إنهاء "أزمة طلبة الطب" يطرح إشكالية تعويض الأشهر الطويلة من المقاطعة    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكنبوري يسلط الضوء على آية "إن الدين عند الله الإسلام"
نشر في هسبريس يوم 01 - 04 - 2016

كتب الأستاذ مصطفى بوهندي مقالا مطولا خصصه للتعليق على آية "إن الدين عند الله الإسلام"، تطرق فيه إلى قضيتين أساسيتين: الأولى أن مضمون الآية لا يعني أن الإسلام هو وحده الدين الأصح بين الأديان الأخرى، والثانية أن فهم الآية في ظاهرها يؤدي إلى القول بإلغاء حرية الاعتقاد في الإسلام.
والصديق الدكتور بوهندي باحث متطلع إلى استكمال أدواته، وهو يعمل جاهدا على الدفاع عن حرية الاعتقاد أو المعتقد كما يسميها، وهو خطأ لذلك ما يفتأ في كل مرة يكتب مدافعا عن موقفه، وهو الموقف نفسه الذي يتبناه كاتب هذه السطور، لكن المنهجية التي يختطها الأستاذ بوهندي تجعلني في الضفة الأخرى من النهر.
ولذلك وددت في هذا المقال مناقشته في جملة قضايا مناقشة علمية أخوية لا تلغي المودة، بالنظر إلى ما ورد في مقاله الأخير بشكل خاص، من أمور تستوجب التوضيح، علما بأن ما نشره في مناسبات سابقة يصب في المصب نفسه، وهو ما يعني أن هذا المقال هو بمثابة رد على الأفكار المستبطنة في مقالاته السابقة.
يذهب الأستاذ بوهندي إلى أن المسلمين درجوا على أن يروا في الآية السابقة وغيرها من الآيات والأحاديث النبوية "أدلة على رفض القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لمختلف الأديان الأخرى واعتبارها منسوخة وباطلة، واعتبار معتنقيها كفارا من أهل النار، إلا إذا أسلموا ودخلوا في الإسلام الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم المسلمين"، ثم يستدل بفتوى لأحد المشايخ حول منع حرية الاعتقاد في الإسلام، يستدل فيها أي المفتي بآية "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". ويورد كلاما لذلك المفتي حول أن الإسلام نسخ الديانات السابقة، ثم يرى أن المسلمين يقولون بالفكرة نفسها، وبعد ذلك يدخل إلى موضوع حرية "المعتقد".
أول نقطة يجب التدقيق فيها أن لا علاقة بين حرية العقيدة في الإسلام وبين آية "إن الدين عند الله الإسلام"، كما ظن الأستاذ بوهندي. فليس صحيحا أن جميع المسلمين اعتبروا تلك الآية مطية لمنع حرية العقيدة، إلا إذا صح أنهم جميعا كانوا على قلب رجل واحد في الفقه والتفسير والاجتهاد، وهذا لم يكن. إن مدار الآية هو حكم الله على الناس، بينما مدار حرية العقيدة حكم الناس على الناس، ذلك أنه إذا كانت الآية تدل على أن الله سبحانه خص الإسلام بالأصحية المطلقة، فلا يعني ذلك أنه يتوجب على الناس التضييق على الحرية في مجال العقيدة انطلاقا من التصور نفسه. وقد وردت آيات كثيرة حول عقاب المرتدين والكفار في الآخرة، لكن ذلك لا يترتب عليه تنصيب محاكم في الدنيا لمعاقبتهم، ولذلك لم تكن هناك محاكم تفتيش في تاريخ الإسلام كما كان الشأن في المسيحية.
إن الفكرة الجوهرية لدى الأستاذ بوهندي على الأقل في ما أفهم أن الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، متساوية. هذا ما يستشف من عدد من مقالاته مثلما هو الأمر في المقال الأخير. ومعنى متساوية أنها كلها ثمرة الوحي الإلهي، ولذلك نراه يشدد على التفسير الظاهري للآية المذكورة، مؤكدا على أن الإسلام ليس ناسخا ولا مبطلا لما سبقه من الديانات.
والغريب أن الأستاذ بوهندي يستدل بالآية التالية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب، ثم يعقب بالقول: "وهو ما نفهم منه أن الإسلام ، هو توحيد الله والإسلام له دون غيره، وهو ما يشهد به الله والملائكة وأولو العلم، من أنه سبحانه لا شريك له، وأن الدين عنده هو الإسلام".
ولكن التعقيب يشهد عليه وليس له، بحيث يبدو الكاتب وكأنه ينقلب على نفسه من غير أن يشعر. وكان يمكنه أن يفتح أي كتاب في التفسير لكي يدرك بأن الآية تعني أن أهل الكتاب اختلفوا بينهم "من بعد ما جاءهم العلم"، أي من بعد أن بعث النبي محمد عليه السلام الذي كان موجودا في كتبهم أنه سيبعث.
من نافلة القول التذكير بأن مفهوم الإسلام، كمبدأ يعني التسليم لا كاسم علم على دين معين، موجود في الأديان الثلاثة كلها؛ ذلك أن الأصل فيها هو التسليم لله، والإسلام له، ولهذا نقرأ في الآية:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، وهو ما يفهم منه أن إبراهيم عليه السلام كان على الإسلام. وتتخذ الأديان الثلاثة النبي إبراهيم أصلا لها وترى فيه أبا لجميع الأنبياء، وما دام أن إبراهيم عليه السلام كان مسلما فالذي يترتب على ذلك أن الأنبياء جميعهم كانوا كذلك. ونرى في هذه الآية إطلاق وصف "الدين" على ما كان عليه إبراهيم عليه السلام، وذلك قبل أن ينزل الإسلام بقرون عدة، وعندما نزل الإسلام بقي الوصف نفسه في الآية المشار إليها في البدء: "إن الدين عند الله الإسلام". فإذن لا خلاف في أن الدين واحد.
إن الذهاب إلى القول بصحة الأديان جميعها، وتساويها في المصدر، يقودنا إلى السقوط في عقيدة البداء، وهي عقيدة يهودية شهيرة، مضمونها أن الله قد يفعل أمرا ثم يبدو له أمر آخر في ما بعد، أي إنه أنزل اليهودية ثم بدا له أن ينزل المسيحية... وهكذا. كما أنها تقودنا بالضرورة إلى القول بتعدد الآلهة، إذ لا يستقيم في المنطق أن ينزل رب واحد ثلاثة أديان مختلفة في ما بينها في عقائد جوهرية؛ وهذان الأمران كلاهما باطل. والصحيح أن المسيحية نزلت كحركة تصحيحية بعد تحريف اليهودية، ثم نزل الإسلام تصحيحا بعد تحريف المسيحية، ثم كان الإسلام آخرالأديان لأن الله هو من تعهد هذه المرة بالحفاظ على الكتاب من التحريف: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، حتى لا يتكرر التحريف للمرة الثالثة. وها هنا نرجع إلى الفكرة السابقة التي ذكرها المفتي واستدل بها الأستاذ بوهندي، وهي أن الإسلام نسخ الديانات السابقة عليه. إن الأمر هنا لا يتعلق بنسخ، فالإسلام لم ينسخ الأديان السابقة، بل نزل بعد أن تم تحريفها، والنسخ وقع على بعض الأحكام فيها وليس عليها كلها.
إن المشكلة التي حصلت مع الإسلام أن أتباع اليهودية والمسيحية لم يؤمنوا بنبوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بالرغم من أنه كان موجودا في الكتب الصحيحة التي كانت بحوزتهم، جنبا إلى جنب مع الكتب الرسمية الأخرى المحرفة التي كانت رائجة. ولذلك لا نكاد نجد اليوم في الكتب المقدسة، اليهودية والمسيحية، إشارة إلى نبوة نبي الإسلام، بينما نجد في القرآن إشارات كثيرة إلى الأنبياء السابقين؛ والأكثر من ذلك أن القرآن ينص على كفر من لا يؤمن بهؤلاء الأنبياء.
والتنصيص على هذا المبدأ ليس معناه تصديق الكتب المحرفة المنسوبة إليهم، بل معناه تصديق السلسلة الكاملة من الأنبياء الذين ترادفوا في تبليغ الإسلام، منذ أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وفي هذا السياق يتعين قراءة آية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، إذ يمكن النظر إليها على أنها تشير إلى إكمال تلك السلسلة الطويلة من الأنبياء المترادفين. كما أن عبارة "النبي الخاتم" لا تدل فقط على آخر النبوات، بل أيضا على خاتم تلك السلسلة؛ وقد يسعفنا الحديث التالي في فهم هذه النقطة: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"، وفي الحديث الآخر "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فائدة أن الأمر يتعلق بإتمام حلقات السلسلة.
لقد تطور علم اللاهوت خلال القرون الثلاثة الأخيرة تطورا كبيرا، بحيث صار القول اليوم بصحة اليهودية والمسيحية ومصدريتهما السماوية لا يقول به سوى رجال الكنيسة وعامة المؤمنين، بينما قطعت البحوث العلمية الدقيقة شوطا كبيرا في تفنيد مزاعم رجال الدين في الديانتين معا. ومنذ المبادرة التي قام بها باروخاسبينوزا، في القرن السابع عشر، والتي أظهر بموجبها أن اليهودية ليست ديانة منزلة بل هي من نتاج البشر بل كشف التناقضات الكامنة فيها، وخط تطور علم اللاهوت ومقارنة الأديان في تصاعد. كما أن علماء المسيحيات أصبحوا مجمعين على أن المسيحية الحالية ليست مسيحية المسيح، بل هي مسيحية بولس، وهو يهودي منشق أعاد بناء العقيدة المسيحية على ثلاثة أخلاط: الوثنية الرومانية، والعقيدة اليهودية، وما وصل إليه من بقايا المسيحية.
ويحاول الأستاذ بوهندي جاهدا أن يثبت وجهة نظره بخصوص أن الإسلام لم ينسخ الديانات السابقة عليه، بل أقرها، لكنه يسقط في تناقضات فادحة للأسف الشديد. يقول مثلا: "دين الله إذن في كل النصوص القرآنية المستشهد بها ليس هو دين محمد عليه السلام معزولا عما جاء به الأنبياء من قبل ومبطلا له كما درج عليه عامة علماء المسلمين وغيرهم؛ وإنما هو الدين المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن عليه والموافق للحق الذي تقوم عليه السموات والأرض ومن فيهن"، وفي هذه الفقرة تناقضات عدة: فهو يستعمل عبارة "الكتاب"، وكان عليه أن يستعملها بالجمع حتى ينسجم مع أطروحته، ثم يكرر العبارة مرة ثانية ويقول "والمهيمن عليه"، وهذا هو المعنى نفسه الذي يقول به القرآن ويراه المسلمون، لذلك لا أرى لماذا يجهد الأستاذ بوهندي نفسه لتقرير شيء مقرر.
إن تصديق الإسلام للأديان السابقة، كما في الآية: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه"، لا يدل على الاعتراف بالديانتين اليهودية والمسيحية كما تم تحريفهما، وإلا لكان ذلك تزكية من الله سبحانه للتحريف، وهذا محال، ولكنه تصديق لما أرسل به الأنبياء وتم تزويره؛ إنه تصديق لما جاء به الأنبياء لا لما حرفه رجال الدين اللاحقون لهم، فيجب التمييز. والآية تتحدث عن "كتاب" لا عن كتابين، التوراة والإنجيل، للتدليل على أنه كتاب واحد في المضمون، فلا يخصص القرآن إلا عندما يتعلق الأمر بنسبة كتاب معين إلى أصحابه، اليهود والنصارى؛ كما أن الآية تنسب "الكتاب" إلى النبي لا إلى أتباع التوراة والإنجيل، بدليل قوله: "بين يديه"، التي قد تفيد "السابق عليه"، كما قد تفيد "المحيط علما به".
ما يدل على ذلك الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر: "أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟"، فقالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بنسلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بنسلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم".
وفي هذا الحديث نرى بعض الفوائد. أولاها أن النبي كان على إحاطة بما في الكتب التي سبقته، والثانية أن اليهود كان لديهم الكتاب الصحيح من التحريف، والثالثة أن الكتاب الصحيح من التحريف كان لدى رجال الدين (الأحبار) لا العامة، والرابعة أن العامة كانت خاضعة للدين الذي وضعه رجال الدين المحرفون، والخامسة أنهم كانوا يحرفون شفاهيا قبل التحريف الكتابي، والسادسة أنهم وضعوا قوانين غير تلك التي في الكتب الموجودة لديهم.
والملاحظ أن الأستاذ بوهندي يستعمل أكثر من مرة تعبير "الدين المحمدي"، بالرغم من أنه يتحدث عن الإسلام كدين للعالمين. وتعبير "الدين المحمدي" أطلق من لدن المسيحيين خلال حقبة المواجهات مع المسلمين، للقول بأن الإسلام ديانة طائفية، فقد كانوا يصفون المسلمين بالمحمديين، نسبة إلى النبي الذي يتبعونه، كما أنهم هم أيضا مسيحيون، نسبة إلى المسيح الذي يتبعونه. والمفهوم الفلسفي الكامن في مثل هذه التعاريف: الديانة الموسوية، العيسوية، المحمدية، يشير إلى أن الأديان من نتاج أنبيائها، لا وحيا من الله.
ويجب التذكير بأن مقولة أصحية دين على آخر لم تظهر في البداية إلا على يد المسيحيين، لا على يد المسلمين. لقد أشار القرآن إلى أن الإسلام هو دين الحق، ولكنه لم يرتب على ذلك إلغاء الأديان الأخرى، بينما كان الأمر مختلفا بالنسبة للمسيحية. فقد رأى المسيحيون في الإسلام نحلة من النحل الفاسدة التي يجب استئصالها، بل اعتبره رجال الكنيسة في مرحلة الحروب الصليبية هرطقة بين هرطقات كثيرة ظهرت داخل المسيحية نفسها؛ مثل الآريوسية القديمة والكالفينية واللوثرية الحديثتين، وكتب بعض رجال الدين المسيحيين بأن المسلمين أتباع دين شيطاني يجب شن حرب عليهم باسم الصليب لأنه رمز خلاص البشرية ولا خلاص من دونه.
وفكرة التفوق الثقافي والحضاري السائدة في الغرب اليوم تعود بجذورها في الواقع إلى نزعة دينية، مفادها تفوق المسيحية على غيرها من الديانات، وأفضلية المسيحي على غيره. وليس من الغريب أن اليهود والمسلمين كانوا أشد أعداء المسيحيين في القرون الوسطى، لأنهم كانوا يرون فيهم أتباع دينين فاسدين، وكاد اليهود ينتهون من الوجود نتيجة الحروب التي شنت عليهم في أوروبا، لأن المسيحيين كانوا يريدون تطهير مجتمعاتهم من اليهود، لولا أن الأندلس أنقذتهم من الإبادة عندما دخلوا تحت كنف المسلمين، ما وفر لهم الفرصة لكي يعيشوا ويتناسلوا، كما كتب المؤرخ اليهودي أندري شوراكي؛ ولولا الثورة الفرنسية وفكرة حقوق الإنسان التي ظهرت وقتها لما بقي يهودي واحد في أوروبا، سواء بالقتل أو بالهجرة.
إن التأسيس لحرية الاعتقاد في الإسلام لا يستدعي كل هذا الخوض في أمور خارجة عن هذا النطاق، فلي أعناق النصوص لتأكيد مبدأ حرية الاعتقاد يؤدي إلى نقيض ما هو مطلوب. ذلك أن تأكيد هذه الحرية عبر لي أعناق النصوص يظهر بأن حرية الاعتقاد غير موجودة في الإسلام وإنما تم استخراجها منه بالقوة عبر اللجوء إلى ذلك الأسلوب، وهو أمر يخدم المتطرفين الذي يحاججون هم أيضا بتأويلات كثيرة وبلي أعناق النصوص من أجل إثبات عدم وجود حرية الاعتقاد في الإسلام، بينما أطروحة حرية الاعتقاد في الإسلام من الوضوح بحيث لا يستدعي الأمر التحمل.
وتعد آية "لكم دين ولي دين" قمة هذا التأسيس للحرية الدينية وحرية الاعتقاد، إذ يوجه الله سبحانه نبيه إلى مخاطبة الآخرين: "قل يا أيها الكافرون" بأسلوب يعكس الإيمان بالتعدد والحرية. فبالرغم من أن القرآن يعتبر أن الإسلام هو "الدين"، بالتعريف والقطع، إلا أنه في هذه الآية المباشرة يستعمل كلمة "دين" بالتنكير، فيساوي بين الإسلام وبين غيره في هذا التنكير، وهذه قمة الاعتراف بالتعدد والاختلاف.
إن الاعتراف هنا بالحرية الدينية ليس اعترافا دينيا أو عقائديا، بل هو اعتراف اجتماعي، إذ هو ليس تصديقا للعقائد الخاطئة الموجودة في تلك الأديان، ولكنه اعتراف بأتباعها فحسب، كأشخاص ذوي قناعات من حقهم الاحتفاظ بدينهم، ولذلك كتبنا سابقا مقالا تحت عنوان "الحق في الاعتقاد... نحو مفهوم جديد"* نؤكد فيه أن حرية الاعتقاد في الإسلام ليست مطلبا يجب التذكير به، بل هي حق كفله الإسلام بالتنصيص المباشر عليه، تفاديا للتأويلات التي حصلت في اليهودية والمسيحية فحولتهما إلى ديانتي عنف وإبادة، لذلك لجأ القرآن إلى تأكيد هذه الحرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.