كلما رحل عنا شخص عزيز نتوقف دائما حائرين أمام فلسفة الحياة وكأننا نسينا أن الموت حدث عادٍ موعد مؤجل، منذ الميلاد ننساه لكي نحيا وقد نتذكره أحيانا في الحروب والمرض وفي الشدائد، ثم ننساه مرة أخرى لكي نعيش. لكن الموت لا يعني الفناء؛ فالكبار لا يموتون، تبقى أعمالهم تتحدى الموت وتخلدهم في عقولنا ووجداننا، تمدد في عمرهم وتجعلنا نشعر بأنهم معنا أحياء. الكبار وحدهم ينتصرون على الموت ويحولونه إلى خلود أبدي. الإبداع، الكتابة، الفن، المعمار...أدواتهم وشواهدهم على ذلك الانتصار. والمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري من هؤلاء الكبار الذين هزموا الموت من خلال كتاباتهم ومشاريعهم الفكرية. نقرأه وسيقرؤه القادمون، مثلما قرأ هو ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون وغيرهم، سيقرؤونه وسيتساءلون مثلما نتساءل اليوم ماذا استفدنا من صاحب "نقد العقل العربي". أربعون سنة قضيتها مع الراحل مرت بسرعة البرق، تعلمت فيها معنى حب الوطن والوفاء والإخلاص للمبادئ، تعلمت فيها معنى العفة وعدم التهافت على المناصب ومعنى التواضع ومعنى الصداقة، صداقة من نوع صداقة الأطفال التي تنطوي على أسرار لا يعرفها الكبار، أسرار فقدوها نهائيا عندما فقدوا براءة الأطفال. أربعون سنة تعلمت فيها ما معنى أن تكون عروبيا وأن تكون مسلما في زمن كثر فيه التطرف وتجار الدين، تعلمت فيها كيف يعيش الكبار في صمت وكيف يهزمون الموت بأعمالهم. ست سنوات خلت منذ أن دفنت جسدك في التراب، لكن فكرك ظل حيا يوجهني وينير لي الدرب المظلم نحو آفاق أخرى وغد زاهر وهّاج. أتذكر أول مرة تعرفت فيها على فكرك من خلال ذلك الكتاب الأصفر الرديء الطباعة، كتاب "دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي". يومها كنت قد أثقلت عليك بكثرة السؤال فكان جوابك "اقرأ أولا وسنناقش في ما بعد"، لعلك رأيت فيّ كائنا تراثيا، شعرت بذلك الارتباك والقلق الذي كنت أعاني منه- كما عانى منه شباب جيلي وما يزال يعاني منه شباب اليوم- بسبب التحدي المفروض علينا لمواجهة تحديات العصر، وبناء ذاتنا، والمساهمة في تحقيق الحداثة دون أن نفقد هويتنا. ومن خلال "نحن و التراث" سأفهم أنه من الضروري أن ندخل في حوار نقدي مع أسلافنا، وذلك من أجل فهمهم فهما أعمق وربطهم بنا بشكل من الأشكال كلما كان ذلك ممكنا. فتراثنا كما كنت تقول: "ما زال لم يعقلن ويقدم في تطوره على أساس أنه تاريخ وتطور وصراع. إنه لا زال أكواما من الأفكار والاتجاهات المعزولة: شيعة، خوارج، فلاسفة، متصوفة، شعراء... كل هذا الخليط حاضر أمامنا، ولكن ليس حضورا تاريخيا، كشيء استوعبناه وفهمناه وانتقدناه ودخلنا معه في حوار ورتبناه في تاريخنا". إن الدرس البليغ الذي اقتنعت به هو ما انتهيت إليه في الكثير من دراساتك، وهو أننا ما لم نؤسس ماضينا تأسيسا عقلانيا فلن نستطيع أن نؤسس حاضرا ولا مستقبلا بصورة معقولة، وبهذا تمكنت، بفضلك، من حل -في ذهني- هذا الصراع بين التراث والحداثة. ومن سؤال التراث إلى سؤال النهضة. لقد كان طرحك للإشكالية طرحا جديدا عندما اعتبرت أن هذا السؤال سيظل ناقصا ومحدود الآفاق ما لم يطرح على الصعيد الإيبيستيمولوجي، ما لم يتجه مباشرة إلى "العقل العربي" ذاته؛ ذلك أن العرب إنما بدؤوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه. لم يكن نقدك للعقل العربي شعارا إيديولوجيا للمدح أو القدح، وإنما كان دراسة للقوانين العامة المؤثرة في تكوين هذا العقل، تلك النظم المعرفية التي أسستها ظروف آنية وجعلتها تحكم هذا العقل وتتسلط على رؤية الفرد العربي إلى الأشياء في اكتساب المعرفة. كان هدفك الإنسان الذي تقولب عقله في ذلك الإطار المرجعي الوحيد الذي تشكل في عصر التدوين وبقي هناك يتحرك في زمان ومكان وحيد نعيشه نحن كما عاشه أجدادنا دون أن نعي سلطة ذلك الماضي. ورغم محاولات الكندي والفارابي وابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون وغيرهم تأسيس البيان العربي على البرهان واستبعاد العرفان، إلا أن تصادم النظم المعرفية التي كونت العقل العربي، سيؤدي في الأخير إلى أخذ المضمون من "البيان" والشكل من "البرهان" ويقال هذا للعوام، والأخذ من "البيان" الشكل ومن "العرفان" المضمون ويقال هذا للخواص. أما ما تم إلغاؤه بإصرار فهو مضمون "البرهان"؛ أي السببية، وبالتالي العلوم العقلية الرياضية والطبيعية، على أن هذه العلوم لم تلغ ايبيستيمولوجيا وحسب، بل ألغيت اجتماعيا وتاريخيا كذلك، مما أدى بالعقل العربي إلى تقديم استقالته وإلى هيمنت الأسطورة والعرفان الصوفي. وهكذا توصلت إلى أن سر تخلفنا يرجع إلى "البنية المحصلة- من النظم المعرفية الثلاثة (البيان العرفان والبرهان)، إلى البنية المعرفية اللاشعورية التي تؤسس التفكير وتوجهه داخل الثقافة العربية الإسلامية ككل. ومن هنا تبرز أهمية وراهنية دعوتك إلى "عصر تدوين جديد" لتكوين عقل عربي جديد، جاعلا من إعادة ترتيب تراثنا الطريق نحو ذلك. وعملية الترتيب هذه في السياق التاريخي تستلزم العقل وتستلزم الاعتماد على الاستقراء والاستنتاج والمقاصد والكليات والنظرة التاريخية والتحرر من سلطة اللفظ وسلطة القياس الفقهي وسلطة التجويز. ومن هذه الممارسة سيتكون لدينا عقل خاص، سيتجدد العقل العربي من هذه الممارسة النقدية للتراث العربي، لأنه عندما نقوم بممارسة نقدية للتراث العربي قصد إضفاء المعقولية عليه، قصد ترتيبه في سياقه الزماني المكاني الحضاري، قصد ترتيبه منطقيا، فنحن نقوم، لاشعوريا، بالشيء نفسه لبنيتنا الذهنية. ورغم إيمانك القوي، أيها الأب الحكيم، بأن قيام عقلانية عربية لا بد أن تكون مؤسسة على تعامل عقلاني نقدي مع التراث، لم تفتك الإشارة إلى ضرورة الانتظام في الفكر العالمي المعاصر دون أن تتركه يهيمن على تفكيرنا، وإنما يجب التعامل معه بمثل المنهج والروح النقدية التي نتعامل بها مع تراثنا، فكما يجب أن نقرأ تراثنا في تاريخيته، يجب أن نقرأ تراث الغير أيضا في تاريخيته، ولو كان حاضرا. وتبقى لحظات تعرفي على ابن رشد من خلال كتبك لحظات فريدة، ومن مجمل ما استفدته أذكر على الخصوص تطوير مفهوم "العقيدة". فابن رشد يقترح فهما علميا متقدما للعقيدة؛ ذلك أنه بدلا من الانطلاق في بناء الصرح النظري للعقيدة من وضع الإرادة الإلهية المطلقة كشيء يناقض إرادة الإنسان وقوانين الطبيعة، الشيء الذي يثير مشكلة المسؤولية والجزاء ومشكلة اطراد قوانين الطبيعة ويدفع إلى طرحها طرحا لاعقلانيا ولا علميا، ويفرغ مفهوم الحكمة والعناية الإلهيتين من مضمونهما، فابن رشد يرى أنه بدلا من ذلك ينبغي الانطلاق من النظام والترتيب اللذين في العالم بوصفهما تجليات للحكمة والعناية الإلهيتين ودليلا عليهما، وبالتالي دليلا على وجود الله ذاته. "وفي هذه الحالة لن يكون هناك أي تعارض بين العقيدة الدينية وبين القول بالسببية والطبائع واطراد قوانين الطبيعة والقول بإرادة الإنسان وقدرته في ظل الشروط التي يقتضيها النظام والترتيب اللذين في العالم بما في ذلك بدن الإنسان نفسه. أما الإرادة الإلهية المطلقة فلن ينال منها كل ذلك شيئا لأنها هي التي قضت أن يكون ذلك كذلك. فحرية إرادة الإنسان وقدرته واطراد قوانين الطبيعة الخ، كل ذلك مظاهر لسنة الله: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الفتح 23). وهكذا يتحرر العقل العربي من ذلك التصور الذي يربط بين التجويز، بين اللاعقل والعبث المخيف، وبين العقيدة الدينية، ويصبح القول بالتالي بارتباط المسببات بأسبابها ارتباطا ضروريا جزءا من العقيدة الدينية نفسها، الشيء الذي يعني منح العقل ما به قوام وجوده وما به يمارس سلطته، وهل العقل شيء آخر غير "إدراك الموجودات بأسبابها"، كما يقول ابن رشد" (بنية العقل العربي ص435). وتشاء الأقدار أن تختتم أعمالك بمحاولة تفسير القرآن الكريم، وذلك بحسب ترتيب النزول، تنتهي سيرتك الفكرية على أعتاب النص القرآني الذي تشعبت منه مختلف العلوم الإسلامية. هذا التفسير الذي أطلقت عليه "التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" اعتمدت فيه منهجية جديدة في التعامل مع آيات الكتاب وشرحها، جاعلا بذلك تسلسل سوره يباطنه تسلسل منطقي لوقائع الدعوة. ذلك أنك انتبهت إلى أن التفاسير السابقة اتسمت بالغموض لأنها خلطت السور المكية بالسور المدنية ولم تأخذ تواريخ النزول في الاعتبار، ما أخرج النص من سياقه. وهكذا اعتمدت ترتيب النزول لتوضيح التفسير وشرح المعاني وفق مسار التنزيل وتساوقه مع السيرة النبوية ومسيرة الدعوة. وعند استلامك نسخة من الجزء الأخير من تفسير القرآن الكريم، قلت مقولتك الشهيرة: "الآن مرحبا بملك الموت". لقد كُنْتُ، من موقع الابن المهموم بصحة والده، شاهدا على ما أحدثه الداء فيك من آثار. لقد أتعب الداء والدواء جسدك، أما عقلك فلم يتعب وكنت تستعد لمشروع جديد؛ مشروع "نقد العقل الغربي"، لكن القدر أراد لك أن "ترحل" عنا وتستريح. فلكل بداية نهاية ونهاية كل واحد منا الانتقال من هذه إلى تلك... وقد توفقت أيما توفيق أيها الوالد في ترك بصمتك الواضحة في تضاريس الفكر العربي المعاصر، فنلت لقب "عميد الفكر العربي" باستحقاق لا يماري فيه إلا مكابر. ها هي ذي ذكرى "غيابك" السادسة تحل بيننا، وبكل صدق أقولها لك أيها الوالد غيابك حضور؛ فحال العرب يستدعيك... يستدعي أفكارك... نزاهتك... ورعك... عفتك... طهرك...إن كتبك التي تركتها بيننا بعد موتك تَحْيَا وتُحْيِي وتبذر الأمل في أمتنا التي تئن. ثق أيها الوالد أن التقدير هو ما يستشعره كل من يقرأ لك اليوم ومن سيقرأ لك غدا. ولذلك فإنه لا يسعني إلا أن أفتخر بك أبا ورجلا أفنى حياته في التفكير إلى أن أصبح لا يذكر اسمه إلا وذكر معه الفكر العربي وكأنه هو هو. فسلام عليك يا أبت يوم ولدت.. وسلام عليك يوم مت.. وسلام عليك يوم ستبعث حيا.