"ليديك" و"أمانديس" تحولتا إلى رمز من رموز التسيير المنحرف عوض أن يكون تدبيرا مفوضا في مغرب اليوم..وفي هذا الإطار لازالت الذاكرة الجمعية للمغاربة موسومة بالعديد من المخالفات التي تورطت فيها هاتان الشركتان ذات الأصول الفرنسية، وبهذا الخصوص لن ينسى أحد أن ليديك ظلت طوال يومين متتالين عاجزة عن إعادة الكهرباء إلى منازل "البيضاويين" خلال شهر نونبر من سنة 2010 بعد أن شهدت العاصمة الاقتصادية للمملكة أمطارا غزيرة أغرقتها في ظلام دامس. هذه الواقعة المؤسفة ألقت الضوء على كل العيوب التي تورط فيها المفوِّضون والمفوَّض لهم على حد سواء، كما أنها أعادت إلى السطح الحديث عن الظروف الغامضة التي تم فيها سنة 1997 إبرام الاتفاق على منح التدبير المفوَّض إلى هذه المقاولة الخاصة والمتخصصة في خدمة وتوزيع الكهرباء والماء على ساكنة الدارالبيضاء، وكذا تسيير خدمات الصرف الصحي بالعاصمة الاقتصادية الكبرى. حينها علم الجميع أن هذا الفرع الفرنسي، الذي كان قد شرع في ضخ الأرباح وحقوق الاستغلال في حسابات الشركة الأم، كان محل إعادة تقويم مالي هام (546 مليون درهم يطالب بها مجلس المدينة كتعويض مالي و892 مليون درهم في إطار التقويم المحاسباتي) وضريبي على حد سواء ( تقويم تكاليف الخدمة بمبلغين يصلان إلى 488 مليون درهم و325 مليون درهم لصالح الضريبة على أرباح الشركات والضريبة على القيمة المضافة على التوالي خلال الفترة التي تمتد من 2009 إلى 2012). ومرة أخرى يذكر كل المواطنين المغاربة ما حدث في طنجة خلال شهر أكتوبر من السنة الماضية، حين احتج الطنجاويون بقوة على الفواتير المبالغ فيها لشركة "أمانديس" وهو ما ترك آثارا لا تمحى من أذهان الجميع فقد كانت احتجاجات أهل طنجة شرعية تماما وكان يفترض فيها أن تلقى ما يكفي من الآذان الصاغية. ذلك أنها كانت رمزا ومناسبة جماعية للتعبير عن الغضب العام العارم والذي لم يكن أحد قادرا على التحكم فيه أو وضع حد لتداعياته. ولهذا كانت السلطات قد اتخذت بعين الاعتبار إمكانية انتقال عدوى الاحتجاج إلى مدن أخرى . وبفعل مبادرة ملكية قام رئيس الحكومة برفقة وزير الداخلية بالتدخل لحل الأزمة بعد ثلاثة أسابيع كاملة من الاحتجاجات المتواصلة بعد أن حلا بالمدينة بهدف محاولة تهدئة هذه الغضبة الشعبية. بالنهاية تم إيجاد مخرج لهذه القضية، من خلال إلزام الشركة المفوَّضة بمجموعة من الإجراءات، وهو ما يعتبر في حد ذاته حلا مؤقتا لا يخوض في صلب المشكلة ولا يحلها، بل يمارس دور التعتيم فقط عن المشكل الأساس. ذلك أن الاكتفاء بمراقبة الفواتير بغية تخفيض المبالغ المستحقة وتركيب عدادات فردية، تعتبر مجرد حلول ترقيعية قصيرة المدى لن تجعل أحدا في منأى عن مواجهة الحقيقة المؤلمة، ولو بعد حين.. الآن، وفي اللحظة التي تتم فيها كتابة هذه السطور، لا زالت كل من "ليديك" و"أمانديس" في مفاوضات متجددة مع ممثلي المجالس المحلية المنتخبة للبحث في إمكانية تجديد العقدة معهما... وحتى تتم معالجة التسيير المفوض، هذا الملف الشائك، بالشكل الصحيح، سيكون على ممثلي السلطة، والجماعات المحلية أخذ هذه الحقائق التوضيحية الثلاث بعين الاعتبار: أولها ما هو تاريخي، وثانيها ما هو جيو-سياسي، وثالثها، آخرها، ما هو مالي. يخبرنا التاريخ أن الماء كان على الدوام مصدرا رئيسا من مصادر التطاحن بين بني البشر، ومدعاة للطمع، ومصدرا هاما من مصادر النفوذ والمال. فمنذ العصور الحجرية الحديثة كان الماء عاملا أساسيا في قدرة البشر على إنتاج وسائلهم الخاصة للبقاء على قيد الحياة بعد أن توقفوا عن الترحال وحلوا بمكان واحد يستقرون فيه لممارسة الزراعة وتربية المواشي. بفضل الماء، حول مجاري الأنهار ووديانها ازدهرت الحضارات الأولى وأينعت: هناك الحضارة السومرية التي ازدهرت بين دجلة والفرات، ومصر حول النيل، وحضارة الأنهار الهندية أو تلك التي تنتمي ل "هوان هي" في الصين. وبهذا الخصوص كان لمد أنابيب الري تأثير مهول على الإنتاجية الفلاحية وظهور معالم المدنيّة الأولى (تشكل المدينة أو الدولة بمفهومها الحالي) التي كان من مهامها الرئيسة تنظيم "الفائدة من المياه" بشكل عادل.. وبعد ذلك قامت الحضارات التي تلت بتعزيز دور الدول في التحكم في الموارد المائية كما هو الحال في كل من : روما العتيقة، ومرحلة العصور الوسطى، وعصور النهضة.. وصولا إلى مرحلة ظهور "الرأسمالية والثورة الصناعية حيث امتدت أذرع التسيير إلى توزيع الكهرباء، أيضا. وطوال هذه العقود والقرون المتواصلة من الحضارة الإنسانية لم تعرف طريقة التسيير والتوزيع هذه رجة واحدة أو عاملا من العوامل التي قد تطبع العملية برمتها بشيء من تجاعيد الزمن..ولكن العملية برمتها اليوم تقع على محك التسيير المفوض سواء كانت الدولة تتحمل مسؤوليتها فيما تنتج من طاقة، أو لا تتحمل وهي المسؤولة أمام مواطنيها وبقية المقاولات التي تستفيد من خدمات التوزيع هذه. وإذا ما كان التقدم العلمي والتقني بوابة ميسورة للاستعمال المعقلن للماء والكهرباء وتم التسليم بهذه الحقيقة فإن الظروف السياسية والاقتصادية باعتبارها عوامل تؤخذ بعين الاعتبار، تحث الساكنة العامة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إلى مزيد من الاحتقان الأكثر ميلا إلى العنف من جانب الجماهير المهمشة والتي تشعر أنها محرومة من حق الولوج إلى المصادر الكفيلة بضمان حقوقها في ضمان "فوترة نزيهة" لا تدخل في نطاق سياسة التهميش المكرسة على العموم. على المستوى الجيو-سياسي، فإن التسيير المفوض للماء والكهرباء يشكل مشكلا قائما في حد ذاته في العالم بأسره..وقد تناول الفن السابع هذا الموضوع سنة 2015 من خلال فلم الإثارة، الأمريكي، "لا مفر".. والذي يدفع بالاحتجاج على الشركات متعددة الجنسيات إلى مستويات غير مسبوقة.. إلى درجة ارتكاب "جريمة"..بيد أن الواقع كان على الدوام أكثر قسوة من "السينما" و"الخيال"..فالماء مصدر من مصادر التوتر الدولي الدائم..والحروب، أحيانا، كما هو الحال في كل من "الأراضي القاحلة"، و"شمال أفريقيا"، و"الشرق الأوسط"، و"آسيا الوسطى"...ولعل مصر، اليوم، تعتبر أكبر تجسيد لهذا الصراع من خلال الخصام مع إثيوبيا حول تيار النيل المائي الذي يصب في عكس مصلحة الإثيوبيين. وفي مكان آخر هناك سوريا التي تتنازع مع تركيا، صاحبة النفوذ العسكري والاقتصادي في المنطقة حول نهري دجلة والفرات. وحتى لا نذهب بعيدا، هناك الصراع بين إسرائيل والدول المجاورة حول الماء وموارده وبين البلدان المجاورة (فلسطين، والأردن، ولبنان، وسوريا) حيث يشكل "الماء" سلاحا سياسيا فعالا وعاملا من عوامل الضغط التي لا تخيب. أمريكا الجنوبية بدورها، عرفت ثورة جماهيرية ضد شجع الشركات متعددة الجنسيات أدت إلى نتيجة من اثنين، إما طرد تلك الشركات خارج الحدود الوطنية للبلد، أو إرغامها على تقديم تنازلات راديكالية خلال عملية الفوترة على الاستهلاك. نفس الوضع عاشته كل من "كوشابامبا" في بوليفيا سنة 2000 و "لاباز" سنة 2005، و"توكومان" وسانتا في بالأرجنتين عام 2013.. ونفس الأمر يسري على أفريقيا، في جزر القمر بشكل رئيس..ففي هذه المدن تم القيام بكل شيء واللجوء إلى كل الوسائل من أجل إرغام الشركات متعددة الجنسيات على التراجع. مظاهرات، حملات امتناع جماعي عن آداء الفواتير، إعادة تفاوض مفروض لتجديد العقد والاتفاقيات، إضراب عام، وكذا طرد بعض مسيري هاته الشركات متعددة الجنسيات. على المستوى المالي، على الدولة والجماعات المحلية أن تنطلق في تدبيرها للعلاقة مع "هذا المحاور العنيد" من موقف قوي وقدرة على التحكم وفرض الأمر الواقع ذلك أن الشركات متعددة الجنسيات والمتخصصة في تسيير خدمات توزيع الماء والكهرباء والصرف الصحي معروفة على المستوى العالمي ومعدودة على أطراف الأصابع. وعلى رأسها شركتا "فيوليا" و"سوويز" واللتان تشغلان المركزين الأول والثاني في مجال تخصصهما. وهما شركتان تعملان في نطاق يتميز بالكثافة العملية مما يعزز قوتهما على هذا المستوى العالي من التركيز (الميداني) وهكذا تعمل الشركتان على التشكل في إطار تكتل احتكاري وتحاولان الوصول إلى اتفاقات توفر عنهما عناء "المنافسة" فيما بينهما.. وتتفاعلان مع "طلبات العروض" بشكل مدبر، وتتقاسمان سوق العمل وتحددان التكاليف والأتعاب بطريقة موحدة وكل هذا بهدف بسط تأثيرهما على المستوى الدولي واقتحام الأسواق المالية المحلية. هاتان الشركتان متعددتا الجنسيات تقومان بمواجهة جمعيات المستهلكين والمنتخبين على حد سواء، وكل الذين يستنكرون بشكل مستمر الثمن الباهظ لكلفة المتر المربع من الماء وكلفة الكيلوواط" من الكهرباء، ناهيك عن الغموض الذي يلف عملية تحديد كلفة هذه الخدمات.. هذا دون الحديث عن الطريقة التي يتم من خلالها تقييم حساب الاستهلاك والامتناع عن السماح للدولة والجماعات المحلية، على حد سواء، بمراقبة "الحساب" للتأكد من التوافق بين قيمة الاستهلاك والقيمة المالية المحددة بالفاتورة.. التاريخ يعيد نفسه كل مرة..لقد تم وضع "ليديك" على قائمة الاتهام..فالاتفاقية المبرمة بالتراضي سنة 1997 تعتبر بمثابة "الخطيئة الأولى" (أو الخطيئة الأصلية)..دون الحديث عن الالتزامات المتعلقة ب"الاستثمار" والتي لم تحترمها "ليديك"، وتلك الأرباح الخيالية التي تم ضخها في حسابات الشركة الأم.. نفس الأمر ينطبق على أمانديس التي يجب في حقها المرور تحت "مجهر التشريح" الخاص ب"الرأي العام الوطني" والإعلام،أيضا. التسيير المفوض من داخل اقتصاد منفتح ومعولم (كما هو الحال في المغرب) شر لا بد منه، وهذا مما لا مراء فيه، ولكنه، بالموازاة مع ذلك خطر قائم يتوجب الاحتراس والتسلح بمزيد من اليقظة والقدرة على التدخل، فالدولة يجب عليها الإشراف على ختم الاتفاقيات الخاصة بالتسيير المفوض بشكل يضمن التوازن ومعه الالتزام بتطبيق الاتفاقات وبنودها بنفس الشكل الذي يحرص فيه الواحد منا على مراقبة حليب تم وضعه فوق النار.. (حتى لا يخرج الحليب عن نطاق غليانه).. وفي حال العجز عن "إيجاد المخرج" فإن هاته الشركات متعددة الجنسيات نفسها قد تكون بمثابة "أسباب حريق" مكتملة الأركان لتقويض السلم الاجتماعي في المملكة.