هي "بلاد جاك بريل" كما يحلو للبعض أن يصفها، قلب أوروبا الذي ينبض بالموسيقى، هي حاضنة كل من لا يملك في الحياة إلا آلة تساعده على البقاء.. هنا الحديث عن مركز الاتحاد الأوروبي، بلجيكا. بزيارة العاصمة بروكسيل، لا يكون المرء مضطرا إلى أن يبحث عن مكان للترفيه، فيكفي أن يزور ساحة البورصة وسط المدينة أو "Place De la Bourse" كما يسميها البلجيكيون، أو أن يتوجه إلى مدينة "بروج"، ليجد موسيقيين حاملين آلاتهم يشنفون المسامع بأنغام إسبانية تارة، وأمريكية لاتينية وإفريقية تارة أخرى. وسط العاصمة يتجمهر الزوار من مختلف الجنسيات، باحثين عن أنغام تشفي غليلهم الفني، جمهور يصعب تحديد البقاع التي قدم منها، إلا أن ملامحه تعكس أناسا من أصول آسيوية وإفريقية وحتى أمريكية وأوروبية، جاؤوا إلى بلجيكا إما بحثا عن تحسين وضعهم المادي، أو للسياحة والتعرف على الغنى الثقافي ل"قلب أوروبا النابض". كلارا والقيثارة وسط ساحة البورصة، تمكنت الشابة "كلارا"، البالغة 22 ربيعا، من نيل شهرة ليست لغيرها من فناني الشارع ببروكسيل، إلى درجة وصفها من البعض ب"إحدى معالم بلاص دو لابورس"، إذ أصبحت رمزا من رموز العاصمة. حين تخرج الشابة آلتها من حافظتها، استعدادا لبدء العزف، فإنك ترمق كلمات كتبت بالإنجليزية تقول: "Klara with guitar" (كلارا والقيثارة)، ما يحيل على مدى ارتباطها بهذه الآلة. وتقول الشابة: "صحيح أنني أقوم بتسجيل الأغاني في أستوديو خاص بي، لكن هذا لا يجعل مني منتجة، فأنا لا أملك لا المال ولا العلاقات التي قد تؤهلني لبلوغ هذا المستوى". وتؤكد الفنانة الشابة أنها "ترغب في أن يتذكرها الناس بكونها فتاة كانت تفعل ما تحب"، وهذه الرسالة نفسها المكتوبة على الحافظة التي تستعملها كصندوق لمن يرغب في التبرع ببعض القطع النقدية، ولمن يريد شراء أقراص الألبوم الوحيد في مسيرتها الفنية. تستأثر كلارا باهتمام المارة في كل مرة تخرج آلتها، نظرا لأنها اعتادت العزف في ساحة البورصة وفي الأمكنة المجاورة، وهذا ما مكنها من كسب ثقة الجمهور. في هذا السياق تقول الفنانة: "يعود الفضل في كل ما أقوم بها إلى الناس العاديين الذين يمرون ويضعون النقود في حافظة القيثارة..أنا ممتنة جدا لهم". وما إن تنهي الشابة من غناء نسختها الخاصة من أغنيةLove me again (أحبني من جديد) ل"جون نيومان"، حتى يصرخ الجمهور مطالبا إياها بأغنية أخرى قبل الرحيل، فتطمئنهم الشابة بابتسامة: "من أجلكم سأغني أكثر من أغنية". هي لحظات تتقاسمها كلارا مع جمهور من كل أنحاء العالم، تترجم مدى الألفة التي تربط بين الشابة وجمهورها المتغير، وتعكس حجم ارتباطها بهذا المكان. صاحب "الأكورديون" لا يمكن لمن يحل ببروكسيل ألا يزور قصر العدالة الشهير.. في طريقك إلى المكان قد تستعمل مصعدا معروفا باسم "Ascenseur des Marolles"، يحملك إلى قنطرة صغيرة تعبرها لتبلغ الشوارع المحيطة بالقصر. الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، يجلس في نهاية القنطرة رجل متقدم في السن، حاملا آلة لا تراها كل يوم، هي آلة الأكرديون النمساوية الأصل؛ وخلافا لكلارا فإن الرجل الذي تمكن البياض من شعره لا يحصل على الاهتمام الكافي. بضع قطع نقدية تزين الطبق الذي أمامه، هي قطع معدودة من فئة 50 سنتا و1 أورو..يظهر عليه التوتر، فبهذه الوتيرة لن يستطيع تغطية كل التكاليف. لكن لا كلمة تصدر عنه، فقط عزف متواصل وحركة رأس يشكر بها كل من تبرع له..وعكس عازفة القيثارة، فلا ابتسامة على وجه حامل الأكورديون. إنه يعزف اللحن نفسه منذ نصف ساعة ولا أحد يتوقف، يخرج من المصعد شاب حاملا على ظهره قيثارة، ويضع قطعة نقدية من فئة 2 أورو في الصحن، غازل لحن الأكورديون أذنيه، فتوقف وأخرج قيثارته وشارك في العزف.. لحن جميل يعزفه الرجلان، مزيج آلتين جمعتهما شوارع بروكسيل..ربع ساعة انقضت ولا أحد توقف. إلى القرون الوسطى على بعد 100 كلم من العاصمة الأوروبية بروكسيل، توجد مدينة سياحية تسمى Bruges (بروج)، تقع ضمن الإقليم الفلامندي البلجيكي، وتعود إلى القرون الوسطى، إذ استطاعت أن تحافظ على جمالها وبساطتها التاريخيين. تتوسط مدينة بروج بناية شاهقة..يتعلق الأمر ببرج Beffroi المائل، الذي لا يمكن لمن يزوره ألا ينتبه إلى رجل يضفي على المكان سحرا قويا، إنه شاب بلجيكي يعزف على آلة Hang (هانج)؛ وهي آلة نادرة تشبه الصحن الطائر، تصدر أصواتا عند قرعها باستعمال الأصابع. يضفي العازف Curt Ceunen جوا من الحياة على المكان، ويلقب نفسه ب"فنان القرون الوسطى"، لذا فالموسيقى التي يعزفها تشبه تلك التي تستخدم في الأفلام التاريخية. بدأ الفنان العزف منذ صغر سنه، واكتشف الآلة التي يعزف عليها سنة 2005، حينما كان يعيش حياة الرحالة، لكنه لم يتمكن من إيجاد واحدة له إلا بعد مرور سنوات، نظرا لكونها آلة نادرة جدا ندرة مصنعيها. على غرار جل موسيقيي الشارع، وضع "كورت" صندوقا أمامه، وضعت فيه قطع وأوراق نقدية ونسخ من ألبومه المعنون ب"L'intomporel (الخالد) الذي يحظى بإقبال كبير من الجمهور. كل من يدخل من باب البرج بنية الصعود إلى القمة فإنه يغير رأيه ويقف متأملا الآلات الغريبة التي أحضرها الفنان الشاب، الذي يهوى حياة الموسيقى والسفر ويصطحب آلاته أينما حل وارتحل..يتعلق الأمر بآلة نفخية مصنوعة من خشب خاص، وآلة تعزف بواسطة الرجل، تنفتح وتنغلق ببطء شديد، لكنها تصدر صوتا شديد الغموض.