اجتماع المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار.. ينوه بنجاحات الدبلوماسية الوطنية التي يقودها صاحب الجلالة    في اكتشاف تاريخي : العثور على حطام سفينتين أثريتين قبالة سواحل بالجديدة    تسجيل إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة موزعين على تسع مؤسسات سجنية    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    وفاة صانعة محتوى مغربية أثناء عملية ولادة قيصرية    مندوبية السجون تسجل 47 إصابة ب"بوحمرون" في 9 مؤسسات سجنية    المغرب يحطم رقمه القياسي باستقبال 17,4 مليون سائح في 2024    سلطات الجزائر ترفض دخول "مؤثر" رحلته فرنسا إلى بلده    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    المغرب: ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال خطوة مضيئة في النضال الوطني    توقعات أحوال الطقس ليوم الجمعة    ارتفاع حصيلة قتلى حرائق لوس أنجلس    نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ترفض تهريب قانون الإضراب للبرلمان    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ملفات ساخنة لعام 2025    سكوري:المذكرات التي قدمتها المركزيات النقابية في صلب العملية التفاوضية بشأن مشروع قانون الإضراب    100 فاعل سياحي من إسبانيا والبرتغال يكتشفون جهة الداخلة وادي الذهب    2024.. أول عام تتجاوز فيه الحرارة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    بسبب مذكرة اعتقال نتنياهو.. مجلس النواب الأمريكي يصوّت بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية    النظام الجزائري يثير التوترات مع تركيا باستقباله انفصاليين أكراد في تندوف    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    ارتفاع حصيلة الحرائق في لوس أنجليس    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السلطات تمنع جماهير حسنية أكادير من التنقل إلى الزمامرة لمساندته أمام نهضة الزمامرة    كأس الكونفدرالية: تحكيم بوروندي لمباراة نهضة بركان ولواندا سول الجنوب إفريقي    رقم معاملات التجارة الإلكترونية يبلغ 22 مليار درهم بزيادة سنوية تقدر ب 30 في المائة    الذهب يتجه لتسجيل أقوى أداء أسبوعي    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    قيس سعيد يزيد عزلة نظامه.. تونس وموقعها من قضية الصحراء؟    عمدة فاس يكشف عن خطط لإطلاق شبكة حافلات حديثة ذات مستوى عالٍ من الخدمات    كيوسك الأربعاء | المتصرفون المغاربة يطالبون بإصلاح نظام الوظيفة العمومية    ترامب يكشف عن رغبة بوتين في لقائه قريباً    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    ولد الرشيد يؤكد على أهمية البعد البرلماني في مواكبة دينامية العلاقات المغربية – الفرنسية    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    آباء و أمهات تلامذة مدرسة ابن حمديس بآزمور تطالب بإعادة الاعتبار للواجهة الرئيسية لدخول التلاميذ    سكان حي المطار بالجديدة يطالبون بإحداث مؤسسات تعليمية لسد الخصاص التعليمي    عملية أمنية محكمة: توقيف مشتبه به متورط في سرقة أربعة محلات تجارية بطنجة    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    الموسيقار محمد بن عبد السلام في ذمة الله    في كتاب صدر حديثا بعنوان:« القصة السرية لجزائري أصبح عميلا» .. صديق الرئيس تبون يحكي عن ترتيب لقاء المخابرات الجزائرية مع الموساد!(1)    وفاة الفنان محمد بن عبد السلام    أخذنا على حين ′′غزة′′!    مندوبية: رصد ما مجموعه 41 حالة إصابة بداء الحصبة بعدد من المؤسسات السجنية    حول الآخر في زمن المغرب ..    533 عاماً على سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام فى الأندلس    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجندي في "ولْد القْصور" 16: باب السمارين وسوق النجارين
نشر في هسبريس يوم 22 - 06 - 2016


16
لم تنته شهور العطلة الثلاثة حتى بدأتُ أفك عجلات الدّراجة الهوائية وأحسن إصلاحها، سواءٌ كانت من نوع ما يعرف ب"البانطاج"، وهو عبارة عن قطع دائرية كقُروش من الكاوتشو تثقب في وسطها، وتُنْظَمُ في سلك معدني لين، ثم تشد عند اكتمالها دائرة العجلة بتحكم، وأيضا الدراجات الممتازة التي لها عجلات من المطاط، تعلمت ذلك بفضل المعلم "امبارك الحنش" "السكليس" الذي كان زوجا لإحدى المساعدات المنزليات في بيتنا أيّامَ عِزِّهْ.
كان المعلم مبارك يُقَدّرُ ما سبق من شأننا معه، ويُظهر كل ذلك في سلوكه معي: عِفّةٌ، وأجرةٌ أسبوعيةٌ، ودرّاجةٌ صغيرة أركبها في الذهاب صباحا والإياب مساءا.
كانت مهنَةُ تَصليحِ الدراجات تَعرِفُ رواجا في ذلك الزمان، إذ تُؤَجّرُ الدرّاجة بالسّاعة واليَوم والأسبوع والشهر، إضافة إلى الاتّجَارِ المُباشر بها أسبوعيًّا في سوق "البِسْكْلِيتَاتْ" الواقع بين الجُوطِيَة: "سوق الخردة" و "الفُورْيَانْ": ذلك المكان الفسيح المُسَوَّرُ بجدار إسمنتي والذي تُحْتَجَزُ فِيهِ العَرَبَات والبشر عندما تنتشر الأمراض الموسمية والأوبئة.
مَضَتْ شُهُورُ العُطْلَةِ الدّراسية، وعاد جُلُّ تلامذةِ سْكْوِيلْةْ البَاشا وهُم يتحدثون عن شواطئ الصَّويرة والجَديدة والوَالِدية، والبعضُ الأخر يتغزّلُ في جَمَالِ طبيعة أوريكا وأُوكَايْمْدْنْ، ووادي أم الربيع وأماكن أخرى لم نكن قد سمعنا بها من قبل.
كنتُ أنا وأخي ومن هم في مثل حالنا من التلاميذ، نتبادل النظرات ونتحاشى الحديث في موضوع العطلة. وبدأ كل ذلك يؤثر سلبا على حالتي وحالة أخي النفسية، وبالتالي على أجواء الدراسة و نتائجنا المدرسية. ولم تعد لنا تلك الرغبة ولا ذاك الحلم، ولا عادت لسكويلة الباشا تلك الأهمية.
ولأول مرة انسجمنا أنا وأخي في الرأي بعد أن كنّا نختلف في كل شيء، وغدونا نبحث عن العذر المقبول للتغيب عن الدراسة. قضى أخي أحمد عند معلمه المسيو جانو سنتين اكتسب خلالهما بعض المهارة في اختياره الأول و الوحيد "إصلاح هياكل السيارات"، أما أنا فقد استمررت على سُنّة تغيير الصنعة تِلو الصنعة لينطبق علي المثل القائل "سبع صنايع و الرزق ضايع".
كنت بمُنتَهى العِنَاد أُرْجِعُ سُوءَ حظّي وأفسر تَعَثُّري بأنني لم أجد بعدُ ما خلقت له. ورغم حَدَاثَة سني فقد كان في داخلي ما يُشبه اليقين بأنني سأعثر لامحالة على ما أنا مُسيّرٌ إليه ومُيَسّرٌ لهُ، ولعلها كلمات الشيخ الركْراكِي.. الحكواتي الشهير، من هو في السِيَر خبير، نجم جامع الفناء وصاحب التشويق و التفسير، لعلها كلماته التي ظلت عالقة في ذاكرتي، هي التي زرعت في نفسي الرغبة في البحث والتجريب، إذْ قال نقلا عن الذي لاينطق عن الهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلٌ ميسرٌ لما خلقَ له".
سبق الحديث عن المهارة التي اكتسبها محمد الكباص ابن عمتي في فن تطريز الطّواقي، إلى حدّ أنّهُ بدأ يشكل رسوما بثمانية ألوان ببراعة وخفة أصابع كانت تُدهشني وترّغبني في تعلم هذا الفن الذي يتطلب تفرغا ووقتا طويلا، فإنّ أي تهاون أو تكاسل أو عدم التزام مع الزبائن بتسليمهم البضاعة في وقتها، يُعرض ممتهن هذه الحرفة إلى متاعب ومشاكل لا تُحمدُ عُقباها. وذاك ما كان يحدث لابن عمتي الكباص.
كان يأخذ الكباص العرابين من أكثر من زبون على الطاقية الواحدة، ويقضي الأسابيع والشهور في طرزها حتى إذا اكتملت تحفته، باعها لغير المُعَرْبِنِينَ عَلَيْهَا، لا عن خبث أو احتيال بل طيشا ورُعونة. وكان يُعَرّضُ بذلك نفسه للمطاردة و أحيانا للضرب غفر الله له. أما أنا فقد اكتفيت بصناعة طواقي الصوف الغليظة التي لا تُكلف وقتا ويسهل بيعها لرُخصها. وكان ثمن الواحدة منها يكفيني لشراء تذكرة السوليما القنارية مرتين في الأسبوع على الأقل. وهذا النوع الأخير من الطّواقي يُسمى بالنجمة الخماسية، وكان عليه إقبالٌ شديدٌ من طرف أهل المدن و البادية.
وهو غطاءٌ للرأس أحَادي اللون، تتوسطه بلون ثاني النجمة الخماسية التي تعتبر أول رسم يتعلمه المغاربة في الكُتّاب وبها يكتمل الرمز الوطني.."العلم".. وكانت هذه الطواقي حتى عند العامة تلعب دورا تثقيفيا في أيام السبت عندما يخرج يهود الملاح أفواجا أفواجا، وعلى رأسهم طواقيهم "الكيباه" تعلوها نجمة داوود ..وكان الناظر للنجمتين يسأل، والعارف يشرح.
و في سوق الطواقي انتبهت إلى بعض أقراني ممن يعرضون بضاعتهم، وراقبتهم من بعيد لأتعلم من أخطاءهم، دون أن يخطر بالبال أنني سأجتمع مع بعضهم مستقبلا في نادي الوطنية و النضال.
كنت أرى في سوق الطواقي، مولاي إبراهيم عواطف صِهر الشهيد البقال فيما بعد، وأحمد الشهيدي، وهذا الأخير قد تخطى الرقم القياسي في التفنن في استعمال خيوط الحرير الملونة بتفوق حتى على محمد الواريدي الكباص- نفسه، لِما كان يتميز به من جدية وتحصيل علمي، وستُكتَشَفُ مواهبه فيما بعد حين بدأ يكتب في صحيفة "العلم" الفتية حينها، مُوَقّعا مقالاته باسم "ابن القصور"، وهو أحد رموز الحركة الوطنية البارزين في الجيل مابعد الرّواد مباشرة، والذي أصبح شريكا لهم في النضال و السّجون و التعذيب، وهو الذي أصبح أيضا بعد فجر الاستقلال زوجا لأرملة الشهيد محمد الزرقطوني رحمهما الله، ثم قاضيا نزيها شريفا ثم رئيس غرفة، وأحب أن يكون مِسكُ ختام حياته باقة هائلة من القصائد الشعرية. والشهيدي ثمرة من تلك الشجرة التي غرسها الزعيم عبدالله إبراهيم.
كما أسلفت فإن جُلّ ما كُنْتُ أحَصِّلُهُ من بيع الطواقي كان يذهب لصندوق السوليما القنارية الذي تجلس وراءه سيدة فرنسية كنا نسميها، بقسوة الصبيان "العرجاء". كانت تلك السيدة الفرنسية لاتهتم إلاّ بعملها وعلى محياها ابتسامة لا تفارقها، مما جعلها تحظى باحترامنا حتى خارج الشباك، بل ومِنّا من كان يُسَاعِدُهَا على حمل دراجتها الهوائية عند وصولها لعملها أو عند خروجها منه.
مرت الأيام و الشهور وأنا أتردد على السمارين، وبدأت أشعر بشيء من الميل للتجارة فأفصحت عن ذلك لوالدتي لالّة رقية التي استحسنت الفكرة، وكانت أصلا تُنوّه بوَلَدِ سيدة قريبة لنا في الأسرة و المسكن، اسمه مبارك وكيف تحسن حاله وحال أهله منذ بدأ يشتغل عند صاحب متجر في النجّارين.
أسرعت والدتي بالاتصال بوالدة مبارك، وتيسر مارغبت فيه لالة رقية والتحقت بدُكّانٍ صغيرٍ للاتجّار بالجلاليب الجاهزة محليا وتلك التي تُستورد من فاس، ومدينة بزو إلى جانب ما تلتحف به النساء من منتوجات سوق "الحايك"، وهي أنواع بين نَفيس ومُتوسط ورَخيص بمُسميَات مُختلفة: حايك السُّوسْدِي.. وحايك الصّابرة.. وحايك البزيوي الحُر.. وحايك الحبة..وحايك الخرقة الصوفية وهي أنواع أخرى..
كما أن الدكان كان يحتوي على بعض المَعْرُوضَاتِ "كالتُّوبيت" وهو عبارة عن نُسخٍ للقفطان، وأقمصة بلدية أخرى بأثمان في متناول زبائن سوق النجّارين الذي بدأت تختفي معالمه اليوم هو الآخر.. وتحولت دكاكين فن النجارة فيه إلى بازاراتّ، فلم يبق إلاّ الأسماء لتشهد للأسلاف على عظمة التخطيط، وروعة الترتيب، وسُمُو الذوق، واحترام التخصص، والبراءة من مَعْيبَة التّطَفّل..
فالنّجارين كان سوقا لجميع أنواع التجارة و السمارين كان أعظم مكان لحدادة الشبابيك والدرابيز و تصفيح البهائم.. واللّبَادين لا يمكن أن تجد فيه شيئا غير لُبْدَة الصّلاة بجميع أحجامها و أشكالها وألوانها، وكذلك المجادليين، والعطاريين، وسوق السباط، و النحاسيين، و الشكايريا، و الباروديين، و السراجين، والدهيبيا وقس على ذلك..
فكل اسم يدلك على مسماه، و بالتالي يقودك إلى مرادك دون عناء، كما يوفر لك متعة التّنويع في المشاهدة وثقافة التّمْييز، مع تنافس حتى في تزيين الأسواق ونظافتها مخافة أن يُعاب على أهلها إهمال أو قلة ذوق.. وكان كل ذلك يجعل من أسواق مراكش بهجة للناظرين، مصداقا للجملة المغربية الرائعة المترددة على كل شفاه.. "اللي ماشرا يتنزه"..
يتبع..
* سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.