تعتمد التيارات الدينية المتشددة، سواء في نسختها السابقة "القاعدة" أو الحالية المتمثلة في تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف اختصارا ب"داعش"، على جهاز مفاهيمي معقد تتشابك فيه الأطروحات المذهبية والعقائدية التي تستند في جوهرها إلى قاموس فكري وأيديولوجي مستوحى من التراث الديني الإسلامي، وذلك بهدف تعزيز قدراتها الاستقطابية وشرعنة ممارستها وأفعالها القائمة على العنف. إن معالجة المفاهيم المتداولة في خطاب "السلفية الجهادية" وتحليلها يساعد على فهم الخلفيات والمحددات التي ترتكز عليها تلك التنظيمات في "منظومتها وإستراتيجيتها الاستقطابية"، حيث تستند هذه المنظومة على مجموعة من المصوغات الدينية التي تتناقض كليا مع المبادئ السمحة التي جاء بها الإسلام وتسيء إلى صورته كدين رحمة وتآخ ووسطية واعتدال، لاسيما وأن التصرفات والسلوكيات التي تصدر عن أنصار هذه التيارات تصل إلى حد تحريف قيم الدين الإسلامي، خاصة عندما يلجأ المتشددون إلى قتل الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين باسم الإسلام وبمبرر الدفاع عن قيمه وأهدافه. وقبل تفكيك "الجهاز المفاهيمي التبريري" الذي يضع الحركات المتطرفة في "عالمها المغلق"، لابد من طرح بعض الأسئلة؛ من قبيل ما هي أبرز المسوغات والمفاهيم التي تجعل الفرد يتحول من دائرة الوسطية والاعتدال إلى دائرة أكثر تطرفا وتشددا، ويصبح تبعا لذلك مستعدا للقتل والفتك والتدمير؟ كيف ينضم الفرد إلى "الجماعة" أو "الخلية" باعتبارها "الفرقة الناجية" ويعتنق أدبياتها بقدسية تامة؟ لماذا ينظر المتطرف إلى الآخرين بتلك النظرة التي تجعله يستبيح دمهم ومالهم؟ ومن أجل محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، يمكن التركيز على ثلاثة مفاهيم رئيسية التي يتأسس عليها المنهج "السلفي الجهادي". التمرد بدعوى" الحاكمية" و"الجاهلية" و"عبادة الطواغيت" يقوم فكر الحركات "السلفية الجهادية" على مبدأ "الحاكمية"، ومضمونه السياسي هو الكفر بالدساتير والنظم والحكومات والمؤسسات السياسية (البرلمان، الأحزاب، الحكومات والقضاء) والأجهزة العسكرية والأمنية في العالم العربي والإسلامي، لأنها لا تلتزم بالتوحيد الذي يعني بدوره "إفراد الله بحق التشريع والحكم". ويرتكز مفهوم "الحاكمية" عند سيد قطب على "إخلاص العبودية لله وحده، والتحرر من حاكمية البشر، وسلطة الطواغيث"، التي تشمل كافة الأنظمة الديمقراطية والاشتراكية أو العلمانية بكافة أشكالها وأنواعها، ويرى كذلك أن "الحاكمية" تعني إسلام العباد لرب العباد، وإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة. إن الأساس أو النظرية التي يقوم عليها مفهوم "الحاكمية" عند الحركات الجهادية هو أن الأرض كلها لله وهو ربها المتصرف في شؤونها، فالأمر والحكم والتشريع، من وجهة نظرها، كلها مختصة بالله وحده، حيث إنها تحتج على الحكام بهذا المفهوم. وإذا كانت نظرية "الحاكمية" تكفر "الدولة"، فان مفهوم "المجتمع الجاهلي" يكفر الأمة نافيا إسلامها، حيث ذهب سيد قطب إلى تخطي حدود تكفير "الدولة" التي تغتصب حق الله في "الحاكمية" إلى تكفير "الأمة" التي تطيع الدولة وتخضع لها، من هنا يقوم خطاب الجماعات المتطرفة الذي يشترك في آلية "تكفير" الحاكم والمحكوم، الدولة والمجتمع، بتكفير الدولة على أساس اعتدائها على سلطان الله وحاكميته، وتكفير المجتمع على أساس جاهليته وفقدانه لمعنى الشهادتين. وفي سياق متصل، يوظف أبو الأعلى المودودي مفهوم "الجاهلية" للتعبير عن إدانته لأنماط العيش التي لا تتطابق مع الهداية الإلهية، ويتخطى المفهوم التاريخي الذي استعمله العرب للدلالة بالجاهلية على حياة العرب قبل الإسلام، وبهذا المعنى توصف حياة الأشخاص والمجتمعات بالجاهلية عندما تكون قائمة على الرغبات والهوى، وهذا ما وجده "ينطبق" على المجتمع الهندي، والعالم ككل، حيث تختلط "ألوهية الله" مع غيره حين يتم الحكم بمنهج غير منهج الله. وارتباطا بهذين المفهومين "الحاكمية" و"الجاهلية"، أصبحت تنظر كثير من الحركات والجماعات المتطرفة إلى المجتمع كمجتمع جاهلي كافر يجب اعتزاله وعدم الاختلاط معه والانفصال عنه، حتى في المساجد، حيث يعتبر المتشددون الآخرين غير مسلمين، لذلك يسعون إلى تغيير المجتمعات بالقوة وقتال من انتقصوا من "حاكمية الله" وفق منظورهم، وتكون "الجاهلية" مطية للخروج عن القوانين المنظمة للحياة الاجتماعية والسياسية الثقافية. ومن تداعيات الاحتجاج والتمرد على النظم القائمة بدعوى "الحاكمية" هو اعتبار الديمقراطية "كفرا" و"اتخاذا للأرباب من دن الله"، وأن المجالس المنتخبة هي مجالس "الشرك والكفر"، وأن الانتخابات هي مشاركة في نصب "الأرباب" المعبودة من دون الله. توظيف عقيدة "الولاء والبراء" يعتبر مفهوم "الولاء والبراء" من المفاهيم المتداولة في خطاب "السلفية الجهادية"، حيث يستعمل هذا المفهوم التعبيري للدلالة على موالاة المؤمنين ونصرتهم، والتبرؤ من "الكافرين" ومعاداتهم وقتالهم، مستندين في تأويليهم هذا إلى قول الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، (سورة المائدة: 51). إن الذي يميز التيارات المتطرفة عن غيرها من الحركات الإسلامية هو الاستناد إلى مفهوم "الولاء والبراء" الذي يعتبر بالنسبة إليها من أوثق عرى التوحيد، لأنه، بحسب منهجهم وأدبياتهم، من الواجب على الموحد أن يبرأ ويكفر "بالأرباب المتفرقين" والمسميات الكثيرة التي تعبد من دون الله والتي كانت قديما تتمثل بصورة الحجر والأوثان البدائية، وتتمثل في هذا العصر بالنسبة إليهم في الحكام وقوانينهم وتشريعاتهم الوضعية. فموضوع "الولاء والبراء"، وفق منهج وتصور الحركات المتطرفة، يستلزم ويوجب البراء والكفر بالتشريعات الوضعية و"الأوثان المتفرقة"، كما يستلزم كذلك البراء من واضعي هذه الأنظمة والقوانين والقائمين عليها. كما تحتل مسألة "الولاء والبراء" في أدبيات الحركات السلفية الجهادية مكانة مركزية ومحورية، حيث يعتبرها البعض بمثابة أهم عروة في الإسلام، كما عبّر عن ذلك أسامة بن لادن، عندما قال: "أهم عروة في الإسلام هي الولاء والبراء، نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين ونكون عليهم أعزة". وفي الاتجاه نفسه، يعتبر الظواهري مسألة الولاء والبراء "ركنا خطيرا" في العقيدة، حيث يقول: "إن موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ركن خطير في عقيدة المسلم، لا يتم إيمانه إلا به"، ويرى، في هذا السياق، أن التفريط في هذا الركن الأساسي هو الثغرة التي ينفذ منها أعداء الإسلام للقضاء على الأمة المسلمة ولخداعها وتخديرها وتوريطها في الكوارث والمصائب". ويرى منظرو "الإسلام الجهادي" أن قضية الموالاة والمعاداة ليست من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الاختلاف الفقهي، بل إنها من أصول الإيمان، لأنها تتعلق بعقيدة التوحيد، كما يلخصون كذلك أبرز صور الانحراف عن عقيدة الولاء والبراء في التحالف مع الغرب، وعدم مناصرة المسلمين، وتولية الكفار المناصب الهامة في "بلاد المسلمين". إذن، فمسألة الولاء والبراء بالنسبة للحركات الإسلامية المتطرفة، أتت كمقدمة ضرورية لتبرير تكفير الحكومات الحالية كفرا بواحا، وبالتالي جواز حمل السلاح والانقلاب عليها، حيث يتم استخدام وتوظيف هذه العقيدة (الولاء والبراء) لاتهام الحكام بمولاة "الكفار" و"المشركين" في مرحلة أولى، وتكفيرهم لشرعنة الخروج عليهم في مرحلة ثانية، ويبقى الهدف الاستراتيجي بالنسبة إلى "الإسلاميين الجهاديين" من وراء توظيف عقيدة "الولاء والبراء" هو اعتماده كمسوغ شرعي لاستقطاب الناقمين على السياسات الغربية وإقناعهم بضرورة الخروج على الحكام و قتالهم. الجماعة أو "الطائفة الناجية" واعتزال "المجتمع الكافر والضال" يعتبر مفهوم "الجماعة" أحد المفاهيم الأساسية في منظومة وإستراتيجية "التيار السلفي الجهادي" على مستوى الاستقطاب، عكس السلفية التقليدية التي لا تتبنى العمل الجماعي من خلال جماعة أو إمارة، حيث تنظر إليها كبدعة لم ترد في الشريعة، في المقابل أكدت "السلفية الجهادية" على وجوب الانضمام إلى "الجماعة"، من خلال تنظيم عسكري مسلح يعمل على إقامة "الدولة الإسلامية" والخلافة بواسطة القتال والإفراط في استعمال القوة ضد الأنظمة "الكافرة والعميلة"، بحسب منظورها. ويستعمل قياديو "التيار الجهادي" عدة أسماء من قبيل (الجماعة) أو (الطليعة) أو (القاعدة الصلبة) وهي أسماء استندت إليها حركات الإسلام السياسي فيما بعد. وارتباطا بضرورة قيام "الجماعة" في الفكر السلفي الجهادي، يرى سيد قطب أن محاولة إلغاء "الجاهلية" لا تتحقق إلا بإقامة "تجمع حركي عضوي" أقوى في قواعده النظرية التنظيمية من "المجتمع الجاهلي"، حيث أوضح قطب معالم هذا "التجمع" من خلال التشديد على التميز والمفاضلة، ورابطة العقيدة، ومنهج التلقي، وزاد الطريق، وسنة الابتلاء، وطبيعة الجهاد، واستعلاء الإيمان، وهي مصطلحات ومفاهيم تغري المستقطبين وتقوي الروابط بينهم. لذلك يعتبر "الإسلاميون المتشددون" أنفسهم "جماعة المسلمين"، ويرون كل من لا يؤيدهم ولا يسير معهم خارجا عنهم وعن "جماعة المسلمين"، وبالتالي يعتبر "الآخر المخالف" خارجا من "الطائفة المنصورة " و"الفرقة الناجية" من النار تحت دعاوي الشرك والكفر والبدعة. أما ابن تيمية في منهاجه فكان أكثر تحديدا لمصطلح الجماعة، عندما قال: "والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فالذين فرقوا دينهم شيعا خارجون عن الجماعة"، إذ يتبين من هذا التعريف أن ما يقصده السلفيون من مصطلح "أهل السنة والجماعة" و"السواد الأعظم" هو أتباع المنهج السلفي بالتحديد. إن فهم التيارات الإسلامية المتشددة لمصطلح "الجماعة" باعتبارها "الطائفة الناجية" من النار، بحكم عقيدتها الجازمة باحتواء "العصمة" و"الحقيقة" التي مصدرها "المنهج السلفي"، أدى إلى انغلاق تلك التيارات على نفسها، ورفضها كل مفاهيم التعايش والقبول بالآخر، حيث يرون أنفسهم مع الحق والفرقة الناجية والمنصورة، والآخرون المخالفون مصيرهم النار والعذاب. *باحث في العلوم السياسية