كثيرة هي الخرجات الإعلامية للعناصر السلفية، بدعوى مراجعة الفكر وإعلان التوبة وتقديم الولاء لقائد الأمة . ومن هؤلاء من استرجع حريته ومنهم من ينتظر . وبما أن الاعتقال كان تأثيره واضحا على نفسية عدد منهم، بمثل ما كان، أيضا، تطويرا لحركة تصحيحية داخل هذه الفئة. وطوال السنوات الماضية حصلت تحولات نوعية في طريقة تعامل المعتقلين بموجب قانون مكافحة الإرهاب مع قضيتهم،و الذين كانوا يعارضون منهج الدولة السياسي ومؤسساتها حد التكفير، بدأ العود إلى تصحيح أشكال التعامل مع قضايا مبدئية . من قبيل الموقف ممن لا يحكم بشرع الله ،ونصب الخلافة الإسلامية،والجهاد والتكفير..الخ. وهكذا بدأ السلفيون في المغرب يخوضون نقدا ذاتيا لتوجهاتهم الفكرية . و يطالبون بإعادة محاكماتهم، وفق القواعد القانونية التي ما فتئ عدد منهم يكفرون بها وبمصادرها ويعتبرون أن لا يحق قبول تشريع الناس للناس. كما أضحى بعضهم ينضوي تحت مضلة أحزاب سياسية وصفوها إلى عهد قريب بالأحزاب العلمانية الكافرة.ثم أصبحوا يوجهون الرسائل إليها ويخطبون ودّها، . وقد كانت أولى المبادرات من (علي العلام،) أحد رموز الجيل الأول من "الأفغان المغاربة"، عندما دعا إلى تأسيس تيار "السلفية الحركية"، تأسيسا على "قاعدة المصالح والمفاسد، ومراعاة السياسة الشرعية، وضرورة استحضار خصوصية الزمان والمكان والإنسان المغربي"، مضيفا أن اختيارات التيار الجديد "تُتيح الفرصة للدولة كي تقوم اعوجاج سياستها وتعيد النظر في مقاربتها الأمنية، وكذلك تتيح الفرصة للمعتقلين بالتصحيح والتصويب وبمراجعة ما يستدعي المراجعة، والنقد الذاتي يتيح إعادة ترتيب الأفكار والتحركات حسب الأولويات". برزت فيما بعد، مراجعات عبد الوهاب رفيقي (الملقب بأبي حفص)، والذي وجّه نداءا إلى "شباب الأمة" من المعتقلين السلفيين، يحثهم على إدانة الأعمال التخريبية عقب أحداث 11 مارس 2007، وهو النداء الذي شككت في جديته وجرأته بعض الأقلام الإعلامية المقربة من الدوائر الأمنية، مما مهّد لصدور بيان مطول ومؤرخ شهر بالضبط بعد تاريخ اعتداءات 11 مارس، أكد فيه مجددا على إدانته للاعتداءات الثانية "إدانة صريحة واضحة لا تقبل التأويل ولا التورية أو التعريض"، ومؤكدا على "تجريم هذه الأعمال، شرعا وعقلا، لما فيها من الاستهانة بأرواح المعصومين ودمائهم، والخوض فيها بغير حق، وقد علم ما جاء في الشريعة من تعظيم شأن الدماء، والتحذير من الوقوع فيها".وثيقة "أنصفونا" التي حرّرها عبد الوهاب رفيقي ربيع 2010، (رأي الباحث منتصر حمادة ). "مراجعات" حسن الخطاب،(المفرج عنه بعفو ملكي ) و المدان بتهمة تزعم خلية "أنصار المهدي"، التي تورط فيها مسؤولون في الأمن والجيش، حيث أعلن عن تبني مبادرة تحمل شعار "المناصحة والمصالحة"، وتعهد الموقعون على نسخته من "المراجعات" على "عدم تكفير المجتمع والمسلمين بغير موجب شرعي"، وهناك عبد الكريم الشاذلي، وهو السلفي المعروف براديكاليته وتشدده ولديه العديد من الكتابات العقدية، فقد انخرط في حزب إداري صغير يتزعمه موظف أمن سابق...الخ. جدير بالإشارة أن هذه العيّنات تظهر أن السلفيين بدأوا يخوضون نقدا ذاتيا لتجربتهم وأفكارهم في ضوء الواقع الذي تعيشه البلاد، خاصة أمام تزايد التوجه نحو العنف والإرهاب باسم الإسلام. ناهيك عن الطلبات المتزايدة لعدد منهم من داخل المؤسسات السجنية يعلنون فيها رغبتهم في الاستفادة من العفو الملكي السامي مع استعدادهم للانخراط في النسيج الاجتماعي والعودة عن الأفكار التي كانت سببا في سجنهم. وإذا كنا هنا نسعى إلى أن نقف على حقيقة مطلب المراجعات.بعدما تبث أن عددا منهم وبعد إطلاق السراح عاد لحالة تشدده التي كان عليها ، ومنهم من نفذ عملا إرهابيا كحالة (عبد الفتاح الرايضي).أو شد الرحال إلى بؤر التوتر داعما للدواعش أو القاعدة . سنناقش الخطأ الأمني أولا والذي لم يحسن التعامل مع هذه الفئة من خلال سوء التصنيف الذي اعتمده لتدبير هذا الملف وكذا إلى عدم مراقبة ما يتم ترويجه من كتيبات تحمل مغالطات كبرى عن الثقافة والدين الإسلامي .وفي النقطة الثانية سنتناول شروط المراجعة الفكرية. أولا : خطأ الفهم والتصنيف الأمني للعناصر الأصولية المتطرفة عملت أجهزة الأمن على وضع تصنيف خاص بضم مختلف العناصر الأصولية في سلة ما يسمى بالسلفية الجهادية.وهنا نطرح التساؤلات التالية: كيف يمكن تتبع ومراقبة هذا التيار على فرض أنه تنظيم ؟ ما هي جذور و طبيعة تفكيرهم ؟ هل لهم شكل تنظيمي معين؟ كيف يتعاملون مع نصوص القرآن والسنة؟...الخ؟ ولذلك صعب ضبط و تتبع عناصر ما يسمى بالسلفية الجهادية للاعتبارات التالية: - ليس هناك قيادة مركزية معروفة . - هناك توجه فكري موحد (الحاكمية-التكفير-الجهاد...) لكن يصعب تحديده لدى جميع العناصر المحسوبة على هذا التيار. - ليس هناك أهداف قبلية محددة مرسومة (أي إستراتيجية و تكتيك محدد للعمل التنظيمي) لدى معظم خلايا السلفية الجهادية وإنما التحرك يقع بحسب ردة الفعل ، سوء فهم وتفسير المعتقد ،تخطيطات محدودة لعناصر إرهابية أجنبية أو من داخل المغرب...الخ. - من الخطأ نسبة جميع عناصر السلفية الجهادية إما إلى داعش أو تنظيم القاعدة إلى تنظيم القاعدة ، هناك تعاطف واضح وتقارب في الأفكار والأهداف لكن ليست هناك إلزامية في إتباع المنهج القاعدي أو الداعشي ولا في تشييخ أحد رموزهما. إذن، ماذا هناك ؟ نقول باختصار أن هناك فكرا إرهابيا عابرا للقارات ومتنقلا في الزمن أساء فهم الإسلام وتعسف في تأويل نصوصه ثم خلايا تبنى عناصرها الفهم الخاطئ للإسلام وتعاليمه وأضافة التأويل على التأويل وحشت العقول بحفظ المتون والشروح والحواشي. ما يوحد هذه الخلايا تلك الرؤية المتمايزة للنص الديني قرآن أو سنة ، قد تلتقي في إتباع بعض الشيوخ كابن عثيمين وابن باز من المتأخرين وابن تيمية وابن الجوزية من القدماء...الخ، وقد يتوحدون في ضرورة إتباع السنة حيث ظاهرة التقصير وإعفاء أللحي والنقاب أو البرقع للنساء...الخ، ولكن لا يمكن حتى في هذا الأمر أن نجد اتفاقا بينهم. إذن، هم مجموعة عناصر- خاصة في المغرب- ارتأوا فهم الإسلام بطريقتهم الخاصة، وحددوا مشايخهم–ومعظمهم من المشرق- من الكتيبات الصادرة عنهم والمعروضة في أرصفة الشوارع دون حسيب أو رقيب و فيغياب تام لرقابة وتدخل أجهزة الأمن ، أو عبر قنوات تلفزيونية تعرض أفكارهم . والأخطر من ذلك .تأثر بعضهم نتيجة الأسباب السالف ذكرها بالفكر الباطني وكتيباته الصفر. فمثلا من الفرق الباطنية التي تسلل فكرها إلى فكر ما سموا بالسلفيين الجهاديين فرقة القرامطة، في تأويلات القرامطة استحلوا كفرقة مؤمنة معتقدة – أعراض الناس وسفك دمائهم وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالشرك والكفر على مذهب الأزارقة من الخوارج واعتلوا في ذلك قوله تعالى :﴿ واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾وقالوا إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدي(الذبح) والشعائر وتأولوا في ذلك قوله تعالى:﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾، كما استندوا على الحديث التالي :"لقد جئتكم بالذبح" ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال، واعتلوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا﴾ .ولقد ذكرهم الغزالي في " فضائح الباطنية "والبغدادي في "الفرق بين الفرق"...الخ. يراجع في هذا الصدد بدوي(ع الرحمان)، مذاهب الإسلاميين ص838.وعليه وعن غير علم اعتنق بعض المحسوبين على أهل السنة، خاصة من بعض السلفيين الجهاديين مذهب القرمطيين ،فساروا يؤولون ويفتون ويكفرون ويهدرون دماء مخالفيهم ...الخ. وإذن، فإن نزعة الذبح أو الانتحار بالانفجار وسط جمهرة من الناس هي نزعة قرمطية خوارجية تكفيرية تسربت إلى بعض عقول الأصوليين المتطرفين السنة فعدها بعضهم من مذهب السلف ونهجه. ثانيا: شروط المراجعة الفكرية يبدو أن الأمر قد بات مهيئا لنقلة نوعية وجذرية في مفهوم المراجعة مع تحديد معايير علمية لقياس صدقية المواقف ،وعلى اعتبار أن تصحيح الأفكار وجب إعلانه من خلال التخلي النهائي عن المعتقدات الخاطئة في فهم وتأويل النصوص الدينية. وجب على من يعلن مراجعته تحديد موقفه وإعلانه الصريح بتجاوز الأوهام التالية: 1-وهم الجهاد: فالجهاديون يعتقدون أن الأمة الإسلامية تختلف عن غيرها من الأمم بفريضة الجهاد للخلاص من الطغيان الذي هو الدولة الكافرة و الحاكم الكافر الذي لا يحكم بما أنزل الله. فالجهاد هنا فرض عين على كل مسلم. وهو مراتب و ليس مراحل كما أنه أهم من طلب العلم. و من أي شأن ديني أو دنيوي آخر. لأن الدولة الجاهلة لا تؤمن فيها أعراض المسلم (دمه وماله وعرضه...الخ) و المعاملات فيها خارجة عن الشرع، وكل ما يرتبط بهذه الدولة هو مروق وعصيان لأوامر الله و نواهيه. و الحل إذن يكمن في إعادة الحق إلى أصحابه بنشر الإسلام – الإسلام كما يراه الجهادي– و تنصيب ولاة أمر المسلمين. ولا يتأتى ذلك إلا بإعلاء راية الجهاد. وإذن، فالجهاد ليس دينا كما يعتقد السلفي المتطرف، أي ليس ركنا من أركان الدين، ولا ذا طبيعة وفلسفة دينية، ولا هو من جوهر الدين ومقاصده، وإنما هو أمر سياسي، علاقته بالدين لا تتعدى علاقة السياج اللازم لحرية الدعوة إلى الدين وحرية الدعاة وحرية الاعتقاد...علاقة هذا السياج بما في داخله من شروط للحرية وأركان لحرية الدعوة و الاعتقاد. 2- وهم التسيس: من الناحية النظرية يزعم الأصوليون أن السياسة ونظام الحكم في الإسلام هما من أصول الدين ومن تم فهما دين حتم ووحي لا دخل لإرادة الإنسان فيه. غير أن هذه المسألة هي محسومة في فكر نفر من مفكري الإسلام قديما وحديثا، و الذين صنفوا السياسة ضمن الفروع وليس الأصول أي أنها ليست ركنا من أركان الدين . وعليه جاز للمسلمين أن يجتهدوا في السياسة وفق ما يرونه من صالح دنياهم وحسب ما يمليه عليهم واقعهم. وأما عمليا يجعل السلفيون من الموقف السياسي المقياس الذي عليه يصنف مستوى التدين، حيث أضحت مواقف الأفراد من الأنظمة الحاكمة أو الأحزاب أو الجماعات المخالفة في الرأي معيارا معتدا به لقياس درجة التدين و الإيمان الفردية ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أصحاب هذا الرأي هم بالدرجة الأولى احتجاجيون ومتأدلجون أكثر من كونهم أصحاب حركات تعبدية دينية. فتكون النتيجة ردود فعل انطباعية تشمل الإيمان المطلق بامتلاك الحقيقة وأن هذه الفرقة التي يحتج من داخلها الفرد هي الفرقة الناجية يوم القيامة فتعمى الأبصار كما تعمى القلوب التي في صدور . وهذا عينه الغلو و التطرف اللذين نهى عنهما الدين نفسه بقول الرسول (ص)" إياكم و الغلو في الدين. فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". ونتيجة لهذه الأوهام السالف ذكرها ظهرت علل في فكر الأصوليات المتطرفة أهمها: 1- علة التكفير: هي من أخطر العلل التي أصابت العقل السلفي القديم و المعاصر وشقت عليه طريق البرهان واليقين فعميت البصيرة و النظر و سارت العلة متفشية بشكل خطير وسار معها المبالغة في التعصب للمذهب أو الجماعة أو الطائفة و تضليل المخالفين وتجهيلهم تدلل على أن خطورة هذا النهج "التكفيري" تضيع على الأمة فرصة التقارب و الحوار، مادام التكفير حكم يعتقد بشرعيته عند طائفة المكفرة. والحقيقة أن التكفير يمثل إلى جانب "الحاكمية" و "النص" عنصرا أساسيا في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل و المتطرف على السواء،غاية الأمر أنه واضح معلن في خطاب المتطرفين، مضمر خفي في خطاب المعتدلين. وإذا كان المعتدلون يضمرون الموقف في سلوك التكفير العملي على المستوى السياسي، فإن المتشددين لا يتورعون في رفع شعار التكفير العملي على مستوى النظر والسلوك معتبرين أن التكفير ثابت في حق من لم يحكم بما أنزل الله وهو يشمل المجتمع الجاهلي الذي يقبل راضيا بالحكم الوضعي، حيث لا فرق بين حكم فاسد ومجتمع فاسد، فالعدو الكافر كيان اجتماعي بكل تفاصيله ورموزه السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. ولا يقتصر هذا الهجوم التكفيري على الحكام والمجتمع فقط بل يشمل حتى المخالفين في النظر و إن كانت جماعة إسلامية تعلن صراحة أصوليتها. 2- علة الردة: لقد اعتبرنا علة الحكم بالردة قضية جوهرية في الخطاب الأصولي لما تثيره من آفة علمية ترتبط أساسا بسوء فهم وتأويل النص الديني، كما هو حال "الحاكمية" حيث الحكم بالتكفير والتجهيل وإهدار الدم في نهاية المطاف. فالردة قضية يطرحها الأصولي الجهادي (السلفي الجهادي) خاصة كإشكالية عقائدية خالصة يحاول توظيفها لتبرير منهج وسلوك استباحته للدماء، و بالتالي فإن المحكوم عليه بالردة في عرف الأصوليين يهدر دمه بما أجازه الشرع. 3- علة العنف: لا أحد ينفي ميل الأصوليين(جهاديين أو عقائديين)إلى استخدام العنف بنوعيه المادي والمعنوي. غير أن العنف المادي يبقى متأصلا بشكل واضح عند التيار الجهادي في حين يمارس العقائديون العنف المعنوي. وقد تختلط الأمور المتمايزة أحيانا فتضمر أحد التيارات الأصولية العنف المادي الذي توكله لأحد خلاياها. في حين تتبنى شكلا خطابا معتدلا غير متطرف. وعموما ، نرى ضرورة أن يعلن المرتجعون من السلفيين عودتهم عن هذه الأفكار والتي هي في حد ذاتها تنم عن سوء فهم وتفسير لصريح النص القرآني أو السني.ويعلنون من خلالها موقفهم من أهم مرتكزات عقيدة المتطرف الجهادي. ولا ضير في حمل هذه الأفكار من خلال كتيبات يتم توزيعها داخل السجون وخارجها ليعلم جاهلهم وعالمهم أن ليس حشو العقول بالمتون والشروح وحفظ الحواشي مع سوء تفسير نصوص القرآن والسنة تجند.وإنما يترك لولاة الأمر وعلماء الأمة ما خص و تفرد. * دكتور باحث في العلوم السياسية