بعد وفاة الزعيم السابق للبوليساريو، محمد عبد العزيز، تم اختيار إبراهيم غالي رئيسا للجنة التحضيرية للإشراف على الإعداد للمؤتمر الاستثنائي لانتخاب الأمين العام الجديد للجبهة؛ حيث تقرر بشكل مفاجئ قبل انعقاد المؤتمر الإبقاء على رئيس اللجنة التحضيرية على رأس قيادة البوليساريو خلفا لمحمد عبد العزيز. فما هي الأسباب والخلفيات التي رجحت كفة الزعيم الجديد على غيره من القيادات الموجودة؟ لماذا لم يتم الدفع بهذا الرجل طيلة فترة مرض عبد العزيز لتولي شؤون الجبهة؟ حتى لو كان سيناريو خلافته لعبد العزيز مطروحا؟ لماذا لم يكلف الرجل بمنصب أكبر بعد المؤتمر الرابع عشر عوض شغله أمين التنظيم السياسي للجبهة؟ ما سر تغير استراتيجية الجزائر التي كانت تراهن على استحضار شخصية جديدة لامتصاص الغضب الشعبي؟ وما هي العوامل والسياقات التي فرضت تقديم مرشح وحيد في خرق سافر لأنظمة وميثاق الجبهة؟ ماهي الصفات والمميزات التي يتسم بها هذا الزعيم؟ وما الرهانات والتحديات المطروحة أمامه؟ وقبل محاولة الاجابة عن هذه الاسئلة والحديث عن الخلفيات والحيثيات التي تحكمت في اختيار إبراهيم غالي لزعامة البوليساريو، لابد من الإشارة إلى أنه طيلة مرحلة الإعداد للمؤتمر الاستثنائي ظهرت بعض المؤشرات التي تعكس التخوف والارتباك الحاصل، سواء داخل الأوساط العسكرية الجزائرية أو في صفوف قيادات الجبهة، من إمكانية حدوث تصدعات وانشقاقات بسبب الفراغ الموجود والاحتقان السائد داخل المخيمات نتيجة ظهور بعض التيارات المعارضة مثل "حركة التغيير"، خاصة بعد أن برزت عدة خلافات حول منصب الأمانة العامة جراء تداول عدة أسماء لشغل منصب الأمين العام. الولاءات القبلية والدين والإغراءات في خدمة المرشح الوحيد مخافة خروج الأمور عن السيطرة، عملت القيادات الحالية، بتنسيق مع الجزائر، على بلورة إستراتيجية استعجالية ترتكز على مستويين: عمودي وأفقي. على المستوى الأول، وفي خطوة مفاجئة تعكس الوجه السلطوي لهذا التنظيم، قرر مكتب الأمانة الوطنية لجبهة البوليساريو تقديم إبراهيم غالي مرشحا لسد الشغور الحاصل في منصب الأمين العام للجبهة و"رئيس الدولة"، بحسب بلاغه؛ حيث تم تبرير هذا الإجراء "استجابة لمطالب القاعدة الشعبية التي ألحت خلال الندوات السياسية التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي بضرورة تقديم القيادة السياسية لمرشح اجماع لسد باب أي انشقاق من شأنه التأثير على وحدة الصف الصحراوي في هذه المرحلة الحساسة". أما المستوى الثاني، فيرتكز بالأساس على محاولة خلق حالة من التجييش والتعبئة في صفوف مخيمات تندوف، وذلك بهدف إنجاح المؤتمر الاستثنائي وتجاوز حالة الاحتقان والتوتر ودفع جميع المكونات القبلية والشعبية إلى قبول القيادة الجديدة والالتفاف حولها؛ حيث تم توظيف جميع القنوات، بما فيها الروافد القبلية وتقديم إغراءات ووعود تتعلق بإعادة توزيع بعض المناصب والمنافع على الغاضبين. كما وصل الأمر إلى توظيف المؤسسة الدينية، بعدما تمت الاستعانة بفقهاء الجبهة لهذا الغرض؛ إذ إن خطب عيد الفطر التي كان يفصلها يومان عن المؤتمر، تضمنت في مجملها بعض الإشارات التي تعكس هواجس وتخوفات الجبهة؛ بحيث دعا خطباء مختلف مصليات مخيمات تندوف الساكنة إلى "الوحدة والتسامح والتماسك ورص الصفوف بغية التصدي لمطامع ومؤامرات الأعداء الذين لا يألون جهدا في القضاء عليهم ونشر الحقد والفتن بينهم"، مطالبين ب"وضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، والابتعاد عن الخديعة والخيانة". وأشارت بعض الخطب كذلك إلى أهمية الابتعاد عن التنافس المذموم في "طلب الإمارة"، في إشارة واضحة للصراع المحتدم حول منصب الأمين العام، كما دعا الخطباء الجميع "إلى خدمة الصالح العام ونبذ كافة مظاهر وأسباب الفرقة والاختلاف"، مستحضرين "الظرف الاستثنائي" الذي تمر منه ساكنة تندوف بعد وفاة محمد عبد العزيز. وذهب إمام مصلى ما يسمى مخيمات السمارة أبعد من ذلك في حديثه بالقول: "اعلموا أن الإمارة في الإسلام ليست تشريفا بقدر ما هي تكليف، وهي من أخطر أنواع الحكم؛ حيث تعظم كلما عظمت المهمة". القبلية وحسابات الجزائر يبعدان "مرشحين كبار" وبهذا الإجراء التحكمي وغير الديمقراطي المتمثل في تقديم مرشح وحيد، تم استبعاد بعض الأسماء التي كانت مرشحة بقوة لشغل منصب الأمانة العامة، ويأتي في مقدمتهم عبد القادر الطالب، الذي يشغل منصب "الوزير الأول"، والذي كان يشرف بشكل فعلي على تدبير شؤون المخيمات منذ المؤتمر الرابع عشر، وطوال فترة غياب عبد العزيز بسبب المرض، تولى مهمة "الزعامة بالنيابة" في إدارة شؤون الجبهة وحضوره كذلك جميع اللقاءات والاجتماعات الهامة مع القيادات العسكرية الجزائرية، وربما قد يكون سبب اقصاء هذا الرجل مرده الانتماء القبلي، بحكم انتمائه إلى قبيلة أولاد دليم، لاسيما وأن نسبة أكثر من تسعين في المائة من ساكنة المخيمات من قبيلة الركيبات. أما الشخصية الثانية التي كانت مرشحة وتم اخراجها من دائرة التنافس، فهو البشير مصطفى السيد، باعتباره مؤسس الجبهة وشقيق الوالي مصطفى السيد، الذي يعتبر بالنسبة للصحراويين الانفصاليين بمثابة "الأب الروحي"، ويحظى بمكانة ورمزية كبيرة في أوساط المخيمات. وإبعاده بهذه الطريقة ربما يرتبط بتصفية حسابات ونزاعات داخل أجنحة السلطة بالجبهة حسمتها المؤسسة العسكرية الجزائرية لصالح جناح إبراهيم غالي لأسباب تكتيكية. حضر المؤتمرون والصناديق وغابت الديمقراطية بحسب اللجنة المشرفة على عملية الانتخاب، فقد تم الإعلان عن مرشح وحيد لمنصب الأمين العام لجبهة البوليساريو وهو إبراهيم غالي، وبطريقة غريبة ومبتذلة تعيد إلى الأذهان المسرحيات العربية التي تقام تحت مسمى الديمقراطية لكنها في العمق تؤسس عادة للديكتاتورية، شرع المندوبون في "عملية التصويت" موزعين على 20 مكتبا للتصويت، وبحضور 2433 مؤتمرا. ويمكن تفسير هذا السلوك الستاليني الذي ما فتئت جبهة البوليساريو تنهجه مند تأسيسها إلى اليوم، بعدم قدرة هذا التنظيم على استيعاب الأصوات المعارضة والرافضة للسياسات والتوجهات العامة التي ترتكز على التبعية التامة للجزائر. فعدم المجازفة بتقديم مرشح ثان لخلق نوع من التنافس ولو شكليا خلال هذا المؤتمر الاستثنائي ينم ويؤشر عن وجود أزمة عميقة وتخوف كبير لدى العسكر الجزائري وقادة البوليساريو من إمكانية خروج الأمر عن السيطرة، وبالتالي انفجار وتفكك التنظيم من الداخل. والمفارقة الصارخة أن اللجوء إلى سياسة فرض المرشح الوحيد بهذه الطريقة في الظرفية الحالية تحت عدة مسوغات مثل "الظرف الاستثنائي" و"المرحلة الحساسة" وغيرها من الشعارات التي اعتمدتها الجبهة طيلة 40 سنة، يتناقض ويتعارض مع ادعاء هذا التنظيم تمثيليته الشرعية للصحراويين، بحكم أن سؤال التمثيلية يقترن دائما بحرية الاختيار؛ حيث إن الأمر في هذه الحالة حسم مسبقا بمرشح وحيد. خلفيات اختيار إبراهيم غالي والتحديات المطروحة بخصوص الدوافع والعوامل التي رجحت كفة إبراهيم غالي على منافسيه في هذه الظرفية الحساسة التي يمر بها هذا التنظيم الانفصالي، يمكن القول إن اختيار الزعيم الجديد محكوم بأربعة خلفيات، ثلاثة منها تعتبر أساسية، الأول يتعلق بالرضا أو ثقة المؤسسة العسكرية الجزائرية؛ بمعنى إن توفر شرط الولاء التام للجزائر وأجندتها العدائية للمغرب يعتبر محددا رئيسيا، خاصة أن إبراهيم غالي شغل منصب "سفير" الجبهة لدى الجزائر لمدة 12 سنة، ويعتبر هذا المنصب الثاني من حيث الأهمية بعد الأمين العام في هيكلة وتراتبية تنظيم البوليساريو. أما الشرط الثاني فيرتبط بالانتماء إلى المكون القبلي النافذ داخل المخيمات؛ حيث ينحدر الزعيم الجديد من أكبر قبائل الصحراء، وهي قبيلة الركيبات؛ إذ لا يزال هذا المكون يشكل محددا أساسيا في التوازنات الاجتماعية داخل النسيج الصحراوي. وثالثا أن يكون من الجيل الأول المؤسس الذي حمل السلاح ضد المغرب، وتقلد مناصب عسكرية؛ حيث شغل إبراهيم غالي منصب "وزير الدفاع" لفترة طويلة وعلى دراية كبيرة بتعقيدات ملف النزاع سياسيا وعسكريا وإقليميا ودوليا. ورغم توفر هذه الشروط في الوافد الجديد، غير أنها لم تكن حاسمة في الاختيار، على اعتبار أن هذا "البروفايل" موجود في صفوف القيادات الحالية التي لم تكن تخفي رغبتها وطموحاتها في الترشح لمنصب الأمانة العامة؛ بحيث إن الدافع الجوهري الذي رجح كفة إبراهيم غالي على منافسيه وجعل الجزائر تدفع به إلى الواجهة وتدعم ترشحه بقوة، هو محاولة تسويق واستغلال "نظافة يد الرجل" و"شعبيته الكبيرة" داخل مخيمات تندوف، بهدف احتواء الاحتقان الموجود. وبلغة علم السياسة يعتبر هذا الرجل مرشح القواعد وليس مرشح النخبة؛ إذ يحظى، وبعكس علاقته المتوترة ببعض القيادات، باحترام وثقة جميع الشرائح الشعبية، خاصة الفئات الشابة الغاضبة والناقمة على الوضع الحالي بتندوف؛ إذ إن تماسك ووحدة تنظيم البوليساريو في المرحلة الراهنة يعتبر من بين الرهانات الأساسية التي تؤرق العسكر الجزائري، وهي التي ساهمت في اختيار إبراهيم غالي باعتباره شخصية تتوفر على المقومات ومؤهلة لتلعب هذا الدور. فالقائد الجديد لم يسبق له أن تورط في ملفات فساد مثل البوهالي، ولم يرسل أبناءه للدراسة في الخارج، سواء في اسبانيا أو فرنسا أو كندا، كغيره من القيادات الحالية.، فهو معروف عنه الزهد ويميل إلى البساطة ويفضل نمط عيش الصحراويين التقليدي، مثل الحفاظ على الخيمة كفضاء للعيش باعتبارها أحد الروافد التي تربط الصحراوي بالأرض والتقاليد، بالإضافة إلى قربه وانفتاحه وتواصله مع شيوخ وشباب المخيمات بشكل دائم. غير أن "نظافة يد" هذه الشخصية يعتبر سلاحا ذا حدين، بقدر ما يسمح له بأن يحظى بإعجاب وتقدير بعض الشباب الذين يراهنون عليه لضخ دماء جديدة ومحاربة الفساد المستشري بالتنظيم، بقدر ما سيثير حفيظة وسخط البعض الآخر، خاصة القيادات التي راكمت ثروة وأموالا طائلة من وراء بيع المساعدات، الأمر الذي سيؤدي دون شك إلى وقوع اصطدامات وخلافات حادة بين الغالي وبعض القياديين البارزين. وفي الأخير، فالتحدي البارز الذي كان سببا في اختيار إبراهيم غالي خلفا لمحمد عبد العزيز يرتبط برهان المحافظة على وحدة جبهة البوليساريو في ظل الأوضاع الداخلية التي تتسم بالاحتقان وقرب الانفجار، سواء داخل مخيمات تندوف أو داخل الجزائر البلد الحاضن لهذا التنظيم، خاصة في ظل مرض وعجز الرئيس بوتفليقة والصراع المحتدم بين أجنحة السلطة بهذا البلد. هذا بالإضافة إلى التحولات الجيوسياسية التي عرفها الملف خلال المحطات الأخيرة؛ حيث أدت إلى انسداد الأفق وانحسار المد الانفصالي على مجموعة من الجبهات، بفعل عزلة الجزائر إقليميا وعربيا ودوليا. كل هذه المعطيات تجعل مهمة الزعيم الجديد صعبة وفي أبعد تقدير شبه مستحيلة، لأن جميع المؤشرات تنذر بقرب حدوث موجة جديدة من الانتفاضة والتمرد داخل المخيمات على غرار ما وقع سنة 1982. * باحث في العلوم السياسية