إن المتأمل في واقعنا التربوي يجد أن العلوم الإسلامية بصفة عامة ومادة التربية الإسلامية على وجه الخصوص تراجعت عن أداء وظيفتها التي عهدتها في قرون الازدهار، فهي تواجه اليوم الكثير من التحديات التي تعيقها عن أداء دورها الطبيعي في البناء القيمي والوجداني للإنسان، وتحول دون تحقيق مشروعها الحضاري الذي يستهدف العمران البشري. وهذه التحديات يمكن تحديدها في قسمين كبيرين: خارجية وداخلية. أما التحديات الخارجية: وهي تحديات موضوعية وطبيعية ومستمرة وتتمثل في: تحدي قانون "المداولة" إن المتأمل للمسار التاريخي للإنسانية يستطيع أن يلاحظ وبيسر تعاقب الأمم على ريادة العالم، من آشوريين وبابليين وفراعنة وفرس ويونانيين ثم رومانيين وإسلام وغرب (الذي تمثله أوربا وأمريكا حاليا)، ريادة فكرية ثقافية أو اقتصادية عسكرية، وذلك حسب قانون "المداولة"، قال عز وجل "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (سورة آل عمران، الآية: 140). وكل أمة من هذه الأمم حاولت إنشاء حضارة تبقى خالدة عبر التاريخ، كما اعتمدت وسائل مختلفة (عسكرية، علمية، ثقافية...) لعولمة حضارتها وإقناع الآخر بجودة نموذجها. كما أن كل أمة من هذه الأمم تميزت بنوع من العلوم أو الفنون جعل الأمم التابعة تنظر إليه كأنه المسؤول الأول لتبويئها مركز الصدارة، مما دفعها لمحاولة تقليدها فيه، سواء من باب التبعية أو من باب المنافسة. ولضيق المجال سأحاول من هذا المنظور الحديث عن الحضارتين الإسلامية والغربية فقط لراهنيتهما. إن الأمة الإسلامية وهي تتزعم العالم لعدة قرون جعلت علومها سواء غضة طرية أو يانعة ناضجة تحظى بالمكانة الأولى في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلا تكاد تجد عالما من علماء العلوم "الحقة" إلا ودرس العلوم الشرعية. لكن وبتراجع مكانتها بين الأمم، بسبب التخلف العلمي الذي صحب فترة الركود والاستعمار سيتراجع الاهتمام بالأسس التي بنيت عليه هذه الأمة، ألا وهي العلوم الإسلامية وسيتم الإقبال على علوم الأمة الرائدة التي تتحدد في الميكانيكا والعلوم الرياضية والعلوم التقنية والبيولوجيا... ظنا بأن الأولى سبب في تخلف الأمة الإسلامية والثانية هي سبب ازدهار الغرب. ويظهر أثر هذا التحدي في: الإقبال على العلوم "الحقة" في التخصص الدراسي والإعراض عن العلوم الإسلامية. القيمة الاجتماعية للعلوم "الحقة" تفوق نظيرتها في العلوم الإسلامية، ويظهر ذلك في التمييز الاجتماعي لصالح المتفوقين في هذه العلوم (أقصد العلوم "الحقة"). تحدي العولمة وبخاصة العولمة الفكرية والثقافية، التي تحاول تعميم النموذج الثقافي الواحد، وتنميط الشعوب وتذويب خصوصياتهم التي تحكم القيم والسلوك، وهيمنة النظم الفكرية والتربوية للحضارة الغالبة على الثقافات الأخرى. ومن وسائل دعاة النموذج الواحد دعم رواد الفكر العلماني الذين لا يتوانوا في محاولاتهم لاستهداف المنظومة القيمة للأمة الإسلامية وطمس هويتها وتشويه النموذج الإسلامي بوصفه بالجمود والتخلف تارة، وبالإرهاب والتطرف تارة أخرى. وتجد هذه الدعاوى التربة خصبة لعدة أسباب أهمها الاستلاب الثقافي والانبهار بالفرقة الغالبة التي تقدم صورا جميلة عن مفاهيم جديدة كالمدنية والتحرر... ويظهر أثر هذا التحدي في النقاط التالية: ظهور الصراعات الإيديولوجية في المجتمع الإسلامي. زعزعة النسق القيمي للناشئة. التحدي التكنولوجي والإعلامي: يتوسل دعاة العولمة الثقافية بمجموعة من الوسائل على رأسها الإعلام لما له من قوة تأثيرية تفوق القوة العسكرية والاقتصادية، فهو "القوة الناعمة" التي تغير الشعوب وتسيطر عليها وتوجهها توجيها إيديولوجيا وقيميا بأقل جهد وبأقل تكلفة. هذا وتجتاح العالم اليوم ثورة تكنولوجية ومعلوماتية تتميز بالإنتاج الكثيف للمعرفة، مما يستدعي بالضرورة إيجاد كفاءات علمية قادرة على استخدام هذه التكنولوجيا واستثمار هذه الثورة المعلوماتية في بناء مناهج مادة التربية الإسلامية وفي تدريسها. ويظهر أثر هذا التحدي في: الترويج الإعلامي لصورة نمطية عن الإسلام بوصفه بالجمود والتخلف. الترويج الإعلامي لصورة سوداوية عن العلوم الإسلامية باتهامها بأنها تدعو إلى الإرهاب والتطرف. التحديات الداخلية: وهي تحديات تتعلق بالمادة نفسها من صياغة الأهداف و بناء المناهج وتحديد طرق التدريس وتأليف الكتاب المدرسي وتكوين المدرسين. فرغم الجهود المبذولة لصياغة منهاج مادة التربية الإسلامية في ضوء توجيهات الشريعة ومقاصدها، إلا أنها تواجه العديد من التحديات الداخلية عجزت بسببها عن فرض نفسها بين باقي مواد النظام التربوي. من هذه التحديات عدم مواكبتها للمستجدات التربوية الحديثة، ويظهر ذلك خاصة في منهاج المادة للسلك الابتدائي والثانوي الإعدادي. ومن هذه المستجدات ملاءمة التعلمات للمستوى العمري للفئة المستهدفة (راجع مقالي بهذا الخصوص "نحو منهاج جديد لمادة التربية الإسلامية بالمدرسة الابتدائية" على الرابط: http://www.hespress.com/permalink/259745.html)، والمزاوجة بين الجانب النظري والتطبيقي في تدريس المادة. ذلك أن المادة تفتقر إلى الجانب المهاري وتعتمد فقط على تنمية الجانب المعرفي للمتعلم من خلال شحن عقول المتعلمين بكم كبير من المعلومات النظرية واستدعاؤها يوم الامتحان وإهمال إعمال العقل ما يمنع اكتشاف قدراتهم، وعدم انخراطهم في العمل الجماعي التعاوني الذي ييسر تعلم مجموعة من القيم الاجتماعية في سلوك الناشئة. ويمكن تحديد أهم التحديات الداخلية في ما يلي: عدم معالجة مادة التربية الإسلامية (أهدافا ومناهج) للقضايا الجديدة ومشكلات العصر ضمن منهاجها. عدم وجود متخصصين في ديداكتيك المادة وفي بناء مناهجها. ضعف الوعاء الزمني المخصص للمادة في جمع الأسلاك التعليمية. عدم التناسق والاستمرارية بين الأسلاك التعليمية في تقديم المادة. عدم وجود علاقة تكامل بين منهاج المادة ومناهج باقي المواد. عدم ملاءمة محتويات المادة (على مستوى دروس العقيدة) لمستوى متعلمي المرحلة الابتدائية. التركيز على الطرائق التقليدية في تدريس المادة كالتلقين والشحن. ضعف التكوين الأساسي وانعدام التكوين المستمر للأساتذة. عدم استخدام طرائق التدريس الحديثة من قبل الأساتذة لضعف تكوينهم في المجال. وجود ثغرات في تأليف الكتاب المدرسي منها: - عدم وجود متخصصين في تأليف الكتاب لمدرسي. - عدم اعتماد فترة للتأليف التجريبي. آليات تطوير مادة التربية الإسلامية لتجاوز التحديات السابقة، من الضروري على واضعي مناهج مادة التربية الإسلامية والمهتمين بشأن تطوير التعليم الإسلامي استثمار مجموعة من الإجراءات الكفيلة بالنهوض بالمادة حتى تتبوأ مكانتها الطبيعية بين المواد الأخرى. إجراءات كفيلة بتجاوز تحدي العولمة: تقوية المناعة الداخلية من خلال العمل على بناء مناهج ترسخ ثقتنا بهويتنا الحضارية وتنمي اعتزازنا بعقيدتنا. التأصيل للقيم الإسلامي، وإبراز مكانتها في جميع مجالات الحياة، وأهميتها في مواجهة سلبيات العولمة. إدماج المفاهيم الجديدة المتعلقة بثقافة الاختلاف وحوار الحضارات واستيعاب الآخر... في مناهج التربية الإسلامية. ومن أجل مجاراة تحدي الثورة التكنولوجية، من المفيد استثمار مجموعة من الإجراءات مثل: التركيز على الكيف بدل الكم المعرفي في بناء مناهج التربية الإسلامية. بناء مناهج مادة التربية الإسلامية على أساس التكامل العمودي بين مكونات المادة في جميع الأسلاك والتكامل الأفقي بينها وبين جميع المواد المدرسة، وأن يكون القرآن الكريم هو أساس هذا التكامل. الاستعمال الوظيفي لوسائل الاتصال والتواصل في بناء مناهج التربية الإسلامية وتدريسها. تكوين المدرسين وتدريبهم على كيفية استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في تدريس المادة. اعتماد مقاربة المشاريع التربوية واستخدام التكنولوجيات الحديثة في تدريس المادة. أما الإجراءات الكفيلة بتجاوز التحديات الداخلية فهي كالآتي: على مستوى المناهج: يجب بناء مناهج التربية الإسلامية على أساس: أن تساعد المتعلم على معرفة حقيقة وجوهر الإسلام وفهمه والاقتناع به، ولا يبق مجرد متبع مقلد. أن يكتشف المتعلم من خلالها محيطه الثقافي وبيئته المحلية والاجتماعية، وأن تبرز مكانة القيم الإسلامية وأهمية المحافظة عليها. أن تعكس رؤية واضحة عن القضايا المعاصرة للمجتمع. أن تخاطب الوجدان والفكر، والقلب والعقل. أن تكون تصورا إسلاميا صحيحا وواضحا للكون، والإنسان، والحياة. أن تساعد المتعلم على الإجابة عن مختلف التساؤلات المعرفية والعقدية والأخلاقية، وتدعو إلى التأسي بسيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم. على مستوى طرق التدريس: يجب اعتماد طرق تدريس: تثير اهتمام المتعلمين وتشغل ميولاتهم، وتحفزهم إلى العمل الإيجابي والنشاط الذاتي والمشاركة الفاعلة في الدرس. تبعث في نفوسهم الرغبة في العمل الجماعي التعاوني. عدم اعتماد الشحن والتلقين والإلقاء والعرض والاستظهار في تدريس المادة. لقد أدرك المسلمون في قرون الازدهار بأن العلوم الإسلامية من شأنها بناء الإنسان، وهذا الأخير هو الكفيل ببناء حضارة إسلامية تستطيع الصمود أمام تدافعها مع مختلف الحضارات، ذلك أن العلوم الإسلامية حتى وإن كانت لا تشيد طرقا ولا تبني سفنا ولا تصنع مسبارا فإنها تعتبر بالمقابل القبس الذي ينير طريق الباحث حتى لا يحيد عن سبل السلام. فالإسلام من خلال علومه استثمر في الإنسان في بعده الأخلاقي والقيمي ثم المنتج. بالمقابل فالحضارة الغربية استثمرت في الإنسان المنتج وأهملت الجانب الأخلاقي والقيمي، فأنتجت آلة اقتصادية وعسكرية لا تؤمن بإنسانية الإنسان، بل بجانبه المادي الاستهلاكي فقط، ولا أدل على ذلك عمليات الإبادة الجماعية التي قادتها الدول الغربية إبان الاستعمار للسيطرة على الموارد، وحاليا تحت ذريعة نشر الحرية والسلام. إن أية أمة وإن كانت بحاجة إلى العلوم "الحقة" لبناء حضارتها، إلا ن هذه العلوم لابد أن تؤطر بقيم وأخلاقيات، تنبه إليها أخيرا زعماء الحضارة الغربية، فبدأ الحديث مؤخرا في بريطانيا عن "أخلاقيات العمل العلمي" وفي أمريكا عن "القيم العامة والقيم الخاصة واقتصاد المعرفة"، فربطوا المعرفة المنتجة بالقيم والأخلاق. أفلا يمكن الجزم بأن هذا ما بنيت عليه الحضارة الإسلامية؟ فإذا كان السؤال الكبير كما طرحه الدكتور أحمد عبادي هو "كيف نبني حضارتنا؟"، تعليقا على كتاب "ونحن نبني حضارتنا" لفتح الله كولن، فالسؤال الأهم كما أجده هو: "كيف نعيد بناء حضارتنا"؟ إن جزءا مهما من الجواب عن هذا السؤال يتضمن إعادة الاعتبار لمواد الشريعة ولمادة التربية الإسلامية ضمن المناهج الدراسية لجميع الأسلاك بجميع الشعب. [email protected]