– هزيمة العرب 67 وثورة الطلاب 68 أشعلت فتيل النقد والاحتجاج في العالم العربي واللذان ووجها بقمع وتنكيل مثلما أبانا على قدرة في طرح أسئلة حارقة حول الدين والتراث والسياسة… فما الذي قدمته لكم؟ – كان لهزيمة 67 وثورة 68 في فرنسا كما هو حال مجموعة ثورات التحرر في تلك الحقبة وقبلهما انتفاضة 23 مارس 1965 في المغرب وقع كبير في الأجيال التي عاصرتها، ان لم نقل، إنها مرحلة فاصلة وفارقة في الوعي المتنامي لدى البرجوازيَّة الصغيرة آنذاك. فما وقع فرنسا فجَّر نقاشاً حاداً حول الحرية الجنسيَّة، في حين عبرت ثورات التحرر الوطنيَّة عن موجة ما بعد الستالينيَّة وأفرزت يساراً ماركسيّاً لينينيّاً جديداً وتيارات ماركسيَّة – ثوريَّة: غيفاريَّة وماويَّة وتروتسكيَّة، بالموازاة مع مجهودات مدرسة فرانكفورت على مستوى التنظير الفلسفي والسوسيولوجي. لقد كان للمثقف العضوي وللفيلسوف دور بارز في تلك الوقائع ونحن نتذكر سارتر وغرامشي وغيره من فلاسفة وقادة اليسار الجديد، وفي سياقنا المغربي فتحت تلك الموجة الباب أمام صعود اليسار الجديد الذي لعب أدواراً كبيرة في مرحلة السبعينيَّات. ناهيك عن تبني مفاهيم بنيويَّة وماركسيَّة في التحليل الذي دشنه العروي والجابري والخطيبي حول التراث والحداثة والدِّين وحول الانخراط في الصراع الاجتماعي رغم الاختلاف القائم بينهم على مستوى الموضوع والمنهج والرهان كما أشرنا سلفاً. إلا أنه وبعد كل هذه الفترة يمكن الوقوف بعناية لقراءة مرحلة تاريخيَّة بأكملها لاستجلاء أفق جديد لوضعنا وتقييم مسيرة التحرر والمعركة الديمقراطية التي لم تنتهي بعد. – يجمع المشتغلون بالحداثة، من قبيل محمد نور الدين أفاية، أنها لم تكتمل وبالتالي وجب النقد والمراجعة المستمرين، وهي الطريقة التي حررت الغرب من أوهامه وقداسته، سؤال لماذا العرب يتحفظون على النقد والمراجعة؟ – تناسل النقاش في العالم الغربي بعد أحداث 11 شتنبر 2001 حول ضرورة إعادة النظر في أسس الليبراليّة السيّاسيّة لإعادة تنظيم العلاقة بين الفعل الديني والفعل السياسي، ونتج عن ذلك إعادة التأكيد على حياديّة الدولة تجاه رؤى العالم، مع الإقرار بضرورة اقتحام الفاعل الديني للمجال السيّاسي العمومي بقواعد جديدة وصارمة اعتقاداً أنّ من شأن ذلك امتصاص حدة التّطرف وتنامي الخطاب الأصولي، غير أنّ هذه المراجعة لم تحظَ بالقبول الكافي في نظر بعض الفلاسفة المعاصرين، وعلى الأخص يورغن هابرماس (فيلسوف الاتحاد الأوروبي) الذي شدّد على ضرورة تجاوز المجتمع العلماني نحو مجتمع ما بعد علماني عنوانه العريض التسامح مقلوباً: تسامح العَلمانيّين مع المؤمنين والاعتراف بحقهم في التداول والمناقشة العموميّة شريطة تبادل حجج مقبولة وتستجيب لخطاب ما بعد الفكر الميتافيزيقي، أي ضرورة ترجمة الخطاب الدّيني إلى خطاب دنيوي واقعي يرقى إلى مستوى الحجّة المقبولة في التداول السيّاسي. من المؤكد جداً أنّ سيرورة العلمنة الجارية في بعض التجارب الدوليّة اتخذت اتجاهات مختلفة، ولكنّها على العموم مشروطة بحداثة غير مشوّهة وبتحديث صارم لمختلف مجالات العيش المشترك. لأن الحداثة الغربية في نظر هابرماس مشروع لم يكتمل بعد. وإذا كانت العلمانية تعتبر أن الدين شأنٌ فرديٌّ مَحض، فذلك لِكون مجال الحريّة ليس واحداً ولا متماثلاً البتّة. فالحرية الجماعيّة في الفضاء العمومي شرطٌ من شروط العلاقات بين الأفراد في المجتمع كشأنٍ عام، في حين أن الحرية الفرديّة في المجال الخاص هي شرطٌ من شروط العلاقة بين الفرد ونفسه كشأنٍ خاص. وهذا التضارب المفترض بين المجال العام والمجال الخاص، هو أحد الأُسس التي تقُوم عليها العلمانية لضمان التعايش بين الأفراد المختلفين دينياً وعقدياُ واجتماعياُ، ولكنه في الآن ذاته أساسُ التوازن النفسي والوجداني للفرد الذي يُعتبر قِوام الديمقراطيّة وعماد المجتمع، يتم تمتيعه بالاستقلالية والحرية كأساسٍ من أُسُسِ العقل، لضمان استمراريّة الاجتماع البشري… إذا كان هابرماس ينظر إلى الحداثة الغربية على أنها مشروع لم يكتمل بعد، فإن مشروع الحداثة كمشروع تحمله قوى سياسية ومجتمعية وتدافع عنه في مجتمعاتنا لم يولد بعد. ولكن رغم ذلك فهناك سيرورة تحديث سياسي واجتماعي – على حساب ملايين الجماهير – تقوده المؤسسات الدولية التي تطمح إلى اظهار الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات بمظهر الأنظمة التي تزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والتحديث، ولكن هل هي حقا قوى حداثية؟ مما لا شك فيه أن الارتكاز على الدين كقوة للحكم وكركيزة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، يمثل بحق العائق الأكبر أمام التحديث، والعائق الأكبر أمام الاندماج في المجتمع العالمي، ومسايرة التطور التاريخي للبشرية. وفي نفس السياق يرى محمد نور الدين أفاية – باعتباره المشتغل الأول بفكر هابرماس والقضايا التي أثارها – أن ديموقراطيتنا منقوصة لن تكتمل إلا بمزيد من التمرن على السلوك المواطن بحث لا تسير الفلسفة مع الديمقراطية دوما في اتجاه واحد، لأن حضور الفلسفة في بلد ما من البلدان – كما يشدد على ذلك – لا يقترن بالضرورة بالديمقراطية بل يرتبط الأمر بالإرادة السياسية وبمرونة القرار السياسي، وأن التاريخ الثقافي والفكري لبلد ما قد لا يساير تاريخه السياسي فهناك: «بلدن ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام، ولا تدمجها في نظامها التربوي، أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية»، وبهذه الإشارة فإن رهان مؤسسة اليونسكو أن تحقق الفلسفة وتعزز الديمقراطية في بلدان مستبدة أو أوثوقراطية هو رهان يقبل النقض، وعلى العكس من ذلك نجد الفلسفة حاضرة بقوة في بلدان غير ديمقراطية، مما يطرح السؤال حول أطروحة اليونسكو. يحدد أفاية التقاء الفلسفة والديمقراطية في أربعة مستويات: 1 – الشك: بحيث إن البحث عن الحق والمناقشة حول العدالة يتطلب: خلخلة اليقينيات، ومساءلة الثابت، والانتقال من الأجوبة إلى الأسئلة؛ 2 – الكلام: أي ضرورة المناقشة والنقد ومواجهة حجج الآخرين سواء في مجال الفكر الفلسفي أو في معترك السياسة؛ 3 – المساواة: لأن المساهمة في الحوار والمناقشة لا يتطلب أي ترخيص أو أية سلطة أو صفة، بل القدرة على الكلام والإقناع والحجاج؛ 4 – التأسيس الذاتي: بحيث إن «الفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما، ولا تخضعان لأية قوة عير منبعثة منهما». تمثل هذه المستويات بحق مجالات اشتغال الفلسفة السياسية والعلوم السياسية معا، مع افتراض التمايز الممكن بين الخطاب الفلسفي وبين الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي يتجه هذا الأخير نحو غايات نفعية ولحظية تهدف تدبير الشأن العام، فإن الخطاب الفلسفي يهدف إلى مساءلة الخطاب السياسي برمته وإلى إثارة المشكلات لا كما يراها السياسي ذو النظرة الضيقة – ولربما لأنها تتعارض ومصلحته الخاصة – وإنما كما يراه منطق العقل في تاريخيته وفي بعده الكوسموبوليتي. وبموجب هذا يقر أفاية «إن الفلسفة في الأول والأخير، اختيار فكري وتربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية، وتحفيز التفكير الحر، ونلقى، في المقابل، من يرى أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها، أولا، فبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها»، ورغم ذلك فالقرار السياسي يستحضر البعد الديمقراطي للفلسفة لأن مهمة الفلسفة هي «تكوين المواطن، وتطوير حسه التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور»، هكذا يشدد أن «المساهمة في تنمية القدرة على الحكم تمثل معطى أساسيا في الحياة الديمقراطية» وهي التنمية التي يمكن أن تقوم بها الفلسفة. ف «الحاجة إلى الفلسفة، هنا والآن، معناها الحاجة إلى التنوير، وإلى التحرر من عوامل التخلف، وإلى قول الحقيقة وعدم الخوف من الحرية. ومعناها كذلك التخلص من ميتافيزيقية النص والانصات لتحولات الخطاب والواقع». محمد نور الدين أفاية: في النقد الفلسفي المعاصر (ص 123). وفي هذه الوظيفة التي يحددها أفاية للفلسفة يمكن خلخلة البنية المحافظة للمجتمع الذكوري وثقافته السياسية المتسلطة، ومنها سيتخذ النقد والمراجعة كقاعدة لكل مساءلة تاريخية. – ميز دولوز بين مدرس ومؤرخ الفلسفة والفيلسوف من خلال هذا التمييز هل يمكن الحديث عن الفيلسوف في راهننا العربي؟ – يبدو أنه آن الآوان للتميِّيز بين الأستاذ العمومي والمفكر الحر كما سبق لجيل دولوز أن فعل في معرض مناقشته للفرق بين جون بول سارتر وموريس ميرلوبونتي بغرض حصول انتقال واعٍ من الدور الوظيفي إلى الدور الطبيعي. نعم أقول الدور الطبيعي لأن المنخرط في حركيَّة وديناميَّة الفكر الفلسفي تنتظره مهام جمَّة لدعم التفكير الحر وحفز الناس على التساؤل والنقد والهدم وبناء الخطاب الحجاجي. يقوم الأستاذ العمومي بمهام وظيفيَّة منهكة لا تتجاوز سقف إعادة إنتاج المتداول في تاريخ الفلسفة كعمليَّة لا تكتمل أغلب الظن بل تشوبها اختلالات فضيعة، وتضمن له تلك الوظيفة أجرة (كجراية لا غير) لتجديد قوة عمله الذهنية (في عصر بلترة العمل الذهني)، في حين يتجه المفكر الحر نحو الانفلات من تقلبات اليومي وانشغالات الوظيفي ليكتسح قارات حساسة منتقاة من المعيش ومن معاناة البشر في عالم توتاليتاري مسكون بأصنام غير واعية: الاستهلاك، الاستغلال، اللهو، الوهم، التسليع… لأن الاستكانة لأصنام العصر يوصد الأبواب أمام التفكير الحر، ويجعل الأستاذ العمومي في ترداد واجترار لعبارات وأقوال عادة ما تصطدم بآراء المتعلمين. من الصعوبة – كما تعلم – نعت هذا المفكر أو غيره بفيلسوف، لكن وانسجاماً مع التحليل السَّابق أظن أن الخروج من الوضعيَّة الحالية ومن البحث بالصيغ الكلاسيكيَّة المسماة عنوة أكاديميَّة، ولأجل بحث مرتبط بالملموس والمعيش واليومي أرى أنه يمكن أعادة تعيين حدود جديدة للفلسفة: ليست الفلسفة مجرد مفاهيم ولا مجرد لغة تسبح في سماء المعقولات بل هي فكر حي ينمو ويتطور بيننا، إنها إحساس وشعور ووجدان. ليست الفلسفة مجرد ميدان معرفي وفكري قائم الذات له أهله، بل هي أيضا توجد في الفنون والأدب والعلم ورؤى العالم وفي الدين، توجد بين الناس في يومهم المقيت والمثقل بفيض من التمردات والمقاومات الجياشة… ليست الفلسفة مجرد مهنة لتجديد قوة العمل الذهني، بل هي ممارسة يومية تكرس النقد وتسعى إلى بناء نظام حجاجي عقلاني. ليست الفلسفة مجرد تراث محفوظ في الكتب، بل هي أيضا تراث شفوي يدعم المكتوب والمتداول. ليست الفلسفة رهينة الاقسام والمدرجات بل هي فكر ترحالي يجوب الشوارع والمقاهي والبلدات. فصفة الفيلسوف لا ينبغي أن تلتصق فقط بمن اشتغلوا بالفلسفة وإلا فقد الفلسفة معناها، فالتفلسف هو من صميم التجارب والانكسارات والمعاناة، كما أن التفرقة بين مختلف مجالات المعرفة الإنسانية بالشكل الفج الذي قادت إليه النزعة التقنوية – التخصصية أمر مضر بالفلسفة ذاتها، فكيف يمكنك أن تدرس الفن ولا تفهم في الفن، أو قضايا ابستمولوجية فوقية لا تتماشى مع بنيتنا وذهنيتنا غير العلمية. التفلسف ممارسة وتمرين وفعل جارٍ في الزمان والمكان. – نحن اليوم في عالم متعدد الوسائط وعالم مهووس بالتدين والإرهاب والصورة وما إلى ذلك، هنا ضرورة الفلسفة لمقاومة ومواجهة هذا السيل الجارف من الضحالة والتنميط والتبسيط؟ – أمام التعميم المطلق لثقافة الاستهلاك، وانسيّاق الإنسان المعاصر إلى الاستهلاك السلبي والمفرط دون تريث أو فحص أو حتى التساؤل عن الرسائل الخفيَّة الكامِنة وراء ما تُقدمه لنا الصناعات الثقافيَّة، صار البحث في فلسفة الصورة مطلباً مُلّحاً لامتلاك أدوات تفكيك ونقد خبايا الصورة. ورغم الفروق بين الصورة الفنيّة والصورة المعدَّة للتداول الإعلامي فإن مجال الصورة عموماً في عالم اليوم يتمتع باستقلاليّة نِسبيّة، له مناهجه الخاصة وأدوات اشتغاله. تخاطِب الفلسفة العقل من خلال اللُّغة بينما تخاطب الصورة العقل من خلال العين، مما يفيد أن لكل منهما وسيلتها الخاصة للتعبير عن الفكرة ولصوغ المفهوم. وقد كتب دولوز: «أن الفلسفة فن تشكيل وابداع وصناعة المفاهيم»، ولذا نتساءل: أليست الصورة أيضاً فنّاً لإبداع المفهوم أو على الأقل تمثله، وسواء تعلق الأمر بالفن من رسم وسينما وتصوير، فإن محاكاة المفهوم هو السمة المميّزة لعمل الرسام والمصور ومخرج الأفلام. وما يمكنُ إثباته – كما شدد على ذلك عبد العالي معزوز – هو أن الطفرة الرقميَّة خفَّضتْ من مقدار الرقابة الاجتماعيَّة وهوَّنتْ من رقابة الدولة ومن وطأة قنواتها الرسميَّة ورسائِلها الدِعائيَّة التي تمررها عبر محطاتها الإذاعيَّة و جرائِدها. إن البثّ المركزي صار جزءاً من الماضي وصار ربط الاتصال أكثر بالشبكات العنكبوتيَّة العالميَّة وبالأقمار الصناعيَّة. وأنت تجوبُ مواقع الشبكات الاجتماعيَّة لَسْتَ بحاجة إلى جواز سفر و إنما فقط إلى كلمة سرّ ولا يمكن نكران دورها المحور اليوم في المقاومة وفي اطاحة بأنظمة سيَّاسيَّة عمرت طويلا، دون أن يعني ذلك أنها بالضرورة مقاومة إيجابية فقد تكون عكسية، لأنه بالقدر الذي يمكنها أن تلعب أدوارا تقدمية يمكنها أن تلعب في الآن ذاته أدوارا ارتكاسية ورجعية. فالتجييش الالكتروني للكتائب ولأطقم التطرف حاصل، واستغلال الشبكات الاجتماعية لخدمة الأممية الاخوانية حاصل، كما أن الترويج لهذه الصورة أو تلك يمكن أن يحدث في أية لحظة، وأبعد من ذلك يمكن استغلالها للترويج لحملة انتخابية كما حصل مؤخرا في حملة ترامب. لذا فإن التلقي السلبي للصورة وخاصة الصورة المذاعة على أوسع نطاق والمتاحة بالمجان سيجعل المواطن عموما أسير الخلفيات الأيديولوجية لشركات الصورة، وأنت تعلم تأثير القنوات الدينية على الناشئة وخاصة تلك المدعمة بالبترودولار والتي تنشر فكرا اقصائيا وأحاديا يشبه الى حد بعيد أيديولوجيا الفاشية في القرن الماضي. من هنا تنبع من جديد الحاجة إلى الفلسفة لتفكيك البنيات المختلفة للصورة المروجة على نطاق واسع، فالتطرف تربية وثقافة وايديولوجيا ينبت في كل تربة غير ديمقراطية وتخشى منح الناس الحرية في التعبير والسلوك والاعتقاد والضمير والتعبد…