قبل 30 سنة من الآن، كان شهر مايو في الصين يكتسي أهمية خاصة، فما إن يقترب حتى يبدأ التناصح في ما بين الأصدقاء وأفراد العائلة والحث المتبادل على الابتعاد عن كل ما قد يجعل الفرد تحت طائلة حملة "الضربة الصارمة".. هذه الأخيرة كانت عبارة عن حملة تدوم ثلاثة أشهر، تنطلق في شهر مايو من كل سنة، وتقوم خلالها الشرطة باعتقال كل من يهدد الأمن العام من لصوص وقطاع طرق، وكل من دخل في شجار حتى ولو كان بسيطا بالأيدي. بل ويشمل الاعتقال أيضاً كل من عق والديه أو تهجم لفظيا على عناصر الأمن. ولا يخضع المعتقلون ضمن حملة "الضربة الصارمة" هذه إلى العقوبات الحبسية التقليدية، بل أفردت لهم الصين نظاما خاصا مستقلاً عن النظام القضائي سمته "إعادة التأهيل عن طريق العمل". ولا تخفى الجوانب الستالينية لهذا النظام الذي استلهمه "ماو تز تونغ" في البداية من الاتحاد السوفياتي، وتطور مع الوقت أيام الانفتاح. ففي سنة 1955، وجدت الحكومة الصينية نفسها أمام العديد من المعارضين للنظام الشيوعي الوليد، خاصة من أعضاء الحزب الوطني الذين لم يتمكنوا من الفرار إلى تايوان مع الزعيم "تيان كأي تشيك"، وكذلك أولئك الذين ثبت تعاونهم مع الاحتلال الياباني من أتباع "وانغ جين وي". كانت العقيدة الصينية وقتئذ، بل ومنذ حرب العصابات، أن يتم الاعتناء بالأسرى، وأن يتم إخضاعهم ل"تربية" خاصة حتى يعلنوا الولاء للحزب الشيوعي. ونجحت هذه الطريقة في استقطاب الملايين ممن تم قلب قناعاتهم من معارضة الحزب الشيوعي إلى مناصرته، وبفضلهم تمكن "ماو تز تونغ" من تكوين جيش عرمرم اعتمد عليه ضد القوى الخارجية. ولم يكن يخضع نظام "إعادة التأهيل عن طريق العمل" لأحكام القانون الجنائي، بل كان عبارة عن أحكام إدارية تمكن السلطات الأمنية من "حبس" المتهم المدان لمدة أقصاها أربع سنوات. وخلال هذه المدة، يتم إخضاع الشخص المعني لنظام شبه عسكري، مرفوق بتكوين أيديولوجي مكثف من أجل تلقينه مختلف المبادئ الأخلاقية والمعاملات. وفي المقابل، يحصل المدان على أجرة، منخفضة نسبيا، تسمح له بالاندماج في المجتمع بعد إنهاء مدة الاحتجاز. وكانت مراكز الاحتجاز، أو الاعتقال، عبارة عن معامل أو ورشات إنتاج مملوكة للدولة، تقع في أقصى نقطة ممكنة من مقر سكنى المدان حتى يتم جعل الزيارات العائلية في منتهى الصعوبة، وبالتالي تحقيق الردع المتوخى. وعلى أي، فقد خضع هذه النظام لسوء استخدام كبير أثناء الثورة الثقافية، إذ استخدم ضد المعارضين والمثقفين بشكل كبير. في سنة 1980، خضع نظام "إعادة التأهيل عبر العمل" لإصلاح كبير، إذ حددت فيه العقوبات بين سنة واحدة وثلاث سنوات، وبات يخضع له أولئك الذين يرتكبون أعمالا مخالفة للنظام العام، لكن لا تشملها أحكام القانون الجنائي. إلا أن اللافت في هذا الإصلاح الجديد هو أن عقوبته شملت حتى العاطلين الذين لا يبذلون أي مجهود في البحث عن العمل ويقضون أوقاتهم في التسكع في الشوارع. وتم إلغاء العمل بهذا النظام في 28 دجنبر 2013، وذلك على هامش المؤتمر الوطني الشعبي الثاني عشر، فتم إطلاق سراح المحتجزين بمقتضاه أو إحالتهم على القضاء. وعلى العموم فإن أحد الأسباب الكامنة وراء إلغاء هذا النظام كانت الانتقادات التي تعرض لها في الأوساط الإعلامية الغربية باعتباره إجراء منافيا لحقوق الإنسان، ومبدأ ضرورة ضمان المحاكمة العادلة لمختلف المتهمين.. إلا أن أبرز الأسباب أن المجتمع الصيني تطور بشكل لم يعد في حاجة إليه على ما يبدو. وهناك اعتقاد في الأوساط الصينية مضمونه أن هذا النظام ساهم بشكل كبير في تمتيع الصين ببيئة آمنة وفي الاحتفاظ بنسب الجرائم في مستويات منخفضة. وعليه، فالسؤال الذي يفرض نفسه علينا هنا في إطار النقاش الدائر حول الجريمة، وفي خضم حملة "زيرو كريساج"، هو هل يمكن استلهام جزء من هذه التجربة لمعالجة بعض الظواهر الاجتماعية الغريبة عن قيم مجتمعنا المسالم؟.. يبدو أن التعجيل بإقرار العقوبات البديلة مع إعطاء كافة الضمانات الحقوقية للمتهمين في إطار التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان بات أمرا ملحا، ومن الممكن أن يستقبل المغاربة الأمر بكل الترحيب اللازم! *باحث في العلاقات الصينية الإفريقية بمعهد السياسة بجامعة صن يات سين