من أصعب المحاضرات التي ألقيتها في مساري التعليمي كانت تلك التي ألقيتها اليوم في السجن المركزي لمدينة كوانجو، لفائدة الأخوة الأفارقة المسجونين في الصين. المحاضرة تدخل في إطار إبراز التزام الصين بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق المساجين (الصينيين والأجانب) ومساعدتهم على الاندماج بعد انتهاء مدة محكوميتهم. بكل موضوعية، يمكن رصد ظروف المعيشة الملائمة الموفرة لهؤلاء المساجين، ويمكن أن يخيل للزائر أنه في جامعة أو مجمع سكني لمتوسطي الدخل؛ فالسجن يتوفر على أقسام لتعلم اللغات والمعارف، وكذلك أوراش لتعلم بعض الحرف، كإصلاح السيارات والإلكترونيات؛ وفضلا عن ذلك يتوفر على المرافق الرياضية الضرورية، من ضمنها ملاعب كرة القدم، وكرة السلة وغيرها من الرياضات. ومن ناحية أخرى، يتقاضى السجناء داخل السجون الصينية أجورهم عن أي عمل يقومون به، وهي أجور مساوية لتلك التي يتقاضاها باقي العمال خارج السجون. وتوضع الأجور في حسابات المساجين الشخصية، ويسمح لهم بالتسوق وشراء أغراضهم عبر الإنترنت وبالأثمان المتاحة في السوق. وعلى أي، فهذا الواقع كما عاينته ينفي كل ما يروجه الغرب عن السجون الصينية. وعلى العموم، بفضل هذا البرنامج الذي أطلقه مركز التدريب الذي أسهر عليه بشراكة مع إدارة السجون المحلية، سيتمكن الأجانب لأول مرة من الاستفادة من هذا النوع من التعليم في الصين. وتم تدشين هذا البرنامج بمحاضرة حول موضوع كيفية رسم أهداف الحياة من قبل الأفارقة المقيمين في الصين، في ظل تطور العلاقات الصينية الإفريقية. وتكمن الصعوبة التي واجهتها في هذه التجربة في كيفية إقناع شخص محكوم بالمؤبد أو 20 سنة برسم أهداف لحياته..على أي، كان لاستحضار تجربة نلسون مانديلا فضلا كبيرا في المساعدة على الإقناع. بعض الأخوة الأفارقة المساجين سبق لهم زيارة المغرب وفرحوا كثيرا بمجرد معرفتهم بجنسيتي، وأكد جميعهم انطباعهم الجيد عن المغرب، واعتبارهم له بأنه بلد كرم و"بلاد ولاًّفة". انطلقت في هذه المحاضرة بالتعريف بالحضارة الإفريقية التي انطلقت قبل 4.4 ملايين سنة أو أكثر، قبل أن تصل إلى وقتنا الحاضر، مارة بكل من الحضارة الفرعونية، والمغاربية في الأندلس وتومبكتو، وكذلك الحضارات التي بناها ملوك الكونغو وزيمبابوي، والتي مافتئ المستعمر يحاول إقناعنا بعدم وجودها أصلا. بعد ذلك انتقلت إلى شرح نقاط التشابه بين التاريخ الصيني والإفريقي الحديث، وأبرزت أوجه الشبه بين ما عانته الصين ذات التاريخ العريق جدا، وما عانى منه الأفارقة على يد المستعمر، لتبين مدى نجاح الصين في تجاوز مطب الاستعمار ومخلفاته.. وخلصت في النهاية إلى واجبنا كأفارقة مقيمين في الصين في التعلم من التجربة الصينية والاستفادة منها عند العودة إلى بلداننا. حاولت شرح أهمية الوحدة، وكيف أنها تهدد في جوهرها مصالح المستعمرين الجدد، وضربت المثل على ذلك بالرغبة في تقسيم المغرب عن صحرائه بدلا من السعي إلى اتحاد مغاربي يصبح مثالا يقتدى به في القارة الإفريقية. بعد ذلك تم التطرق إلى العناصر التي يجب أن تشملها الأهداف المسطرة وطريقة تحديد هذه الأهداف. وكنموذج، تم أخذ مثال شخص يريد فتح محل لإصلاح السيارات في بلده بعد 10 سنوات، وكيف يجب البدء من الآن بتعلم اللغة الصينية وإحراز الشواهد التقنية في مجال إصلاح السيارات. كان هناك تفاعل كبير طبعته تصفيقات كثيرة، كما علته بعض الضحكات والقهقهات في العديد من المناسبات بشكل عكس بصدق طبيعتنا الإفريقية المرحة؛ وهو ما آثار إعجاب واستغراب حراس السجن الصينيين، الذين فوجئوا برؤية الابتسامة والفرح على محيى السجناء لأول مرة. في الأخير اغتنمت الفرصة لأبارك للمسلمين منهم عيد الفطر، ولأعبر لهم عن متمنياتي الخالصة بأن يعانقوا الحرية في أقرب وقت، وأن ينجحوا في نقل هذه التجربة إلى بلداننا والاستفادة منها على أحسن وجه. بضع ساعات وراء الأسوار جعلتني أحس بمدى المعاناة التي يمكن أن تواجه كل سجين مسلوب الحرية، لكنها في الوقت نفسه جعلتني أفهم سر النجاحات الباهرة التي غالبا ما يحققها الأشخاص الذين كتب لهم أن يمروا بوضعيات صعبة في حياتهم. أتوقع نجاحا باهرا لجل هؤلاء المساجين الذين كتب لي اللقاء بهم.. وسر هذا التوقع هو الأمل الذي ينبعث من عيونهم، والذي لا يمكن أن تخطئه عين. متمنياتي لهم بالحرية في أقرب وقت، فالحرية أغلى ما يمكن أن يملكه إنسان. *باحث أكاديمي في العلاقات الصينية الإفريقية بجامعة صن يات سن بمدينة كوانجو