الغرض من هذا المقال أن نجيب عن التساؤل التالي: كيف ظهر الاستبداد في المجتمع الأمازيغي التقليدي؟ هذا سؤال مهم لسببين؛ أولهما أن المجتمع الأمازيغي التقليدي عرف نوعا من التسيير الديمقراطي لم يكن يسمح بالاستبداد ويقاوم أسبابه؛ وثانيهما أن وعينا بالحاجة إلى الديمقراطية وقيم المواطنة ينبغي أن يمر من خلال الوعي بآليات نشوء النظام الاستبدادي في جذوره الأعمق، حتى داخل البنى الاجتماعية والسياسية التي تقاومه. السلطة السياسية؟ من الأفكار الثورية التي غيرت فهمنا لطبيعة السلطة السياسية تلك الفكرة التي عبر عنها ميشيل فوكو (في كتابه "جينالوجيا المعرفة") والتي مقتضاها أن السلطة، في جوهرها، ليست نوعا من "الطاقة" يطلقها المُتسلِّط على المتسلَّط عليه ويستعملها للتحكم فيه، بل هي نِتاج تصادم وتداخل خطوط توتّر متعددة ومتداخلة تصل في مرحلة من مراحل تصادمها وتداخلها إلى شكلٍ مستقر نسبيا هو بالضبط ما نتمثَّله بصفته "سلطة سياسية". والنظريات السياسية (مثل نظريات "العقد الاجتماعي") ليست سوى محاولات لعقلنة هذا الشكل المستقر نسبيا أو محاولة لخلخلته في أفق دفعه في اتجاه آخر؛ لذلك فمن مهام الفكر الأمازيغي المعاصر أن يُمَفهِم الشكل الذي استقرت عليه السلطة في الجماعات الأمازيغيةِ، سواء في علاقتها مع المخزن، أو في بعدها القبلي أو الحزبي، أوفي كل مجالات التداول السياسي الأخرى. فمن مظاهر فشل التيارات الفكرية والسياسية الأخرى أنها لم تؤسس نظريات سياسية انطلاقا من فهمٍ عالمٍ لتشكُّل العقل السياسي الأمازيغي عبر العصور، بل انطلقت من منطق سياسي لا علاقة له بالأرض التي نريد أن نستنبت فيها أداءنا السياسي.. تحتاج الحركة الأمازيغية إلى نظرية سياسية مستنبتة في التربة الوجودية للبعد الأمازيغي للهوية المغربية. أين نجد معلومات عن نشوء الاستبداد في النظام السياسي الأمازيغي؟ لم تحتفظ الذاكرة العالِمة للمغاربة بمعطيات اثنوغرافية وأنتروپولوجية عن ديناميات ممارسة السلطة السياسية في القبائل الأمازيغية (ما كان يسمى بأراضي "السيبة") لأن التأريخ الرسمي كان يهتم أولا وقبل كل شيء بسلطة المخزن، أي السلطة المركزية؛ لذلك فنحن مضطرون للتعامل مع الأدبيات الكولونيالية التي كان غرضها الأساسي فهم المغرب من أجل السيطرة عليه.. من هذه الأدبيات ملاحظات الكشافة الاستطلاعيين، كالطبيب وايزڭربورڭ الذي أرخ للسنوات الأخيرة لما قبل الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (في كتابه: Au seuil du Maroc Moderne) والرحالة الإنجليزي والتر هاريس، الذي ضمن كتابه معلومات غزيرة عن الحياة الاجتماعية والسياسية للمغرب، في رحلته داخل المغرب بين سنتي 1887 و1889، في كتابه The Land of an African Sultan، والأنتروپولوجي الأمريكي داڤيت هارت، الذي درس البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للقبائل الأمازيغية. إلا أن المؤرخ الذي درس تشكل السلطة الاستبدادية في الحقل الأمازيغي بشكل دقيق ومفصل كان هو مستشار ليوطي روبير مونتاني، في كتابه "الأمازيغ: تنظيمهم الاجتماعي والسياسي"، الذي نشر أول مرة سنة 1931. هل يمكن أن نثق في توصيف مونتاني لظهور الاستبداد؟ قد يعترض على استنادنا إلى توصيف مونتاني لدينامية السلطة في المجتمع الأمازيغي التقليدي بالقول إن مونتاني كان مستشارا خاصا للمقيم العام ليوطي، وإن غايته كانت تسهيل الاختراق الاستعماري، وإن الغايات الكولونيالية أثرت على فهم الرجل للواقع السياسي الأمازيغي، خصوصا عندما نأخذ بعين الاعتبار كراهيته الواضحة للقيّاد الأمازيغ (إذ هم الذين أبلوا بلاء حسنا في مقاومة المستعمر)، وعدم إنصافه في رؤيته للدور الذي لعبوه...هذه الاعتراضات التقليدية وجيهة من وجوه (انظر الرسالة التي ناقشها محمد بردوزي عام 1981 ونشرها عام 2012، والتي انتقد فيها روبير مونتاني بمقاربة متزنة) وغير وجيهة من وجوه أخرى؛ هي وجيهة لأنها تشجعنا على اتخاذ مسافة نقدية من الفرضيات الأساسية لمونتاني، ولكنها غير وجيهة لأنها تغفل عناصر القوة المنهجية في أعمال الرجل التي من بينها أنه يعتمد على جمع المعطيات المباشرة ولا يتدخل بالحكم عليها إلا نادرا، وأنه يقارن بين حالات مختلفة (كمقارنته بين النظام السياسي في الأطلس الكبير ومثيله في سوس ومناطق جنوبية أخرى). كيف ظهر الاستبداد في قلب المجتمع الأمازيغي؟ وصف الرحالة الإنجليزي والتر هاريس طبيعة الاستبداد في المغرب على النحو التالي: "السلطان يضغط على الوزراء، والوزراء يضغطون على الباشا، والباشا يضغط على القايد، والقايد يضغط على الخليفة، وهكذا إلى أن يوضع آخر قروي في موضع المضغوط عليه الذي لا يضغط على أحد". (The Land of an African Sultan: p, 204.) والسؤال الذي يحاول أن يجيب عنه مونتاني هو: كيف تشكل البناء السياسي الجهوي الأمازيغي بحيث أصبح حلقة في هذه السلسلة الاستبدادية، يربط القايد أدناها (القبيلة الأمازيغية) بأعلاها (المخزن)؟ البناء الاجتماعي السياسي الأمازيغي بسيط ومقاوم للاستبداد، تجتمع فيه ما بين 200 إلى 400 عائلة تستوطن مساحة مقدارها ما بين 40 إلى 50 كيلومترا، في إطار سياسي اجتماعي يسمى "إغس"، التي تعني حرفيا "العظم". ويتوفر كل "إغس" على مجمع للتشاور والحكم يدعى "إنفلاس" مفرده "أنفلوس"، مشتقة من مادة "فلس"، التي تفيد معنى الثقة والأمانة؛ وهو مجمع منتخب من "الأمناء" يسهرون على تطبيق "إزرفان" (القوانين العرفية) على مستوى "إغس"، أو على مستوى القبيلة. وعادة ما تتكون القبيلة من تحالفين متنافسين كبيرين مكونين من مجموعة من "إغسان"، يسمى كل منهما "لّْفّْ" (يدعى عند القبايل "صّوفّ"). لاحظ مونتاني أن مجلس "إنفلاس" يتمتع برمزية روحية لأنه كثيرا ما كان يضم رجالا محترمين دينيا كانوا يسمون في بعض المناطق "إمباركين". لكن هؤلاء لم يكونوا يمارسون سلطة زمنية، بل يكتفون بالمباركة وقراءة الفاتحة والأدعية. لاحظ مونتاني أيضا أن أعضاء مجلس "إنفلاس" كانوا متساوين ومتضامنين؛ لكن مساواتهم وتضامنهم سرعان ما ينتهيان عندما يظهر داخله ما يسمى "المقدّْمين"، الذين عادة ما يكون عددهم ثلاثة، والذين يدخلون في تنافس حاد بينهم على الزعامة، فيلجأ أحدهم إلى توزيع الموارد التي يتوفر عليها المجلس (والتي تأتي من الذعائر المستحقة على المخالفات والجرائم) من أجل استمالة الأتباع والمناصرين إلى أن يسحق بقية المقدمين. يذكر لنا مونتاني أيضا أن المقدم القوي كان يستميل الأتباع أيضا بالإكثار من دعوة الناس إلى الولائم والحفلات وغير ذلك من أشكال الرشوة السياسية التي لازالت سائدة بين المغاربة إلى حد الآن. ومن بين أشكال خروج "إنفلاس" عن ديمقراطيته الأصلية أن المقدّم المستقوي داخل المجلس لا يعود خاضعا لاشتراط الانتخاب السنوي الذي تفرضه قوانين "إزرفان" الأمازيغية، فيستغل الصراع بين جماعتي "لّفّ" ليرفع نفسه من مرتبة عضو في "إنفلاس" إلى مرتبة "مقدّم" ثم إلى مرتبة "أمغار"، عندما يفرض نفسه على مجموعة معلومة من "إغسان". وبعد أن يقضي على أمغار "لّف" المنافس يتحول إلى "قايد". وهنا بالضبط يكمن الفرق بين "القايد" و"أمغار ن أُفلّا"، الذي تنتخبه بعض القبائل العليا الأمازيغية، كأيت عطا في الجنوب الشرقي، وأيت أُرغايل في الريف. فبينما يكون "القايد" نتيجة للصراع والرشوة السياسية والتحايل، يكون "أمغار ن ؤفلا نتيجة ل"الانتخاب الديمقراطي التشاركي المعتمد على نظام "أمسمّوس" الأمازيغي الأصيل". يذكر لنا مونتاني أيضا أن الأطلس الكبير عرف ستة من هؤلاء القياد منذ سنة 1850 إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وهم: محمد إد ماغوس، سي مختار السكساوي (أبو الطيب الڭندافي)، محمد (أبو الڭلاوي)، محمد ئبيبات، وبو ناڭة من إدا وتانان. من هؤلاء خرج "القياد" الثلاثة الكبار الذين كان الأوروبيون يسمونهم "أسياد الأطلس" وهم: المتوڭي، قائد القبيلة الصغيرة التي تسمى "متوڭة"، والكندافي، أمغار تاڭندافت، الذي أصبح "قايد" قبيلة أسيف نفيس. وكان هؤلاء موالون للحكم المخزني المركزي دورهم تيسير سعي المخزن إلى التحكم في القبائل الأمازيغية وفرض سيطرته عليها. وهذا ما مكنهم من الحصول على سلاح أكثر وامتداد مجالي أكبر. كيف يأتي الفساد إذن؟ الدينامية الأساسية لخروج السلطة السياسية الأمازيغية عن شكلها الديمقراطي التشاركي البسيط هي أن عضوا من أعضاء "إنفلاس" يستغل موارد المجلس لاستمالة الأتباع فيصبح "مقدم"، ثم يستغل هذه الموارد للمبالغة في إظهار الكرم، ليصبح أمغارا ل"إغس"، ثم يستغل الصراع بين "لفّي" القبيلة ليفرض نفسه "قايد"، ثم يتحالف مع المخزن لتوسيع دائرة نفوذه ولاستجماع الموارد من ضرائب الطرق والسفر ليزيد في تثبيت شوكته... فتحول المجتمع الديمقراطي الأمازيغي التشاركي تدريجيا إلى دويلة يحكمها طاغية يتحالف مع المخزن الاستبدادي لإحكام قبضته على البلاد والعباد؛ ذلك فإن كثيرا من المناطق الأمازيغية، كسوس والريف والقبايل، كانت تتحفظ على وظيفة "أمغار" وتفضل استيداع السلطة السياسية بيد "إنفلاس". خلاصات العوامل التي لعبت دورا أساسيا في إخراج النظام الاجتماعي الأمازيغي من تشاركيته الأصلية هي: 1 أن اقتصاد هذا المجتمع كان قائما على الريع المحدود، لا على الثقافة الابتكارية التي تجعل الحياة المادية للفرد مستقلة عن الولاء لجُمّاع الريع. 2 أن "المقدمين" كانوا يستعملون موارد "إنفلاس" بدون محاسبة أو مراقبة. 3 أن المجتمع السياسي الأمازيغي كان يسمح ل"أمغار" بخرق القانون العرفي، الذي يقضي باختيار "أمغار" مرة كل سنة. تلك هي أسرار الاستبداد دائما: غياب الثقافة الابتكارية، وغياب المحاسبة، وعدم التطبيق الصارم للقانون.