذه القبيلة. فباعتباره مؤسسة عمومية، اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، فقد كان يشكّل دولة القبيلة. فترجم معناه حرفيا إلى العربية ب"المخزن"، أي مكان التخزين والحفظ، إحالة على وظيفته الأولى. ثم عُممت التسمية، تمشيا مع التطور السياسي الذي عرفه تاريخ المغرب، إلى جهاز الدولة باعتبارها هي أيضا "أكادير"، لامتلاكها، هي كذلك، موارد عمومية وصلاحية اتخاذ قرارات تهم الجماعة كلها. وليس صدفة أن المكان الذي كان مقرا لحكومة جمهورية الريف كان يسمى ب"أجدير"، كما هو معلوم. فالذي وضع إذن مصطلح "المخزن" بالعربية للمرة الأولى وترجمه من الأمازيغية، لا بد أنه كان أمازيغيا ويعرف جيدا الأصل الأمازيغي لهذا المصطلح، والذي هو "أكادير". ولا يمكن أن يكون هذا المفهوم المخزن قد جاء إلى المغرب من البلاد العربية، لأنها لم تعرف مثل هذه المؤسسة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، ولا أثر لها إطلاقا في التراث والتاريخ العربيين. فمصدرها إذن محلي أمازيغي، وليس عربيا. فإذا كانت التسمية عربية (اسم مكان من فعل "خزن")، فمعناها ومضمونها أمازيغيان، لأنها مترجمة من الأمازيغية. لماذا أبدع الأمازيغ الدارجة، التي هي أمازيغية بألفاظ عربية؟ وحتى نفهم جيدا طبيعة حضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة، وحقيقة التطابق، في المعاني والتراكيب، بين اللغتين، علينا أن نفهم دافع الأمازيغيين إلى ترجمة أمازيغيتهم إلى العربية، لتعطي تلك الترجمة ذلك المنتوجَ اللسني الذي نسيمه بالدارجة. لأن العربية لغة القرآن، وبها يُفهم الإسلام وتمارس شعائره وفرائضه، فقد اقتنع الأمازيغ أن معرفة العربية هي جزء من معرفة الإسلام. لهذا أحبوا هذه اللغة، وأحبوا أصحابها العرب كذلك لأن نبي الإسلام عربي، وأقبلوا على تعلّمها، وأبدوا رغبة قوية وصادقة في استعمالها والتواصل بها، كما يفعل مستعملوها الأصليون، أي العرب. ولأن هذه العربية كانت قد فقدت وظيفة استعمالها في التخاطب اليومي، فلم يكن أمامهم من حلّ، حتى يظهروا كمتكلمين بالعربية التي أحبوها، سوى استعمال ذلك القدر من الكلمات العربية، التي تعلموها عبر التعليم الديني وحفظ القرآن والانتشار المحدود طبعا للكتابة، لكن في تراكيب وبمعاني لغتهم الأمازيغية، التي هي لغة تستعمل في التخاطب اليومي عكس العربية. فكانت بذلك "عربيتهم" ترجمة حرفية، مبنى ومعنى، لأمازيغيتهم، أي تعبيرا بالأمازيغية لكن بكلمات معجمية لا تنتمي إلى القاموس الأمازيغي الأصلي. ولأن الكلمات عربية، فقد اقتنعوا هم أنفسهم أنهم إنما يتحدثون "العربية"، رغم أن التركيب والمعنى أمازيغيان. فصنعوا بذلك عربية جديدة، أو أمازيغية جديدة، هي ما نسيمه الدارجة. وإذا كانت المقارنة بين الدارجة المغربية واللهجات العامّية الخليجية (المتداولة ببلدان الجزيرة العربية) تؤكد لنا، بما لا يدع مجالا للشك، أن الدارجة أقرب إلى الفصحى في معجمها من هذه العامّيات العروبية، فليس ذلك، كما يذهب المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، لأن هذه الدارجة هي لغة عروبية، ولذلك فهي قريبة من اللغة العربية الأصل، التي هي الفصحى. فهذا التفسير، الذي يتبجّح به التعريبيون كدليل على أن الدارجة تجمعها قرابة لسانية قوية بالعربية، تثبت أنها تنتمي إلى هذه اللغة العربية، يعجز عن تفسير لماذا تكون الدارجة هي الأقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الخليجية، مع أن المنطق يقتضي أن تكون هذه هي الأقرب من الدارجة إلى العربية، نظرا لوحدة الموطن الجغرافي (بلاد الجزيرة العربية) لكل من العربية وتنوعاتها اللهجية العروبية، ونظرا للوحدة الأصلية والتاريخية للسان المتداول بهذا الموطن، ونظرا لوحدة الشعب (الشعب العربي ببلدان الجزيرة العربية) المستعمل لهذا اللسان. فأن تكون إذن دارجة شمال إفريقيا، والمغرب خاصة، أقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الخليجية، التي تتقاسم معها نفس الأصل اللسني والتاريخي ونفس الموطن الجغرافي، فذلك يعني شيئين اثنين: أن الدارجة ليست لهجة عروبية جاء بها العرب إلى شمال إفريقيا، وإلا لكانت علاقتها بالعربية من نفس مستوى علاقة مثيلاتها من اللهجات العروبية الأخرى، التي تعتبر الدارجة واحدة منها كما يفترض التعريبيون. أن كونها أقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الحقيقية، فهذا دليل على أن مبدعيها ومستعمليها ليسوا عربا يتحدثون لهجتهم العروبية، وإلا لما كانت لهجتهم هذه أقرب إلى العربية بشكل تنفرد به عن باقي اللهجات العروبية الحقيقية. فما تثبته إذن القرابة المعجمية القوية بين الدارجة والعربية، ليس أن هذه الدارجة لهجة عروبية كما يرى التعريبيون، بل تثبت، عكس ذلك، أنها لهجة ذات أصل شمال إفريقي، أي أمازيغي. كيف ذلك؟ ترجع هذه القرابة القوية بين الدارجة والعربية إلى أن هدف الأمازيغيين كان، ولدوافع دينية كما أشرنا، هو استعمال العربية والتخاطب بها. ولهذا استعملوا، مع الاحتفاظ على معاني وتراكيب الأمازيغية للأسباب التي شرحنا، ما تعلموه وعرفوه من المعجم العربي الفصيح فقط، لأنهم لم يكونوا يعرفون من العربية إلا هذا الجانب المعجمي الفصيح، وليس كعرب الجزيرة الذين كانوا ربما يعرفون ويتداولون معجما آخر عامّيا يختلف، كثيرا أو قليلا، عن الفصحى، كما هو حال اللهجات العروبية اليوم بدول الخليج بالجزيرة العربية. وهذا ما يفسّر أن الدارجة المغربية هي أقرب إلى الفصحى في معجمها من اللهجات العروبية الخليجية. فمثلا، نستعمل في الدارجة ألفظا من معجم العربية الأصلية الفصيحة، والتي ربما لا تعرفها ولا تستعملها كما يظهر ذلك من خلال "معجم المصطلحات العربية العامّية" اللهجات العربية الخليجية، من قبيل: "حرن" (في المعجم العربي، حرنت الدابة: وقفت ورفضت الانقياد وامتنعت عن السير)، كما في العبارة الدارجة: "الحمار حرن بغاتش يمشي)، "هوّد" (في المعجم العربي، هَوَّدَ الرَّجُلُ فِي السَّيْر: مَشَى رُوَيْداً بَطِيئاً)، كما في العبارة الدارجة: "يالله نهودو لمدينا"، "هرس" (في المعجم العربي، هرَس الشَّيءَ: دقَّه)، كما في العبارة الدارجة: "هرّس الكاس"، "حدر" (في المعجم العربي، حدَّر الشَّيءَ: أنزله من أعلى إلى أسفل)، كما في العبارة الدارجة: "حدر راسك"، "حرّش" (في المعجم العربي، حرّش: هيّج وحرّض)، كما في العبارة الدارجة: "حرّش عليه صحابو"، "برك" (في المعجم العربي، بَرَكَ الرَّجُلُ: ثَبَتَ، أَقامَ)، كما في العبارة الدارجة: "برك لرض"، "غُرّاف" (في المعجم العربي، الغرّاف: كُوبٌ مِنَ الطِّينِ لِشُرْبِ الْمَاءِ)، كما في العبارة الدارجة: "عمّر لغرّاف بلماء"، "أجي" (أمر "جاء"، بمعنى "تعال")، كما في العبارة الدارجة: "أجي فصبح"، "شارف" (في المعجم العربي، الشَّارِفُ من الأَشياء: القديم العتيق حَيَوانٌ شارِفٌ: مُسِنٌّ، هَرِمٌ)، كما في العبارة الدارجة: "جدو شارف"، "حذاه" (في المعجم العربي، حاذى الشّيء: كان بإزائه، مقابلا له، قريبا منه)، كما في العبارة الدارجة: "كلس حذاه"، أي جلس بجواره، مقابلا له، قريبا منه، "النّو" (في المعجم العربي، النَّوْءُ: المَطَرُ الشديدُ)، كما في العبارة الدارجة: "طاحت بزّاف ديال النّو" (اللفظ شائع الاستعمال بالمنطقة الشرقية وبالجزائر)، "النعاس" (في المعجم العربي، النعاس: النوم. وفي القرآن الكريم: "إِذ يَغْشاكم النعاس أَمَنَةً منه")، كما في العبارة الدارجة: "بيت نعاس"، أي غرفة النوم. "باسل" (في المعجم العربي، باسل: حامض، بلا طعم ولا لذة. وكلام باسل: جارح ولا معنى له)، كما في العبارة الدارجة: "لكلام لباسل"، أي الكلام غير المؤدب، الخارج عن الموضوع، الذي لا معنى له ولا فائدة منه، "خامج" (في المعجم العربي، خمج الشيء: نتن وفسد وتعفّن)، كما في العبارة الدارجة: "حوت خامج"، أي فاسد غير صالح للاستهلاك، "نقز" (في المعجم العربي، نقز الحيوان ونحوه: قفز ووثب)، كما في العبارة الدارجة: "جاء إنقّز السور أوطاح"، "ناض" (في المعجم العربي، ناض: تحرّك وتململ)، كما في العبارة الدارجة: "ناض من نعاس"، "طنز" (في المعجم العربي، طنز به: سخر واستهزأ)، كما في العبارة الدارجة: "باراكا ما طنز علي"، أي كفّ عن السخرية مني والضحك علي، "خربق" (في المعجم العربي، خربق الشيء: قطّعه وشقّه، وخربق العمل: أفسده)، كما في العبارة الدارجة: "راك خربقتي هاذ لخدمة"، أي أفسدت العمل ولم تقم به على الوجه المطلوب والسليم، ... وعشرات أخرى من الألفاظ الفصيحة التي لم تعد مستعملة، ليس في اللهجات العروبية الحقيقية فقط، بل حتى في العربية الفصحى المكتوبة نفسها، لكنها موجودة في المعاجم العربية بنفس معناها المستعمل في الدارجة، مما يؤكد أن الذين استعملوها للمرة الأولى في الدارجة لم يكونوا يعرفون غيرها، أي لم يكونوا يعرفون غير المعجم العربي الفصيح، الذي سيوظّفونه في الدارجة مع الإبقاء على معاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، وهو ما أنتج تلك اللغة الجديدة التي نسميها الدارجة، والتي ليست عربية العرب، وإنما هي عربية الأمازيغ، الذين أبدعوها وابتكروها بموطنهم في شمال إفريقيا ولم تنتقل إليهم من خارج هذا الموطن. هذا الاستعمال للألفاظ الفصيحة، بمعاني وتراكيب أمازيغية، يبيّن أن الأمازيغيين لم يكونوا يعرفون من معجم العربية إلا ما ينتمي منها إلى الفصيح. وهذا يعني أن اللغة العربية الوحيدة التي كانت منتشرة انتشارا محدودا بطبيعة الحال ، بالبلاد الأمازيغية، عبر الكتابة والتعليم الديني وحفظ ما تيسر من القرآن لأداء الصلوات، هي العربية العالمة الفصحى، أي عربية القرآن والكتابة والشعر... وواضح أن هذه اللغة الجديدة، المستعمِلة لمعاني وتراكيب الأمازيغية لكن بألفاظ عربية، ما كانت لتوجد البتة، كما شرحنا ذلك بمثال وضع الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية في القارة الأمريكية، لو أن العربية كانت لا تزال لغة تخاطب في الحياة اليومية، لأن الأمازيغيين، في هذه الحالة، بدل أن يصنعوا الدارجة حتى يتكلموا العربية، لكانوا تكلموا العربية الحقيقية، أي بمعانيها وتراكيبها، ولما احتاجوا إلى عربية تستعمل تراكيب ومعاني الأمازيغية. ولأن دافعهم كان هو استعمال العربية والتخاطب بها، فقد احتفظوا منها بما كان يستعمل أصلا في التواصل الشفوي اليومي، ولم يحتاجوا بالتالي إلى تغييره بصياغته طبقا لمعاني وتراكيب أمازيغيتهم. وهذا ما يفسّر أن التطابق بين تعابير الأمازيغية وتعابير الدارجة ليس مطلقا وكليا، بمعنى أن كل تعبير في الدارجة هو ترجمة لنظيره في الأمازيغية. فمثلا العبارة الدارجة "هاذ الرجل"، هي تعبير عربي معنى وتركيبا لأنه لو كان ترجمة حرفية لنظيره في الأمازيغية، لكنا نقول في الدارجة: "الرجل هذا"، وليس "هاذ الرجل"، لأن اسم الإشارة في الأمازيغية يأتي بعد الاسم المشار إليه، وليس قبله كما في العربية. فهذه العبارة الدارجة بقيت صيغتها عربية أصلية لأنها بقيت مستعمَلة في التخاطب والتواصل الشفوي، وليس كعبارة: "هذا اللحم لا زال نيئا"، التي لم يعد أحد يستعملها في التخاطب، مما اضطر معه الأمازيغيون إلى التعبير عنها بمعنى لغتهم الأمازيغية فقالوا: "هذا لحم باقي خضر". لم يكن هناك إذن داعٍ ولا معنى ليغيّر الأمازيغيون معاني وتراكيب التعابير العربية التي استمر استعمالها في التخاطب بصيغتها الأصلية، ما دام أن هدفهم كان هو الكلام بالعربية. ما هي العوامل الثلاثة للتعريب الطوعي للأمازيغ؟ (يتبع)