23 كان "بابي" ينحرف عن الشارع الرئيس للسوق، فلا يمر من أمامه إلاّ من غايته في بضائعَ غيرِ تلك التي يحتويها دكاننا. وأكثر المارة عليه إمّا يقصدون سوق الدجاج، أو دُكان الشريف الوزّاني بائع "القْطْران"، وهو "الفْقيه" الذي يعتقد زواره ببركته. ومع هذا، فإن موضع الباب، غير الاستراتيجي، لم يرفع عني المسؤولية حسب رأي الحاج بوعلام: "هذ الشي كلو انت اسبابو.. ولكن اصبر شويا، وزيد تعلم من هذ الرجل، وأنا غدي ندير ليكم النوبة على البِيبَان، كل أسبوع تبادلو". وسرعان ما حصل الانسجام والتعاون بيني وبين "خالي محماد"، وبدأنا نتفق على التغطية عن غياب بعضنا البعض؛ حيث كان هو يحرص على زيارة بعض الأسواق الأسبوعية المجاورة لمراكش، مغتنما الفرصة لصلة الرحم مع أهله، وأنا كنت ألتحق بالعزوا لحضور بعض حلقات الدروس اليُوسفية التي كان المعلم لا يرى بأسا فيها طالما أن أمور التجارة تسير على ما يرام. ذات صباح زارني الصديق محمد بن الجيلالي ليطلب مني مرافقته إلى موعد قد حدده مع شخص كان حديثنا عنه سابقا قد شوقني لرؤيته، والتشرف بمعرفته. قال العزوا: "عاد يسر الله وحدد لنا السّي محمد بالحاج البقال موعد معاه اليوم" أجبت متلهفا: "غدي نشوفوه؟ وفين؟" "في القهوة دالورزازي اللي متكية على الجوطية" "قهوة السي محبوب الورزازي؟" "هو هداك" انطلقنا من النجارين إلى السمارين ثم عرّجنا على قاعة الزيت، وولجنا ساحة باب الفتوح في اتجاه مقهى الورزازي الذي كنت أعرفه قريبا من غرب دربنا فحل الزفريتي، وهو أولّ مكان لعبت فيه "البيار". أما صاحب المقهى السي المحبوب فقد اشتهر كواحد من جماعة شاعر الحمراء وشملته بعض طرائفه ونكاته الساخرة. كان صحن المقهى عبارة عن حديقة صغيرة لا تخلو من شجيرات وبعض الزهور. وفي إحدى الزوايا، جلس رجل نحيل، قصير القامة، على رأسه طربوش أحمر، ويرتدي جلبابا رماديا. تقدم العزوا من الرجل وسِرت أنا خلفه. بعد السلام على محمد بالحاج البقال، عبّر لي عن سروره بالتعرف على واحد من أفراد أسرة أحبّ الناس الوطنين إلى قلبه يقصد عبد الله إبراهيم وتمنى أن أكون غُصنا من تلك الشجرة. ثم جاء المكلف بخدمة الزبائن، وهو رجل فوق الخمسين على ما يبدو، بلباسه التقليدي وطاقيته البسيطة، وبلغته "المْسِيّطَة" وكان الكلُّ يناديه بلقب "البْزَارْ". أخذ طلب المشروب الذي اختاره كلانا أنا وصاحبي، أما السي بالحاج البقال، الذي سمعت الكثير عن مواقفه الشريفة وتعدد اعتقالاته في بنيقات الباشا ومراكز الشرطة، فقد سبق أن طلب مشروبه المفضل: قهوة بدون سكر، مكتفيا معه بثلاث ثمرات من نوع "بوسكري" يقضم منها مع كل رشفة. وجعل من حركته هذه مدخلا لأول درس تعلمته في الوطنية: "هذ المستعمرين اللي احتلو بلادنا باسم الحماية.. داروا يديهم على خيرات الأرض.. وحتى اللي ما كتنبتش عندنا كيجيبوها من عندهم ويبيعوها لينا بالدقة على النيف.. وخصوصا المواد اللي كنستهلكوها بزاف بحال أتاي والسكر". ويرمقني بطرفِ لَحْظِهِ وأنا أركز نظراتي على فنجان القهوة أمامه وحبات البوسكري. فيدرك سرها، ليضيف بالقول: "هذ القهوة ماشي ديالهم.. كتجي من البرازيل.. والبرازيل دولة صديقة.. وقتما تطرحت قضية بلادنا في هيئة الأممالمتحدة، البرازيل كتكون فجنبنا.. ملي نولو كلنا كنطلبوا غير القهوة غدي يصبح موقفنا مستفز للمستعمر، أما السكر، فالحقيقة غنانا الله عليه بهذ النعمة دالنخيل.. وعموما حلاوة التمر أفضل بكثير من حلاوة السكر". تحدث البقال بحماس وأسلوب ممتع يزيدك رغبة في الاستماع إليه، وتنويرا لمراميه، ويقربك من بيت القصيد بكل ما لديه. وكان مثله الأعلى الزعيم عبد الله إبراهيم، فعلمت منه عن ابن عمتي ما لم أكن أعلمه من أمه لالة فاطمة بومدين وخاله السي لحسن الحجام، ولا من ابنه يتيم الأم مولاي الزكي الذي يجمعني به تقارب السن والانخراط في الكشفية الحسنية التي كان لا يهوى سواها، على عكس ما كنت عليه أنا من تعدد الاهتمامات من كرة القدم والسباحة والملاكمة فيما بعد. اكتفى السي محمد بالحاج البقال بسؤال واحد: "كتعرف تركب على البسكليت مزيان؟" "كنمشي بها نعم السي في زحام السمارين بحال الحنش.. وكنعرف ندير بها حتى شي لعيبات دياول بوقال البيضاوي اللي فجامع الفنا". فتبسم من كلامي واكتفى محمد بن الجيلالي بحركة من رأسه يُزكي بها قولي. ثم ودعنا السي بالحاج بعد أن دفع للقهوجي "البْزَارْ" حق ما شربناه وانصرفنا على أمل لقاء مقبل سيخبرني بموعده لاحقا صاحبي العزوا. كان الحاج بوعلام قد خصص لي نسبة من الأرباح لا ترقى بالطبع إلى ما يحصل عليه خالي محماد، ولكنها تمنح الشعور بقدر من النّدّية، وتزيد في الحماس، وتحُدُّ من نظرة خالي الفوقية، كما أنها تفسح المجال للمنافسة المهنية، وللمزيد من الطموحِ الذي بدأ بالفعل يوفر لي ما يخفف من أعباء لالة رقية ويُلّمِعُ مائدتها ويثري "كانونها"، كما هو شأن "شريكتها" حبيبتي رقوش أم أخي أحمد الذي ظل ملازما لمعلمه السيد جانو، حتى تمكن من ناصية صنعته، وقام بتحسين أجرته وفرنسيته، فانعكس كل ذلك على مظهره ونوع صحبته وبالطبع على والدته وأشقائه ومن هم في رعايته. وزاده الله من فضله وأجزل في مكافأته حين علم من بعض رفقائه أن قاعدة أمريكية قد أنشئت قريبا من قرية بن جرير، وأنها لا تبعد عن مدينة مراكش إلا بحوالي خمسين كيلومترا. علم أحمد أن الكثير من الشباب من شتى التخصصات والمهن يتهافتون على الالتحاق بهذه القاعدة بشتى الوسائل، فكان كعادته من السَبّاقين. وبعد جملة من الاختبارات، اختير أحمد ضمن المتفوقين بفضل طلاقة لسانه في اللغة الفرنسية، وما اكتسبه في حي النصارى "جليز" من جدية لَفَتَتْ انتباه أحد الضباط الأمريكيين الذي سارع إلى إقناعه بالالتحاق بفصل تعلم اللغة الإنجليزية. أما أخي عبد الله فبعد زواجه واستقبال بِكْرِهْ، لم ير بُدًّا من التمسك بصنعة أبيه، حتى لا يتواطأ عليه الزمان فيغلبه مع أهله، ممتثلا للقول المأثور: صَنْعْةْ بُوكْ لاَ يْغْلْبُوكْ، وهي الصّنْعة التي لا يُتْقِن غيرها مع حفظه لكتاب الله عز وجل وهو ما يسر له الاحتفاظ بمكانته كمُشرف على "الطْلْبَة" الذين استمر باستقدامهم كالعادة الباشا الكلاوي ثلاث ليال في الأسبوع: الخميس مُخَصّصٌ لكتاب الطيب الفائح للحاج محمد النظيفي.. والجمعة لكتاب الشفاء للقاضي عياض، والختام يوم الأحد بستين حزبا، برواية ورش عن نافع. وكان مُقابلُ هذه المهمة بِضع عشرات من الرّيَالاَتْ في الأسبوع، و"خنشة" من حبوب القمح والشعير بعد كل حصاد، وغالبا قبل عيد الفطر، ثم أضحية عند حلول أكبر الأعياد، ويضاف إلى ذلك ما أحصل عليه أنا، قَلَّ أو كَثُرَ.. زِدْ عليه ما تتقاسمه لالة رقية مع حبيبتي رقوش من مردود الخياطة وسومة كِرَاءِ "الدّوِيرِية" التي كانت مخصصة للضيوف في الزمن الجميل. توطدت علاقة صداقتي بالعزوا وتعززت بالانسجام في الرأي والطموحِ والأهداف، فتعرف هو على بعضِ أصدقاءٍ لي من أبناء حومة القصور وعلى أفراد أسرتي.. كما أصبحت أنا أحس بأنني عضو في أسرته. وانخرطت إلى جانبه في نادي مولاي رشيد للملاكمة وانقطعت عن التداريب مع الصغار في فريق الهلال لكرة القدم الذي لم يعرف أي ناد رئيسا وفيا مثل رئيسه السيد الشريف مولاي الصدّيق السْلِطِين، وكان من الوطنيين الشوريين المحترمين. وتحول اهتمامي من نتائج فريق "السّام" وفريق "لايسم" وأخبار نجوم الفريقين أمثال أحمد الشنوا، والنجار، وبن شقرون، واكليلوار، وبوتيني وبديله توما، وكريسطاسي مُدرّب "لايسم" وعلي لوش، وولد إبراهيم، وغيرهم من نجوم الفريقين العتيدين، قلت تحول هذا الاهتمام إلى عالم الملاكمة، وشغلتني أسماء أخرى كأحمد السدراوي الملقب "بالبروم"، ولحسن البوكسور، والبطل العالمي، المغربي "مارسيل سيردان". وشمل هذا الإعجاب حتى المواهب الرياضية الشابة أمثال ابريك الجن، واحماد لبتي، الذي استفاد من أخيه البطل كثيرا. ومع كل ذلك، فلم تكن الرياضة لتشغلنا أبدا عما أصبح يسكننا من حب للوطن وتعلق بشخص محمد بن يوسف ومواقفه. وكان العزوا محمد بن الجيلالي يزيدني تقديرا واحتراما لنضالات الوطنيين بما ينقله إلي من جديد تحركات السي محمد بالحاج البقال.. ذات يوم قال: "أتذكر يوم قهوة الورزازي حين سألك السي محمد البقال "هل تحسن ركوب الدراجة؟". قلت: "أيه وكنت جاوبتو "بحال الحنش". اقترب العزوا مني وهمس: "وجد راسك.. ها البسكليت جاياك.. وهدي هي الوجبة باش تحمّرلي وجهي قدام السي محمد بالحاج البقال". نظرت إليه باهتمام، فاسترسل قائلا: "السي بالحاج البقال بغانا نتجندوا كلنا ونتحركوا في كل حومة بلا ما يشعر بينا لا جْرّايْ ولا مْقْدّمْ ولا بِيّاعْ ولا أصُورتي.. باش نوجدو لعيد العرش هذ العام .. الاحتفال غادي يكون في القصبة وفي ساحة مسجد مولاي اليزيد.. ولكن كل شي يتخبر النهار بنهارو وحسي مسي". اِستغربت من تَكَتُّمِ صاحبي وقلت: "علاه الاحتفال بعيد العرش ممنوع؟". "ماشي ممنوع إلى بغينا نحتفلوا كيف بغاو هما .. هذ العام غدي نحتفلوا كيف بغينا احنا". يتبع.. * سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم