بعيدا عن الجدل السياسي والاقتصادي في الصراع بين المغرب والجزائر، هناك جوانب أخرى لا تحظى بالاهتمام الإعلامي اللازم، مثل الجوانب الإنسانية والاجتماعية في هذا النزاع الذي عمر طويلا. وفي هذا الصدد، يعيد محمد نجحي، أحد المغاربة الهاربين من الارتماء في أحضان الاستخبارات الجزائرية، طرح سؤال طرد مجموعة من المغاربة من الجزائر سنة 1975 بعد أحداث الصحراء المغربية وقيام جبهة البوليساريو، ويحكي بعض كواليس محاولة تجنيد مغاربة لصالح الجبهة الانفصالية. هكذا، وبعد نحو أربعين سنة، قرر نجحي، الذي يقطن حاليا في حي أيت بولمان بإقليم تنغير، الخروج عن صمته ليكشف الثمن الذي دفعه، لأنه رفض أن يكون عميلا للجزائر والبوليساريو. والمثير في قصة نجحي، هو تشابكها ودراميتها، خاصة أنه كان متزوجا من سيدة جزائرية، ورزق منها بطفلتين، وتعرض للمساومة بأسرته وممتلكاته مقابل الخضوع لأوامر الاستخبارات الجزائرية. زواج بحسناء جزائرية ازداد محمد نجحي بن لحسن بن عدي سنة 1950 بإقليم تنغير، حيث تلقى دروسه الابتدائية. وعندما بلغ سن 16 عاما بدأ يفكر في الهجرة إلى فرنسا عبر الجزائر، فاستغل عمله في جني الزيتون لجمع قدر من المال مكنه من السفر إلى الشرق، دون أن يعلم عائلته بوجهته.. استقر نجحي في مدينة وجدة، وتعرف هناك على مجموعة من المغاربة الذين ينوون أيضا الهجرة إلى الجزائر، والذين ساعدوه على تحقيق قصده. يسترسل محمد قائلا: "بعد أسابيع عدة من الحياة الشاقة، لا تخلو من النوم في العراء أحيانا بوجدة، تعلمت ما لا يمكن تعلمه في المدرسة..ذات ليلة حصل الخروج المنتظر مع كوكبة مهاجرة، إذ استأجرنا من يدلنا على الطريق، وأمرنا أن نمشي راجلين تباعا اتقاء الألغام المزروعة في الحدود". "واصلنا السير طيلة الليل لمسافة 26 كلم، إلى أن دخلنا مدينة مغنية الجزائرية مع أذان صلاة الفجر، ومنها تفرقنا كل حسب وجهته.. اتجهت نحو مدينة معسكر إلى عنوان كان في حوزتي سابقا مع مهاجر له دراية بالطريق، إذ سبق له أن اشتغل فيها عدة مرات"، يقول نجحي. وسرد نجحي كيف اشتغل في مدينة معسكر بالجزائر في الزراعة ورعي الغنم وحفر الآبار وفي معصرة عنب، وهو ابن 16 سنة، ليحصل على لقمة العيش، وتمكن بمساعدة أحد المغاربة من الولوج إلى شركة اسمها "SOTHEB" سنة 1967، حيث عمل كمنقط يومي للعمال؛ كما أن رئيس تلك الشركة ساعده على الاستفادة من التكوين في إحدى المدارس، فحصل على شهادة الكفاءة ورتبة رئيس ورش محنك في أواخر سنة 1972. ويتابع محمد سرد قصته: "مالك تلك الشركة أعجب بي وبإخلاصي وتمسك بي في شركته، خاصة أنه يعرف عزمي على الهجرة إلى فرنسا، واستعمل كل الطرق لاستبقائي عنده، وساعدني على التعرف على ابنة إحدى العائلات الكبيرة ذات النفوذ في الجزائر سنة 1973، والتي تزوجت بها سنة 1975، قبيل انتفاضة الجزائر وغليانها ضد المغرب". حرب الحدود تمزق العائلة "بعد أشهر من زواجنا بدأت العلاقات المغربية الجزائرية تتوتر أكثر فأكثر، وأغلقت الحدود البرية وبدأت حملة الطرد وإسقاط الجنسية ضد المغاربة المقيمين بالجزائر"، يقول محمد نجحي ساردا هذه القصة التي قال إنها تصلح أن تكون سيناريو فيلم سينمائي مشوق. ويقول نجحي إنه كان يشتغل رئيس ورش على رأس شركة بناء حين حاصرته السلطات الجزائرية سنة 1977 واستعملت معه كل طرق المساومة والإغراء انتهاء بالاعتقال، مضيفا إنها حاولت إرغامه على أن يكون عنصرا في جبهة البوليساريو، لكنه تمكن بأعجوبة من التملص من قبضتها. ويسترسل نجحي: "كان يتم اصطياد المغاربة في الشوارع طيلة حملة الجزائر الغاضبة عبر سدود وحواجز الشرطة.. لا يبحثون عن الهوية فحسب، وإنما ينادون باسم مشهور هو "مولاي" وكل من التفت إلى النداء يوقفونه ويفتشونه على الفور، ثم يقلونه على متن سيارة الشرطة إلى مقر التفتيش، ومن ثمة يطردونه إلى الحدود المغربية الجزائريةبوجدة". "العمالة" للجزائر أو.. "إثر حملتها العنيفة، استدعتني ذات يوم الشرطة المحلية للحضور إلى مقرها، وعندما امتثلت أمامها عرضت علي أن أحمل جنسية البوليساريو مقابل تسوية وضعيتي، لكنني رفضت"، يقول نجحي. وأردف: "بعد أيام معدودة، وأثناء عودتي من العمل في منتصف النهار لأتناول وجبة الغداء، اختطفتني الشرطة الحدودية، التي وجدتها في انتظاري عندما وصلت إلى مدخل منزلي، إذ نادى علي شرطي، وعندما وقفت أمامه سألني عن اسمي، وبعد ذلك طلب مني وثائق الإقامة، ودخلت إلى المنزل وأحضرت له جميع الوثائق المطلوبة ثم أمرني بالركوب". وبكثير من الألم الدفين يتابع نجحي كلامه: "يداي مربوطتان بمقعد السيارة، ووجهي ملثم..وعناصر الشرطة الحدودية لم يحدثوا معي طيلة المسافة، فقط اشتروا لي بعض الطعام والسجائر في الطريق". "وبعد وصولنا إلى مكان استشعرت أنه قريب من الميناء، بحكم الرطوبة ورائحة البحر، أدخلوني إلى منزل محروس فيه غرفة مجهزة بفراش ومرافق صحية، فاستلقيت على الفراش إلى أن أصبح الصباح"، يستطرد نجحي. ويحكي نجحي كيف أنه قضى هناك 7 أيام معتقلا على انفراد، قائلا إنه لم يحدثه أحد عن سبب اعتقاله إلا بعد مرور 4 أيام، وبعدها تناوب مجموعة من العسكر الجزائريين على استجوابه، وعرضوا عليه عدة إغراءات، منها مناصب قيادية، لكن محاولاتهم لم تنجح أمام إصراره، ورغم تهديده بالقتل أيضا. "أطلق سراحي بعد أن أومأت لهم بالقبول، وأمروني بالرجوع إلى منزلي، في انتظار أن أتلقى الأوامر من الشرطة المتواجد بمدينة معسكر..كان همي هو أن أتخلص من قبضتهم، بعد أن تأكد لي إصرارهم على الأمر، وتسرب اليأس والقنوط إلى قلبي، بعدما أدركت أني ملاحق بإلحاح من أجل أن أكون عنصرا ضد الوطن، لهذا قررت الهرب إلى فرنسا". التضحية بفلذة كبدي "كنت في حيرة من أمري، فأنا أب لأسرة صغيرة، وهمي الوحيد أن أعيش بكرامة، ولم تكن لي أي علاقة بالسياسة، وفجأة أصبحت وسط هذه الدوامة، فماذا سيكون مصير عائلتي في كلتا الحالتين؟، ماذا سأقول لبنتي إن عرفتا أني خنت وطني؟"، كانت تلك أسئلة دارت في خلد نجحي ليلة إطلاق سراحه. ويتابع نجحي: "في الصباح، قبل خروجي من مقر الاعتقال، سلموني تذكرة التنقل عبر القطار، وورقة نقدية بقيمة 500 دينار جزائري لأذهب إلى منزلي بمعسكر، لكنني اتجهت تلقائيا نحو مطار الهواري بومدين، وتقمصت دور رجل أعمال مسافر في زيارة قصيرة إلى فرنسا لزيارة العائلة، ونجحت خطة المغادرة، فغادرت بتاريخ 16 رمضان 1976 عاصمة الجزائر إلى مطار نيس بفرنسا". وبعينين مغرورقتين بالدمع يتابع: "تركت زوجتي المسكينة، وابنتاي الصغيرتين، إحداهما لم أر حتى وجهها لأنها ولدت بعد عشرين يوما من مغادرتي الجزائر". لم يتخل نجحي عن عائلته إطلاقا كما يؤكد، بل اتصل بها من فرنسا وطلب من زوجته اللحاق به، بعد أن أعلمها بكل شيء، لكنها منعت من ذلك. "عندما وصلت إلى مسقط رأسي بالمغرب، في أوائل سنة 1979، أخبرت السلطات المحلية بالواقع مفاخرا، لاعتقادي أنني سأكون مقاوما في نظر الدولة، لكنهم انتزعوا مني جواز السفر، وجعلوني تحت الحراسة النظرية لمدة طويلة، وأصبحت جميع الإدارات تتوجس مني بمجرد معرفة قصتي" يورد نجحي. واسترسل المتحدث بأنه راسل عدة جهات، منها وزارة العدل ووزارة الخارجية والديوان الملكي، لكي يتمكن من استقدام عائلته إلى المغرب، حماية لها، لكن دون جدوى"، يقول نجحي. وبالصدفة فقط تمكن محمد نجحي من أن يسمع كلمة "أبي" من ابنته الجزائرية سنة 1994، بعد نحو عشرين سنة من الفراق، بعد أن تمكنت من الحصول على هاتفه وعنوانه من خلال صاحب الشركة التي كان يعمل بها، فتواصلت معه بعد ذلك عبر الإنترنت، لكنها أخبرته بأنها لا يمكنهما المجيء بحكم الدراسة وظروف البلاد. "إذا كان الوطن غفور رحيم لمن ذهب ثم عاد، فما جزاء من رفض الذهاب رغم الإغراءات والتهديدات وضحى بعائلته وأبنائه؟" يقول نجحى، مضيفا: "لا أتمنى سوى أن تتحول قصتي إلى كتاب أو فيلم تكريما لأسرتي التي تركتها مرغما في الجزائر، ولأسرتي الحالية في المغرب، التي تتكون من زوجتي وأربعة أولاد وبنتين..