19 أسرعت إلى ترتيب الربح على الشكل الذي يُفرح معلمي ذلك الصباح، دون أن يدخلني في أزمة مع ضميري والشعور بخيانة الأمانة حسب الفهم المتاح لي في تلك اللحظة. فرتبتها بتوزيع جيد، لتُصبح في النهاية ألف ريال للمعلم مع احتفاظ جيبي بما زاد عليها، وهو مبلغ كان يكفي بعض أصحابي، كما علمت، لقضاء شهر في الجديدة أو الصويرة، كما أنه سيعطيني فرصة إرجاع بعض الفضل إلى أهله ممن كانوا يدفعون عني ثمن تذكرة السينما أحيانا أمثال مصطفى ولد عبيد القنالي، ومصطفى بن سعود. وجاء المعلم عبد الرحمان بوعلام.. وتجول بنظراته سريعا ليطمئن على ترتيب البضاعة، فالتقطت عينه الخبيرة بسرعة أن هناك ما نقص منها.. وتوجه في حينه إلى دفتر تسجيل المبيعات واطلع عليه. ظهرت على محياه ابتسامة عريضة حتى بان صفاء أسنانه، ثم تحولت سريعا شفاهه لترسم دائرة كأنما يريد أن يتلفظ بحرف الواو مستكثرا هو أيضا تلك الأرباح واقترب مني متسائلا: الحاج بوعلام: "منين جا هذا الخير؟" أنا: "من لاندو شين". الحاج بوعلام: "عسكر؟" أنا: "عندهم ثْمْنِيَامْ دْبِرْمِسْيُونْ.. وجاو اشراو احوايج العرس". الحاج بوعلام: "جابهم شي كِيدْ؟" أنا: "جاو بوحدهم.. ومالقاو حد حال في السوق غيري". الحاج بوعلام: "ها باش كنقولك لفياق بكري بالذهب مكري.. نوض حل المجر الله يرضي عليك جيب لنا الشفنج ووصي الشريف مولاي بلغيث على شي زوج كيسان داتاي منعنعين". انطلقت جاريا إلى سوق البالي المجاور لنا، ووقفت على رأس الشريف مولاي بلغيث، طويل القامة، رفيع الهامة، حليق الرأس الذي كان يحتفظ ببعض الشعر في لِمته (حول الأذن) وهي عادة قديمة كنا نسمي صاحبها ب "بونْوَاضْرْ". وكان لمولاي بلغيث دكان صغير فيه قِدر نحاسي كان أصحاب البازارات ممن يُمازحونه يلوحون له بآلاف الريالات، مقابل التخلي عن ذلك القدر النحاسي العتيق، فيصفع بظهر يده تلك الأوراق المعروضة، لأن قِدره كنز لا يباع. وبجانب القدر مجموعة من "الزيزوات" وهي عبارة عن أواني لطبخ الشاي قبل صبه في كأس "شْبّاري" على نعناع نقي نظيف جعل من اسم مولاي بلغيث رمزا من رموز مراكش الذين يقام لهم ويُقعد. وكنت أعرف بعض أبنائه ممن احترفوا في مجال الرياضة وأسمع أخبارهم حتى بعد فجر الاستقلال، وأحدهم، لعله مولاي المصطفى، أصبح فيما بعد ضابطا كبيرا في الشرطة. لم أكن في حاجة إلى انتظار الشاي، فالشريف يعرف كل دكاكين زبائنه، وله متعلم متمرس في هذه الخِدمة، يجمع الكؤوس في حمالة مركبة على دوائر تسمى "الرّْفادَة"، ويوصل الطلب إلى صاحبه أينما كان في السوق. المُهم أني اتجهت إلى الرحبة القديمة لأجيء ببعض الزبدة البلدية وبسِفِنْجَتَيْنِ شهيتين كما أمر معلمي للاحتفال، وعدت أدراجي بعد ذلك وقد انشرح صدري، أطلب الدكان وأنا طيب النفس، وكلما اقتربت ترامى إلى أذني صوت ضجيج وجلبة. ثم بدا لي من بعيد تجمهر للناس على باب دكاننا، وصوت الجدال يعلو كلما اقتربت، وإن لم أميز ما كان يتلفظ به. ثم اخترقت المتجمهرين وأنا لا ألوي على شيء، لأكتشف أن التحلق كان حول معلمي والعرسان الخمسة الذين اشتروا البضاعة مني صباح ذلك اليوم. كان هؤلاء قد وجدوا عند محطة ركوب المسافرين بعض المرشدين "الكيود"، الذين لم يكن يخطر ببالهم أن يفلت من بين أيديهم مثل هذا النوع من "الهمزات" ولا هؤلاء الزبائن. فاستدرجوا المجندين في الكلام إلى أن عرفوا قصة تسوقهم، وأنواع بضائعهم، وقللوا من قيمة المشتريات واستكثروا أثمنتها، بل وبالغوا حتى أدخلوا ذلك في باب الغش والخداع والنصب والاحتيال من طرف "بَرْهُوش" يستحق كل التأديب والعقاب من عند أصحاب الشرطة والمخزن والباشا، خصوصا عندما يكون المخدوع، والمنهوب، والمبتز، هم الأبطال المجندون، كما كان كل فضولي وكل "كاري حنكوا" يقول "ليُسخن رأس" العرسان ويعظم جُرم "البَرهوش". كنت أتابع ما يهبط على مسمعي من كلمات مفزعة تزلزل الأرض تحت قدمي، ونظراتي طائشة هنا وهناك تتفحص الوجوه المُهَدِدَةَ بسوء المصير لي ولمعلمي، الذي يتهدده إقفال الدكان والمتابعة أمام المخزن.. فكرت في لحظة أن أهرب قبل أن يخف الجدال ويهدأ الناس وينتبه المتخاصمون إلي، فخطوت إلى الوراء على مهل ودخلت وسط الجمع وأنا مازلت أحمل الشفنج الساخن والزبدة البلدية، ولعلها رائحة تلك السفنجتين نفسها هي التي أزكمت الأنوف ولفتت انتباه أحد العرسان إلي، فاتسعت أحداق عينيه وأطلق صيحة عظيمة وأمسك بي كما يُمْسَكُ بالطريدة أو الفريسة، وصاح: "ها الزنديق اللي لعب بينا". ظل الرجل ممسكا بي من يدي وهو يردد "ها النزق.. البرهوش، اللي ضحك علينا واحنا خمسة دالقلادي كل قلدة ياقلدة". اِستغربت كيف تدخل معلمي بكل حزم وحال دوني ودون الرجل الذي حفرت كفه القوية ذراعي. اِنتزعني الحاج بوعلام من بين يديه وقال له: "اسمع أسيدي لبلاد راه فيها المخزن.. والله يجعل البركة في سيادة الباشا التهامي المزواري الكلاوي.. التجارة عندها صْحاب الطرقة ديالها بحال جميع الحرافي.. والبيع والشراء هو هذا.. انت اللّي بغيتي حانوتنا.. وأنت حر في فلوسك، تشري من عندي ولا من عند غيري.. وانتم اتبارك الله راك قولتها.. خمسة دلقلادي، وهذا غير وليد مزال ماعندو حتى ربعطاش لعام". "وحتى اسيدي إلى كان كاع زاد عليك شي بركة ماكاين باس.. الناس دالسوق كلهم راه عارفين باللي فالتجارة الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري". ثم اقترب معلمي من العرسان مهدئا حتى قبلوا دخول المحل وهو يكلمهم بصوت خافت لا يكاد يُسمع. لم أعد أذكر كيف تمت المفاوضات لحل مشكل تلك "الهمزة الحامضة" بين المعلم عبد الرحمان بوعلام والعرسان الخمسة، ولكن الذي ظل عالقا بالذهن وإلى اليوم، هو ذلك المشهد المتشنج "السُسْبَانْسِي" الذي تلا انفضاض "المْجْمَعْ" حين بقيت أنا والمعلم وجها لوجه غارقين في صمت ثقيل. كنت أنتظر رد الفعل وأنا على استعداد لتحمل كل مسؤولياتي بما في ذلك إرجاع الألف فرنك التي طمعت فيها لاعتقادي بأنني بها حَقِيق. تحسست حواشي شِبْه جاكيت الذي كُنت ألبسه لأتأكد من أن الورقة ما تزال في مكانها.. تسارعت دقات قلبي وزاد تنفسي وأنا أتابع معلمي المنشغل بترتيب ما تحمله رفوف الدكان من بضائع وكأن شيئا لم يحدث. يتبع.. * سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم