أكدت دراسات علم الاجتماع الكولونيالي، التي مهدت الطريق للاستعمار، أن زيارة محاكم دولة قمين بمعرفة وضع العدالة بها، وزيارة إدارتها كفيل بمعرفة درجة الفساد فيها، وزيارة سجونها يكشف عن حجم انتهاكات حقوق الإنسان فيها. أما إذا أردنا معرفة حالة دبلوماسية الدولة، فعلينا أن نتعرف على هوية وزير خارجيتها ونطلع على قائمة سفرائها وآليات ومعايير اختيارهم وكيفية إدارتها للعمل الدبلوماسي. إن هناك مهاما، مثل الدبلوماسية، لا يجوز اتخاذ أي قرار بشأنها تحت الضغط ولا يجوز أيضا أن تتداخل فيها الدوافع الذاتية بالعوامل الموضوعية على حساب المصالح العليا للدولة. فاختيار وتعيين سفير يمثل دولة في بلد ما يجب أن يخضع لآليات ومعايير مهنية صارمة تتناسب مع طبيعة المهام الموكولة للمرشح والأهداف المراد تحقيقها وراء هذا التعيين وهذا التمثيل الدبلوماسي. فالعمل الدبلوماسي حرفة وصنعة لها مواصفاتها الخاصة بمهامها السياسية ومحددات يجب أن تتوفر في الشخص المرشح لهذه المهام، على الأقل من وجهة نظر تراثنا المغربي والإسلامي، من استقامة وأمانة في الذمة المالية والأخلاقية وحس وطني صادق وحنكة سياسية ودراية بالشؤون الدولية ومعرفة واسعة بتاريخ المغرب وبلد الاعتماد وقدرة على حسن الإدارة وبعد نظر وكياسة وحسن قيادة فريق العمل وطيبة نفس ورح مناضلة. ولقد دأب جل المتعاقبين على وزارة الخارجية، منذ تأسيسها عام 1956 حتى اليوم، على إضفاء الكثير من الغموض والتواري على الفعل الدبلوماسي والكثير من اللبس المقصود والإبهام غير المطلوب على اللغة الدبلوماسية وكثير من السرية غير المبررة وعدم الثقة تجاه كل من يطرق بابها من صحفيين وباحثين ومثقفين للفهم أو الاستفسار أو الدراسة أو المساءلة. إنهم يريدون ألا تحكم هذه الوزارة قواعد العمل المؤسسي ولا تخضع لأي مراقبة تشريعية أو غيرها. لقد عمد الكثير من وزرائها المتعاقبين على القول، أمام مسامع الصحفيين أو أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، إن الخارجية وزراة سيادة. إنه قول مردود عليه من صميم تصريحاتهم، إذ لا يفترون وهم يرددون أمام المسؤولين الغربيين بأن بلادنا دولة مؤسسات. إذن، لماذا تستعصي وزارة الخارجية على التغيير؟ لقد اتسمت جل قوائم السفراء التي يقترحها وزراء الخارجية على الملك غياب معايير المهنية والكفاءة، وغلب عليها، ولازالت، مبدأ المكافئة ومراعاة توازن المصالح داخل المثلث الذي يحسم مصير أعضاء هذه القوائم برئاسة الملك وعضوية وزير الخارجية ومدير عام المديرية العامة للدراسات والمستندات. إن معرفة الملك بالأسماء والأشخاص المقترحة عليه لمثل هذه المناصب الحساسة تستند إلى ما يقدمه له طرفي "التحالف الثنائي المقدس" من تقارير، وهما الخارجية و"لادجيد"، إضافة إلى أيادي حكومة الظل، مستشاري الملك، الذين لا يخضعون، للأسف، لأي نص قانوني يحدد صلاحياتهم ومجال اختصاصهم، ولا يخضعون للرقابة الإدارية أو التشريعية. إن اختصاص لجنة الشؤون الخارجية الرقابي، في نظام ديمقراطي برلماني، هو التصديق على لائحة السفراء قبل عرضها على الملك لاعتمادها نهائيا. يعتبر الكثير منصب سفير مغنما، كما يوظف كإحدى آليات الاستيعاب أو الاستبعاد لشخصية ما حزبية أو جامعية أو عسكرية أو استخباراتية أو إعلامية أو حقوقية، من اليسار إلى اليمين إلى أبناء دار المخزن إلى انفصاليين سابقين، إلا أن حظ أبناء البيت الدبلوماسي كان دائما ولازال فقيرا وبئيسا، وهم الذين تدرجوا في مساره الإداري والوظيفي وتمكنوا من هذه الصنعة عبر سنوات من الممارسة والجهد والانتظار. لقد علمت من مصدر موثوق أن صديق الملك فؤاد عالي الهمة قد أختير، بعد أن أصبح مطلبا مركزيا من مطالب حركة 20 فبراير التصحيحية، لمنصب سفير للمغرب في المملكة العربية السعودية، بعد أن ظلت سفارتنا بالرياض حتى اليوم، وهي إحدى العواصم المهمة في المنطقة والعالم العربي والإسلامي، بدون سفير لأكثر من سبعة عشرة شهرا. إن مثل هذا الترشيح يعتبر حالة دراسة ونموذجا للقرارات التي تصدر في إطار حسابات شخصية وظرفية سياسية خاصة وليس على أساس معايير مهنية صرفة. إن العمل الدبلوماسي ليس نزهة صيد السلمون ولا حفلا تنكريا ولا مركزا استشفائيا ولا مناسبات ليالي الأنس، كما هو حال العديد من سفرائنا، وإنما هو نضال وطني مستمر لحماية مصالح الدولة المغربية خارج حدودها الوطنية، وعمل دؤوب ومضن للتعريف بالإشعاع الحضاري والديني للمغرب. وشهدت التعيينات الدبلوماسية خلال فترة العهد الجديد واستوزار الطيب الفاسي الفهري وسلفه محمد بنعيسى، اضطرابا في الأداء وأزمات دبلوماسية أكدت أن المغرب لم يعد يحظى بالاهتمام الذي كان عليه من قبل لدى المنتظم الدولي. وقد كانت فاتحة هذا الاضطراب أزمة جزيرة "ليلى"، وأزمات دبلوماسية أخرى شكلت إحدى مميزات سلوك خارحيتنا خلال العقد الأول من هذه الألفية، والطريقة التي أثيرت بها وأسلوب معالجتها، حيث تأكد للعالم أن جل أعضاء المحيط الاستشاري الملكي ووزيري الشؤون الخارجية السابق محمد بنعيسى والحالي الطيب الفاسي الفهري، يفتقرون للحرفية والحس السياسي الوطني والدراية بالشؤون الإقليمية والدولية وبإدارة الأزمات بما يخدم المصالح الوطنية. لقد كانوا بارعين في صناعة تلك الأزمات، ولكن ورطوا رئيس الدولة في مواقف محرجة وعرضوا الشعب المغربي للإهانة، وراحوا يبحثون عمن يخمد الحرائق التي تسببوا فيها. مشهد آخر من حالة اضطراب وعجز وزارة الخارجية في عهد الطيب الفاسي الفهري غير المنتخب، هو أن وزارة الخارجية لم تعرف أي حركة تعيين سفراء منذ عام 2005، إلا ما عين من سفراء هنا وهناك حسب الظرفية السياسية. فهل يعقل أن تبقى سفارات بدون سفير في عواصم مهمة مثل الرياض لأكثر من سنة ونصف، وبرلين قبل تعيين رشاد بوهلال لسنتين، وأثينا قبل تعيين الأنصاري لأكثر من سنتين، وإيطاليا لأكثر من سنة قبل تعيين السفير المخلوع نبيل بن عبد الله واستبداله بالسفير المتجول حسن أبو أيوب؟ لقد ذكر مصدر دبلوماسي أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كان قد عبر عن استياءه من تعيين فتح الله السجلماسي سفيرا للمغرب في باريس عام 2004، الذي لم يتجاوز بعد ربيعه الثامن والثلاثين، بعد حوالي سنة عمل فيها سفيرا ببلجيكا، وحوالي سنة مديرا للشؤون الأوروبية بالخارجية التي ألحق بها، بفضل قرابته بالطيب الفاسي الفهري، قادما من وزارة التجارة الخارجية، التي حط بها قادما من البنك التجاري المغربي بإيطاليا. هناك خلط عند هؤلاء القوم بين التجارة الخارجية والشؤون الخارجية، وهو نفس الخلط القائم لدى مثل هذه العائلات بين المال والحكم. إن هناك أزمات دبلوماسية ومفاوضات سياسية وتعيينات شملت سفراء على رأس بعثاتنا في الخارج تؤكد غياب الرؤية السياسية لدى وزير خارجيتنا، خريج المعهد الوطني للإحصاء، سفراء لا علاقة لهم بالعمل الدبلوماسي ولا بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، جاؤوا من كل حدب وصوب في ظروف شخصية مختلفة بحثا عن الدفء والمصالح في الدبلوماسية، من بينهم المعارض السابق والانفصالي السابق والانقلابي السابق والاستقلالي السابق والاتحادي السابق والتجمعي السابق والجامعي السابق والمعلم السابق والصيرفي السابق والوزير السابق والعاطل السابق والمتجول السابق والوالي السابق والمتقاعد السابق والرياضي السابق والمخبر السابق..والسابقون السابقون، أولئك المقربون".
إننا نفهم الآن لماذا أصاب دبلوماسية الطيب الفاسي الفهري، المشكلة من هذا ال"كوكتيل الدبلوماسي"، الشلل والتردد والتخبط وعدم التجانس وعدم انخراطها في أي مبادرة إقليمية أو دولية جديدة تضع المغرب في قلب الاقتراحات لحل الأزمات العربية، فضلا عن تحقيق نجاح يذكر لصالح قضايانا الوطنية الاستراتيجية مثل ملف الصحراء أو الصيد البحري أو المدن السليبة أو وضعية الجالية المغربية.
إن السبب الرئيس وراء حالة دبلوماسيتنا بقيادة الفاسي الفهري، هو أن العالم يتغير بسرعة من حولها ووزير خارجيتنا لا يتغير، بل يستمر في تحليل الأحداث الدولية، كما فعل في مداخلته أمام مؤسسة "تشاثام هاوس" بلندن الأسبوع الماضي، بأدوات الحرب الباردة وعقيدة "المحافظون الجدد"، ومحاولة تخويف الغرب مما أسماه ب"تحالف اليسار ومتصفحي الإنترنت والإسلاميين"، أو "الشتاء المظلم للربيع العربي"، حسب تعبيره. لقد كتب الصحفي الأسترالي جوليان أسانج، يوم تأسيس موقع "ويكيليكس" المثير للجدل عام 2006، شارحا الفلسفة الكامنة وراء هذا التأسيس، حيث قال "لتغيير سلوك الأنظمة, علينا أن نكون متأكدين مما إذا كنا قد أدركنا بالفعل حقيقة أنها لا تريد أن تتغير. وعلينا أن نفكر في ما وراء ما فكر فيه أولئك الذين سبقونا إلى اكتشاف التغييرات التقنية التي حددت لنا طريقا للتحرك باتجاهات لم يسبقنا إليها الأجداد". إن سر الثورة الخلاقة التي عمت جل دول الوطن العربي هو هذا الاكتشاف. فهل يفهم الطيب الفاسي الفهري، الوزير غير المنتخب، أن أحد المطالب المستعجلة لحركة شباب 20 فبراير المبارك والقوى المناضلة التي تساندها، هي رحيل حكومة عباس الفاسي غير الشرعية بكل وزاراتها، من بينها الخارجية، وأن رياح التغيير ستأتيه، هذه المرة، من خارج الوزارة وداخلها بعد أن استعصت على التغيير منذ سنوات. *دبلوماسي سابق [email protected]