شاركت في ندوة في ليلية رمضانية في موضوع: الديموقراطية وحدود العلاقة بين الدين والسياسة،من تنظيم مركز مدينتي للتكوين والإعلام بمدينة آيت ملول،السبت25يونيو2015،ضمن حلقات دراسية ينظمها هذا المركز النشيط خلال شهر رمضان،ويضم نخبة من مثقفي مدينة أيت ملول،و فئة موهوبة من المهتمين بالشأن الثقافي.حضر الندوة جمهور واسع ومتنوع،وعرفت نقاشا ساخنا واختلافا واسعا،وتنوعا في زوايا النظر.وما أثار انتباهي أن كل المتدخلين كان كلامهم في الدين أو عنه،ولم نتكلم في الديموقراطية ولا في السياسة إلا لماما،أما نقاش الحضور فكان بكامله حول الدين والتدين والحركات الإسلامية والسلطة الدينية الرسمية.أستنتج من هذا أن الدين هو نقطة الجذب الأولى،موضوعا واهتماما،في النقاش العمومي في المغرب اليوم،سواء عند المفكرين والمثقفين والأكاديميين، أو عند الفاعلين السياسيين،أو عند الحقوقيين،أو عند الإعلاميين.وقد ذكرني نقاش هذه الليلة الرمضانية بأجواء سنة 2009 التي عرفت حدثا فكريا مهما وهو تنظيم معهد نيويورك للمعرفة العامة ومجلس بحوث العلوم الاجتماعية وجامعة ستوني بروك لحلقة نقاشية فكرية حول كتاب : قوة الدين في المجال العام.وهو كتاب يؤرخ لحدث فكري وأكاديمي هام وقع سنة2009 في مدينة نيويورك.فقد تجمع زهاء ألف شخص في طابور،كما يحكي محررا الكتاب:إدواردو مانديتا وجوناثان فانانتويربن،حول المجمع، وغصت القاعة التاريخية الكبرى بالحضور للاستماع إلى جوديت بتلر،ويورغن هابرماس،وتشالزتيلر،وكورنيل وست،يقدمون تصوراتهم حول الدين في المجال العام لأزيد من خمس ساعات من النقاش الحار والاختلاف المثمر.وأدار الحلقة النقاشية :كريغ كالهون،مدير مجلس بحوث العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك،صاحب كتاب: الأمم لها أهميتها:التاريخ والحلم الكوزموبوليتي،وكتاب:سوسيولوجيا العلم والسوسيولوجيا بوصفها علما. وكان الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع يورغن هابرماس مثيرا في رؤاه وتصوراته؛فقد أعاد تركيب ماذكره في كتبه الأخيرة:كتاب مستقبل الطبيعة البشرية،وكتاب الغرب المنقسم،وكتاب:بين النزعة الطبيعية والدين:مقالات فلسفية.واصطدم في الحلقة النقاشية مع الفيلسوف الكندي وأستاذ العلوم السياسية والفلسفة تشالس تيلر،صاحب كتاب: تنويعات الدين اليوم:إعادة النظر في وليم جيمس،وكتاب:التخيلات الاجتماعية الحديثة،وكتاب:عصر العلمانية. فقد انطلق مسير الحلقة كريغ كالهون من إشكال-أرضية نقاش وهو:أن الدين لايجب أن يعامل بوصفه حالة خاصة،سواء أكان ذلك بالنسبة للخطاب السياسي أم بالنسبة للعقل والجدال عموما؛فالدين ببساطة لحظة واحدة في تحد أعم هو التنوع بمافيه التنوع في الآراء الشاملة بصدد الخيروالشر.وفي هذا السياق يرى هابرماس أن معالجة موضوع الدين في المجال العام ينطلق من عدم وضع نوع معين من العقل العلماني على الضد من العقول الدينية، و تصور أن هذه العقول الدينية قادمة من نظرة للعالم ذات طابع لاعقلاني؛فالعقل،بنظر هابرماس،فاعل في التقاليد الدينية كماهو في أي مشروع ثقافي آخر،بما في ذلك العلم.فعلى المستوى الإدراكي العام هناك عقل إنساني واحد،لكن عند التمييز بين الأنساق الفلسفية كالكانطية أو الهيغلية وبين الأنساق الدينية يكون الاختلاف في النوع بين العقول.فالعقل العلماني،عند هابرماس،عقل افتراضي قد يستند إلى مداخل فلسفية مفارقة ،في بعض الحالات،لأنواع العقول الدينية،وكثيرا ما تعبر أنساق العقل العلماني عن تجارب مغلقة عكس تجربة العقل الديني؛إذ يفتقر العقل العلماني لروابط المشاركة الاجتماعية،والتي يتميز بها العقل الديني من خلال التأويل المتواصل للعقائد وللتجارب الدينية.فالدليل على صحة العقول الدينية لايعتمد على العقائد الإدراكية وارتباطاتها الدلالية مع بقية العقائد فحسب،ولكن على العقائد الوجودية المتجذرة في البعد الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية والممارسة الدينية؛أي التدين.وفي هذا السياق يرفض تشارلس تيلر تفريق هابرماس بين الأخلاق العامة والدين،منطلقا من الفضائل اللاهوتية الثلاث التي حددها توما الأكويني وهي:الإيمان والأمل والمحبة،وهي بنظره،هبة إلهية لايتحكم فيها الإنسان،على عكس الفضائل الأربع التي يكتسبها الإنسان بجهده،وهي: الحكمة والعدالة والشجاعة والاعتدال.فالخطاب المتضمن للقيم الأخلاقية هو خطاب واحد،بنظر تيلر،ولايمكن تبين أبعاده النفسية؛هل هي أخلاق عامة،أم أخلاق دينية؟فالمتفاعل مع الخطاب الحامل لتلك الأخلاق والقيم لايحتاج إلى معرفة تاريخ وتجارب حامل الخطاب.فخطاب مارتن لوثر كينغ عن دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية والأمور المترتبة عليه لم يلتزم بها أحد،وكان له خطاب مسيحي آخر قوي،أحال فيه على سفر الخروج،وذكر التحرير،استوعبه الناس بسهولة من دون تخيل تجاربه ولامعاناته والمسارات التي مر بها.ويخلص تيلر إلى صعوبة التمييز بين الخطابات على أساس الخلفيات النفسية العميقة.إن تأثير الخطاب الديني في المجال العام ،بنظر هابرماس،كونه ينبع من تجربة وثيقة العضوية بصاحبه في جماعة ما،إضافة إلى أن الخطاب الديني يتحرك ضمن رؤيا للعالم،وداخل إطار تأويلي وإدراكي لميدان ما في الحياة البشرية. إن الكلام الديني في المجال السياسي العام،بنظر هابرماس،يحتاج إلى ترجمة وتأويل إن أردنا أن يؤثر محتواه في تبرير وصياغة القرارات السياسية الملزمة والتي يفرضها القانون،في البرلمان أوفي المحكمة أو في الإدارة.ولكن الإحالة على الخطاب الديني في المجال العام لايجعلنا ننفك عن الحياة الروحية والنفسية لأناس بأعينهم وليس سواهم.وقد ينطبق الأمر عند الإحالة على ماركس أو على كانط؛فعندما نتحدث عن بلاغة كانط بصدد:السماء المرصعة بالنجوم في الأعالي،والقانون الأخلاقي في الداخل،واحترام القانون،فإننا نتخيل أن هناك تجربة خاصة ومعينة وراء هذا الخطاب وهذه البلاغة.فهابرماس يرى بأن الحدوس الأخلاقية مخبأة في الجمهور العلماني يكشف عنها حديث ديني مؤثر عند الاستماع إلى لوثر كينغ مثلا أو إلى أي متحدث بخلفية دينية. من هذا المنطلق يلح هابرماس على الإبقاء على الطبيعة الأصلية للكلام الديني في المجال العام؛فالخطاب الديني يملك القوة الذاتية لتأسيس أعمق للأساسيات الدستورية،وللديموقراطية،أعمق مما هو موجود في الصيغ العلمانية المحدودة والموجودة في: السيادة الشعبية،وفي حقوق الإنسان،أو في العقل وحده،بمفهومه الماهوي المجرد.وفي هذا السياق انتقد هابرماس على تيلر في كتابه:عصر العلمانية الإلحاح على الطبيعة المحايدة ل:اللغة الرسمية،التي يطالب بها للإجراءات السياسية الرسمية،والتي تستند على إجماع مسبق بين المواطنين.فإذا كانت العلمنة تعني،من داخل الكنيسة،تحطيم حيطان الأديرة ونشر وصايا الرب الجذرية،فإن مصطلح:علماني،اتخذ معنى مختلفا في زمن البحث عن إجماع بخلفية سياسية عابرة لحدود الجماعة المسيحية،إجماع قادر أن يحل مشكلة ارتداء الحجاب ،مثلا،أمام محكمة فرنسية أو ألمانية؛إذ لا يمكن اتخاذ أي إجراء خارج المبادئ التي تكون مقبولة لدى المسلمين ومواطنيهم من المسيحيين،واليهود،والعلمانيين على حد سواء.مما يعني أن العقل العلماني مطالب بالخروج من ضيقه إلى فضاء أوسع يستوعب مختلف الجماعات الدينية بل يستوعب المؤمنين وغير المؤمنين.ولايمكن أن يحصل هذا التوسيع إلا بمساهمة العقل الديني في بناء هذا الفضاء المشترك، من خلال مايسميه هابرماس ب: التعالي على الخطاب الخاص. وتتلخص مساهمة العقل الديني في المجال العام بنظر هابرماس في الملفوظات الدينية،وفي الحافز الديني،وفي التجارب العقائدية،التي كان أصحابها مقصيين في الزمن العلماني الضيق الذي أسرته أيديولوجيا وضعية ومنطقية صارمة ومحدودة،فوجد نفسه عاجزا عن حل مشكل:الاختلافات الثقافية،والاختلافات الإثنية،والاختلافات الفلسفية.وكرست هذا الضيق عملية اختطاف اللغة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر من خلال الصياغة العلمانية المتطرفة التي أنجزها جون س ميل لمبادئ الفلسفة النفعية ونقلها من لغة الكنيسة الأنجليكانية إلى لغة العلوم الطبيعية المجردة. وخلاصة هذا النقاش أن العقل العلماني،بالمفهوم الضيق والمتطرف للعلمانية، غير قادرعلى الاستجابة لانتظارات الإنسان النفسية والفكرية والسياسية والتشريعية،من دون إشراك العقل الديني في بلورة رؤى وأفكار ومداخل تفكير،مع الوفاء للأصل الديني للعلمانية،بعيدا عن دوغما النزعات الوضعية والتجريبية والتجريدية.فهذا النقاش يدور اليوم في الغرب وأمريكا،كمحاضن أولى لمختلف النزعات العلمانية ولجل نماذج العلمنة السائدة اليوم في الغرب وفي خارجه.أما في واقعنا فلأمر سيبدو معكوسا؛إذ العقل الديني في حاجة إلى الخروج من ضيقه وأحاديته والانفتاح على التجربة العلمانية،كتجربة دينية في أساسها، بما يوسع أفقه،من أجل تأسيس فضاء مشترك قائم على التبادل والتنوع والثراء.وبمايجعله قادرا على بلورة نموذجه العلماني،كما بلورت التجربة العلمانية الغربية نموذجها الديني وتبلورت داخله.الأمر،بنظري،يحتاج إلى مجهود بحثي مضن،وإلى تكاثف الجهود بين كل المهتمين من الأكاديمين والمفكرين والمثقفين،وتدشين عمليات حفر في الخطاب الديني تفكيكا وتحليلا ونقدا وتركيبا. ذلك ماحاولت أن أشير إلى بعض معالمه،غير المكتملة بالطبع،في ندوة آيت ملول الرمضانية،في تفاعل مع المشاركين من أساتذة مميزين،وجمهور متابع،مما يعني أننا في طريق المناقشة الرصينة لموضوع الدين في المجال العام،بعيدا عن المقاربات الفكرانية/الأيديولوجية،وبعيدا عن السرديات التمجيدية للتراث الديني أو التحقيرية للدين ولمتعلقاته والقائمة على الهجاء والشتم للدين وللمتدينين.إن قدرنا،كما كررت أكثر من مرة،أن يكون جوابنا على سؤال الحداثة والتحديث جوابا دينيا،على العكس من النموذج الغربي الذي كان جوابه علمانيا،لكن من غير افتراض التناقض والتضاد بين الدين والعلمانية،بمعنى من المعاني،ومع حفظ خصوصيات السياقات التاريخية والتجارب الحضارية.