يعود بنا النقاش الدائر في هذه الأيام حول الإسلام، واللاجئين المسلمين، ومسلمي أمريكا، ودونالد ترامب وخطابه التحرضي ضد المسلمين... إلى عمل مسرحي للكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير تحت عنوان"عطيل Othello". بطل المسرحية مغربي شريف، هاجر إلى دولة غربية، وانظم إلى الجيش في خدمة البندقية، وترقى في الرتب إلى أن وصل لدرجة الجنرال. في تلك الحقبة التاريخية التي تصورها المسرحية كان الأتراك يمثلون بالنسبة لسكان البندقية وإنجلترا في زمن شكسبير العدو اللدود الذي شغل المسيحيين أثناء الحروب الصليبية. يتقرر إرسال عطيل البطل إلى قبرص ليرد غزو الأتراك عن الجزيرة، فقاد بذلك جيشه المسيحي ضد ما سمي ب"المشركين" المسلمين (heathens) في قبرص حيث جرت معارك عنيفة انتصر فيها وأغرق سفن الأتراك العثمانيين. سؤال الدين في الواقع محوري في هذه المعادلة: البندقية بلد مسيحي، والأتراك العثمانيون كانوا مسلمين، وعطيل البطل مسلم مغربي مهاجر. في المسرحية الدرامية هذه، يقرر عطيل الارتباط بامرأة مسيحية من البندقية اسمها ديسديمونا، ابنة أحد كبار القوم هناك، إلا أن العملية لم تكن مرحبا بها من بعض الأطراف وعلى رأسهم غريمه الحاقد إياغو Iago حامل علمه في الجيش. اياغو شخصية تكن الحقد الدفين للبطل عطيل لأنه جعل شخصا أخر اسمه كاسيو ملازمه. عطيل نموذج الشرف والإباء ومثل يحتذى به في الشجاعة والإخلاص لمبادئه ولأصدقائه، ورغم ذلك فإنه يواجه بعكس ما قدم لمجتمع البندقية. اياغو مثال الشخصية التي تستغل معرفتها بشخصية ضحيتا وتضمر الشر، شخص يقف خارج دائرة الأخلاق نهائيا؛ منهجه الدسيسة والمكر وخط المكائد للقضاء على القائد المغربي عطيل. في ظروف ملئها التوتر والتآمر، ونظرا لخلفيته الثقافية والعرقية المختلفة عن هذا الوسط الغربي، استوعب عطيل ، كما استوعب مسلموا أمريكا اليوم، أن عملية الاندماج والذوبان داخل المجتمع الغربي ليست بالمسألة السهلة؛ واكتشف أنه بغض النظر عن التضحيات التي قدمها و الحروب التي خاضها بكل عزم وشراسة نيابة عن شعب البندقية، لا يمكنه مسايرة أو كسر الصور النمطية السلبية والراسخة في ذاكرة الشخصية الغربية حول العرب والمسلمين. عطيل، الشخصية المهاجرة المغربية، يطرح جملة أسئلة بخصوص الخوف من الإسلام في المجتمعات الغربية: هل الخوف من الإسلام والمسلمين والعرب كافة متجدر لدرجة الاستعصاء على اقتلاعه؟ أليس أمثال ترامب فقط يرددون صدى التشكيك الغربي بالمسلمين والتشكيك بهم كما صور ذلك كل من اياغو و براباشيو Iigo & Brabatio في المسرحية؟ هل يعقل أن خوف قرون مضت لا زال يعمل عمله في الوعي الغربي؟ أليس من الصواب القول أن هذه الدعاية العنصرية ليست مسألة من الماضي فقط، بل هي لصيقة في ذاكرة الغرب حتى زماننا المعاصر هذا؟ وهي بذلك خاصية للنفسية الغربية؟ هناك إشارة لطيفة يمكن صياغتها على شكل السؤال التالي: من هو العدو الحقيقي للحضارة؟ هل هو المهاجر المغربي ذو الأصل المسلم عطيل الذي يدافع عن بلد هو ليس بلده الأصلي ضد جيش تربطه به أواصر الدين والثقافة والعرق والتاريخ؟ أم هو الأوروبي المسيحي اياغو الذي يخطط لتدمير رمز من رموز الحنكة والبطولة لأغراض شخصية يحركها الحقد وحب الانتقام معرضا بذلك شعبا بأسره للخطر والحرب؟ نفس الأسئلة مطروحة على دونالد ودعايته الاقصائية بخصوص مسلمي أمريكا الذين يساهمون وبشكل كبير في تحقيق "الحلم الأمريكي". يجب علينا أن نلفت الانتباه ونذكر أن مما يشكل القوة الأمريكية هو تنوع نسيجها الثقافي والعرقي ولا ننسى أيضا أن المجتمع المسلم الأمريكي قد أبلى بلاءا حسنا رغم كل الحيف الذي يواجههم في كل مرة. حين نرى ونسمع دونالد ترامب خلال المناظرة التي دارت حول الأمن القومي يعلن سياسته المعادية للمسلمين وأن بناء حائط على الحدود المكسيكية سيجعل أمريكا آمنة ويقول : "إننا لا نتحدث عن الانعزال، نحن نتحدث عن الأمن. إننا لا نتحدث عن الدين، نحن نتحدث عن الأمن. إن بلدنا خارج عن السيطرة." ويقول أيضا: "إنهم (يقصد المسلمين) لن يدخلوا هذا البلد إذا أصبحت رئيسا"، وحين يخرج علينا ويصرح أن المسلمين هم "أصل مشاكلنا" ويدعو إلى فرض "حضر تام وكامل على المسلمين" يكون بذلك جعل من نفسه فاشيا يتصرف ويتكلم بدافع الخوف الذي يسري في دم بعض الغربيين من الإسلام. من وجهة نظر خطابية فان ترامب وفيٌّ أشد الوفاء للتراث الاستشراقي وتلميذ مهذب لفلوبيغ Flaubert وديزرائلي Desraeliوماسينيون Massignon. حين يضع المسلمين في كفة واحدة يكون بذلك قد عمم تعميما أعمى غير تارك لأي مساحة للتباين والاختلاف والتنوع. هؤلاء المسلمين الذي يشن هذه الحملة ضدهم لم يشفع لهم أبدا أن العديدين منهم يعملون في القوات العسكرية الأمريكية ويحمون بلده الذي كبر فيه، كما فعل عطيل في البندقية منذ أربعة ألاف سنة خلت، ولم يشفع لهم كذلك أن منهم مستخدمون في البيت الأبيض يعملون كل يوم على احترام الدستور وخدمة الشعب. إن خطاب ترامب ينم على مرض في عقلية شريحة من الغربيين استغرقت أيما استغراق في كراهية الأجانب والتعصب الديني والعنصري. هذه المسرحية مرتبطة أشد الارتباط بالنقاشات السياسية القائمة، وإن أوجه التشابه بين مضمونها وسياقاتنا الثقافية والسياسية لافت للانتباه. "عطيل" المسرحية هي محاولة لتجسيد فكرة أساسية مفادها أن العالمين الغربي والشرقي وحدتان لا تلتقيان متسمتان بعداء تاريخي، وتأشر على أن قيم الكراهية والخوف المتبادل ستظل هي القواعد المسيطرة والمشَكلة لهذه العلاقة وإن طفت بين الفينة والأخرى إشارات ومبادرات للتسامح والتعايش ونبد العنف، لأنها وببساطة تامة تفشل وتموت في مهدها حين تصطدم بالحقائق التاريخية الصارخة والأجندات السياسية الدموية الممارسة حول العالم تحت مسميات "الحضارة" ونشر "الديمقراطية". فالنتيجة هي أن هذه الدعوات مجرد أحلام يقظة ما لم تنتقل من شعارات وأفكار إلى ثقافة يومية معاشة، ما لم تنتقل من حيزها الأكاديمي الأفلاطوني إلى حيز السياسة والقرار والتاريخ. وجود مسرحية كهذه في موضوعات كتلك منذ أربعة قرون يدل على استمرارية الاعتقادات التاريخية الخاطئة وتكريس السلبية المتبادلة بين قطبين تحكمها سلطة القوة والهيمنة. هذا التشابه والتطابق بين الماضي والحاضر في علاقة الغرب والشرق على مستوى الخطاب يعكس فشلنا، نحن البشر، في إحراز أي تقدم ملموس، نظرا لأننا في الوقت الراهن لا نزال منشغلين بالنقاشات ذاتها وبنفس المخاوف والأحكام المسبقة التي صورها شكسبير منذ قرون خلت. وجملة القول أن تصوراتنا حول المختلفين عنا هي بطبيعتها منحازة وتتأثر بالصور والأوصاف الشائعة والبنيات الخطابية التي تشكل المخيلة الثقافية للشعوب. فدونالد ترامب وفكره وفلسفته السياسية ما هي إلا انعكاس للجو الثقافي والأيدلوجي المتراكم عبر السنين ولذلك فهو نسخة طبق الأصل لعدو الحكمة والتسامح اياغو وقبله كثيرون.