لقد سلف منا التأكيد على أن التصحيح الحقيقي للانحرافات والتحريفات التي لحقت بالتراث العقدي والسياسي والفقهي للمسلمين يجب أن يكون في سياقات ثلاث هي:النقل والعقل والعواطف،للتخفف من تركة الخلافات التاريخية المزمنة ،والاتجاه إلى بناء مستقبل يقوم معماره الديني على الإيمان بالله واليوم الآخر والسلوك الأخلاقي،ومعماره السياسي على العدل في الحكم،ومعماره الاقتصادي والاجتماعي على العدل في توزيع الثروة، وقيم الحرية والكرامة والتكافل ،وللشروع في وضع خارطة طريق لتقريب مُجْد- غير مُجامل ولا متملق ولا مميع- بين مختلف مكونات الأمة بإصغاء بعضها لبعض لا بالإلغاء والإقصاء،وأحسب أن توضيح معالم تلك الخارطة يقتضي الخطوات التالية. أولا:توضيح مفهوم التقريب تعاريف عديدة أعطيت لمصطلح"التقريب" فهو في رأي" فكرة اصلاحية مستقلة، قائمة على البحث الصحيح والعلم"[1]، هدفها" أن يتحد أهل الإسلام على أصول الإسلام التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها، وأن ينظروا فيما وراء ذلك نظرة من لا ينبغي الفلج والتغلب"[2].،وفي رأي ثان" عملية تفاهم وتقارب ونفي لكل العناصر التحريفية، ووضع للمسيرة على الخط الطبيعي المثري لا غير"[3].،وفي رأي ثالث" هو اتجاه داخل الإسلام، مجرد تماما من اللون الطائفي، أو الإقليمي، للتخلص من العداوة المتبادلة بين أهل المذاهب الإسلامية المختلفة، وصيانة وحدة المسلمين"[4]، وهو" محاولة لتعويد عامة أهل المذاهب الإسلامية على اختلافها كف أذى بعضهم عن بعض في السر والعلن، وتبادل حسن المعاملة في السر والعلن، والتواصل والاشتراك والتعاون في السر والعلن"[5]. ،وفي رأي رابع هو" دعوة إلى التعاون على البر والتقوى، وإصلاح أحوال المسلمين بتوجيه طاقتهم العامة وجهة واحدة، تحقق سعادة الجميع، أو تأمنه من أخطار خارجية"[6].،وفي رأي خامس هو" دعوة إلى تنقية المذاهب من الشوائب التي أثارتها العصبيات والنعرات الطائفية، وأذكتها العقلية الشعوبية"[7]. نخلص من مجموع هذه التعريفات إلى ربط مفهوم"التقريب" بالمواصفات التالية : أولا: التقريب فكرة إسلامية: تعنى التقريب بين مسلمين فرق بينهم الخلاف، فهي اتجاه داخل الإسلام. ثانيا: التقريب فكرة إصلاحية: فهي تهدف إلى إصلاح ما فسد من أحوال المسلمين، وجمع ما تشتت من شملهم، وهي استمرار لجهود من سبق من المصلحين. ثالثا:التقريب فكرة تصحيحية: لأنها تقوم على: - البحث الصحيح. - نفي كل العناصر التحريفية. - السعي للتخلص من العداوة المتبادلة بين المذاهب الإسلامية وبناء الوحدة. - تخليص المذاهب من شوائب الأنانيات والعصبيات والعداوات. ثالثا: التقريب فكرة مستقلة: يرتبط التأكيد على صفة الاستقلالية بظروف تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية بمصر، عندما رأي بعض معارضي فكرة التقريب – أو بعض من لم يفهموها- أن جماعة التقريب مؤسسة أزهرية، وأن الذي يتولى أمرها هو الذي يتصدر دعوة التقريب[8]، أو أن الفكرة كانت من ثمار زواج شاه إيران المقبور (محمد رضا بهلوي) من فوزية أخت الملك فاروق، وأن انبثاق دعوة التقريب حدث بعد صدور مرسوم ملكي[9]. إلا أن ثمة تعريفا للدكتور حسن عباس حسن يجمل الوقوف عنده لأهميته أولا، ولأنه يأتي في سياق انتقاد الأشكال التي تمت بها الدعوة إلى التقريب ثانيا،يقول "التقريب عملية مرحلية، متحفظة بطيئة لتحقيق هدف إيجابي للقضاء على الفرقة"[10]. فهو ابتداءا لا يحبذ كلمة التقريب ويفضل عليها كلمة "التقارب"[11]، ويخلص من مناقشته لبعض التعاريف إلى وسم التقريب بصفتين اثنتين: أحدها: محاولة الجمع بين متشابهين وغير متناقضين، وغير مختلفين اختلافا كبيرا على صعيد واحد. ثانيها: البحث عما تشترك فيه ظاهرتان مختلفتان لتتعايشا[12]. فالتقريب بالمعنى الأول يفضي – في رأيه- إلى الوحدة والتماسك، واجتناب الخطأ والانحراف، ويفضي بالمعنى الثاني إلى أن تفقد كل ظاهرة الكثير من خصائصها ومقوماتها، أو ظهور ظاهرة جديدة مختلفة عن سابقاتها، أو بلوغ التناقض والاختلاف بين الظاهرتين حدا يستحيل معه إيجاد المشتركات بينهما، أو استيعاب الواحدة منهما للأخرى[13]، ولما كانت عملية التقريب من جنس المعنى الأول فإنها لا يمكن أن تتم بسرعة لأسباب منها: أ- إن فكرة التقريب من الأفكار المستحدثة "لذا فإن الأفكار المستحدثة لا تنمو ولا تظهر إلا بتبنيها، ولا يمكن تبنيها بسرعة دون القناعة بجدواها"[14]. ب- ما يصدر عن العلماء والفقهاء من قرارات وليدة ظروف معينة، يضعها الأتباع والمقلدون في مكان المطلق والمقدس، فتغدو تلكم القرارات جزءا من شعائر دينية يتعين القيام بها، بينما التقريب يطلب إماتة تلك التقاليد[15]. 1- التقريب عملية متحفظة: إن الذي حمل الدكتور حسن عباس على وصف العملية بالتحفظ هو اعتقاده أن القائمين على أمر التقريب لا يرغبون في فتح صفحات الماضي والنظر فيه بعين فاحصة ناقدة، ولأن عملية التقريب لم تتم – في نظره- بمحض الإرادة والاختيار، وبناء عليه فالصحيح أن يقال "التقارب" لا التقريب لأن الأول "عملية إرادية جريئة، تتم بمحض إرادة الفرد أو الجماعة وحريتهما، دون أية ضغوط أو مؤاثرات، وتبنى على أنقاض الخوف من نبش الماضي والجمود على الوقائع (...) وتتجلى في هذا المبدأ حريات التفكير والتحرك والاندفاع"[16]، وأما الثاني فهو عملية فوقية خارجية. 2- التقريب عملية مرحلية: وصفت بالمرحلية لأن هدفها المرحلي هو "إزالة العداء أولا ثم التهيؤ لمراحل أخرى مكملة"[17]، والشاهد عنده ما قاله بعض دعاة التقريب، منهم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: "ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة الخلاف بينها، بل أقصى المراد وجل الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء أو البغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب"[18]، والعلامة محمد بن عبد الله المحامي الذي قال:"التقريب محاولة لتعويد أهل المذاهب الإسلامية على اختلافها كف أذى بعضهم عن بعض"[19]. ولي إيرادات على بعض الأفكار والإشكالات التي أثارها الدكتور حسن عباس أجملها فيما يلي: أ- لا وجه لوصف عملية التقريب بالتحفظ بعد تأكيده على أن "مهمة التقريب بين المذاهب الإسلامية هي من طراز العملية الأولى التي ستؤدي إلى تداخل العناصر المشتركة وتقويمها، وإزالة العناصر الضعيفة"[20]، فإزالة العناصر الضعيفة لن تتم بدون النظر في الماضي بنية التقويم والتطوير والتعديل. ب- من البديهيات الواضحات أن لا يتم التقريب بسرعة، لأن النزاع المذهبي بين الشيعة وأهل السنة دام قرونا طويلة، وظهرت بصماته في التراث الفقهي والكلامي والسياسي للفريقين، وهو يحتاج إلى وقت ليس باليسير لإزالة السخائم من الصدور والقلوب، ونبذ الأقوال والأفعال المضرة بالوحدة، وإلا عد الأمر ضربا من ضروب الاستعجال الذي لا يخدم قضية التقريب. ج- لا ينبغي التفريق بين اصطلاحي التقريب والتقارب على أساس الاعتقاد أن التقريب عملية فوقية خارجية، وأن التقارب عملية ذاتية اختيارية، وإنما ينبني التفريق على أساس تحقيق المصلحة وهي: إحلال التفاهم بدل التنازع، ومتى تحقق هذا الأمر فلا مشاحة في المصطلحات. د- لا تقدح المرحلية في فكرة التقريب، فما من دعوة دينية أو أرضية إلا وتقوم على الموازنة بين الأغراض البعيدة والقريبة. ولقد أفاد أحد التعاريف الآنفة الذكر معنى مهما زائدا على التعاريف الأخرى عندما اشترط أن يكون كف الأذى والمعاملة الحسنة والتعاون في حالتي السر والعلن، وفي هذا الشرط والتقييد، احتراز واضح من التقية، كما أخرج من"التقريب" معاني[21]: - التبشير بمذهب من المذاهب الإسلامية عند أهل مذهب آخر. - التقارب بين أهل الأديان المختلفة. - إضعاف ولاء المسلمين لمذاهبهم. وقصد تكريس وترسيخ المعنى الحقيقي للتقريب فقد تم الرد على بعض الشبهات التي حملت البعض على معارضة فكرة التقريب: الشبهة الأولى: التقريب يستهدف تغليب مذهب على مذهب. ممن ردد هذه الشبهة – من أهل السنة- الشيخ عبد المنعم النمر فقال: "هذا التقريب الذي أعلنه علماء الشيعة عندنا (يقصد الشيخ محمد تقي القمي) وظل عشرات السنين يردده، ولم يتقدم خطوة، ولم تر منه إلا محاولات لتشييع علماء السنة، وجرهم إلى مذهبه، وكسبه تنازلات منهم باسم التقريب"[22]، ورددها من الشيعة مير أحمد روضاتي، إذ اعتبر الهدف من التقريب هو جر الشيعة إلى مزالق التسنن[23]. الشبهة الثانية: التقريب ينشد إدماج المذاهب. الشبهة الثالثة: التقريب ينشد إلغاء المذاهب. الشبهة الرابعة: التقريب ينشد رفع الخلاف كليا بين المذاهب. لقد وصف الشيخ محمد تقي القمي فريقا ممن لم يفهموا فكرة التقريب بالمتزمتين الذين "من دأبهم أن ينفروا مما لم يألفوا (...) كما أن من دأبهم أن يتلمسوا الأوهام في المعارضة إذا لم تسعف الحقائق"[24]، والذين "يصرون إصرارا عجيبا على أن التقريب محاولة لإدماج مذهب في مذهب، أو تغليب مذهب على مذهب"[25]، والحقيقة "أن كل صوت من أصوات التقريب، وكل نشاط يصدر عن التقريب ينادي بغير ذلك"[26]. ويعتقد الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء أن التقريب سيكون بدون جدوى إذا كان هدفه رفع الخلاف نهائيا بين المذاهب الإسلامية، أو جعلها مذهبا إسلاميا واحدا، لأن الخلاف طبيعة ارتكازية في البشر على حد عبارته[27]، ولكن الهدف "هو معرفة المسلمين بفكرهم الأصيل دون لبس أو غموض"[28]. وواطأ الشيخ آل كاشف الغطاء على رأيه الشيخ محمد جواد مغنية، فأشارا إلى "سذاجة الذين يدعون إلى توحيد الأقوال والآراء بين السنة والشيعة، ذاهلين عن أن الاختلاف في الرأي ضرورة يفرضها واقع الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو سني أو شيعي"[29]، وبما يقارب هذا الرأي قال الدكتور مصطفى الرافعي[30] الذي حدد هدف التقريب في "أن يكون الجميع سنة يأخذون بها متى تأكدوا من صحتها (...) وأن يكون الجميع شيعة يجلون أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم-"[31]، ودعا الدكتور حسن عباس إلى إدماج المذاهب الإسلامية ذلك الإدماج الذي يتنزل على معنى "توفير القنوات من الآراء الاجتهادية والاتجاهات والأصول الفكرية"[32] لا على معنى "إيجاد مذهب اجتهادي معين من مجموعها"[33]. وذكر الشيخ محمد أبو زهرة ثلاثة أسباب لرفضه محو المذهبية أو إدماج المذاهب[34]: الأول: إدماج المذاهب ليس عملا علميا ولن يحقق أية فائدة. الثاني: كل إدماج فيه إفناء، وليس من المصلحة إفناء أي أثر فكري. الثالث: إدماج المذاهب ضرب من المحال "لأن الاتفاق في الفروع الفقهية كلها على رأي واحد غير ممكن، بل هو من قبيل المستحيل"[35]. إن التعاريف التي سلف سردها تشترك في التأكيد على أن هدف التقريب المرحلي هو إحلال الإخاء والتآلف والتعاون والتفاهم بين الشيعة وأهل السنة محل العداوة والخصام والتنازع، وعلى أن الاختلاف بينهما أصبح جزءا من الواقع، يستحيل رفعه بكلمة أو جرة قلم، وعلى عدم صحة إدماج المذاهب أو إلغائها أو تغليب أحدها على الآخر. أحسب أن دعوة التقريب تحتاج إلى الحزم والعزم وتحري الحكمة ومراعاة المصلحة حتى لا تقضي الدعوة جزءا كبيرا من عمرها في التملق والمجاملة، فالسعي إلى التقريب هو – قبل كل شيء- استجابة لأمر الله تعالى: ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾[36] ومتى رأى الله سبحانه من دعاة التقريب ودعاة الإصلاح الإرادة القوية والخالصة جعل التوفيق حليفهم ﴿أن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما﴾[37]. إلا أن تلك الإرادة تقتضي تشييد القواعد النفسية والفكرية للمصالحة،بما يؤدي إلى بروز "ثقافة التقريب". ثانيا: تمثل ثقافة التقريب تنبني ثقافة التقريب على مضامين ثلاثة: المضمون الأول: البواعث الإيمانية. المضمون الثاني: الفهم السليم لظاهرة الاختلاف. المضمون الثالث: البعد عن التعصب. البواعث الإيمانية 1- تُشكل البواعث الإيمانية الرافعة الضرورية لأي نهضة من أجل الوحدة والعدالة والمستقبل، وتتأسس تلك البواعث على الاعتصام بحبل الله تعالى امتثالا لأمره الكريم: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾[38]، وقد نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن مسببات التهاجر الواقع اليوم بين المسلمين، والذي تجاوز الثلاثة أيام بقرون مديدة !، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"[39]، وتزخر جوامع الحديث عند الشيعة وأهل السنة بمثل هذه الروايات التي ترغب المسلم في بذل المعروف، وكف الأذى، وإصلاح ذات البين، وصبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وتنهاه عن السعي إلى تفريق شمل المسلمين، أو سبهم وقتالهم، وتحذره سوء المصير عند قيام الناس لرب العالمين: أ- روى الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"[40]، وفي حديث آخر: "إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم، وأعراضكم"[41]، وفي حديث آخر: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"[42]، وفي حديث آخر: "أي رجل قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما"[43]، وفي حديث آخر: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[44]، وفي حديث آخر: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا، بلى: قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة"[45]. ب- روى الكليني عن جعفر الصادق أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث لا يغل عليهن فلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، والمسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم"[46]، وعن محمد بن علي الباقر عن الإمام علي قال: "إن المتواصلين المتباذلين مأجورون، وإن المتقاطعين المتدابرين موزورون"[47]، وعن جابر بن عبد الله عن محمد بن علي الباقر قال: قال لي (الباقر): يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث"[48]. وعن جعفر الصادق قال: "يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة"[49]، و روى عن الرسول – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا أن في التباغض الحالقة، لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين"[50]. 2- هذه النقول وغيرها تحث الجميع على التفتيش عن معوقات التقارب والتآلف في أعماق نفوسهم وقلوبهم قبل كل شيء، وإلى هذا المعنى أشار الإمام علي – كرم الله وجهه- عندما أرشد المسلمين إلى الاعتبار بحال من كان قبلهم لما كانت "الأملاء مجتمعة، والأهواء متفقة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واجدة"[51]، فكان المسلمون "أربابا في أقطار الأرضين، وملوكا على رقاب العالمين"[52]، ثم يتحسر على ما صار إليه أمرهم لما "وقعت الفرقة، وتشتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته"[53]، فدلهم الإمام على أن اختلاف القلوب يفضي إلى اختلاف الكلمة، ومن تم ليس عيبا الحكم على كل سلوك يخالف مقتضيات تلك النقول بأنه ضرب من التقية أو النفاق أو الجهل أو التعصب،وليس من المقبول شرعا ولا طبعا ولا عقلا أن يحمل الكثير من الشيعة النصوص الداعية إلى الحوار وحسن الجوار مع المخالفين"العامة" على التقية،وحمل الروايات الطافحة باللغة الحربية والصدامية على الحقيقة الابتدائية،كما ليس من المقبول أن يحمل أقوام من أهل السنة كل دعوات الشيعة أو المتشيعين للتقريب على التقية،لأنهم بذلك يحشرون الداعين في الزاوية،فيتصورون أن البديل هو الدفاع عن معتقداتهم – الصحيح منها والخاطئ- بكل عنف وشراسة. 3- أهمية الجانب التربوي في التقريب بين الشيعة وأهل السنة – ومذاهب المسلمين عموما- جعلت الكثيرين يعتقدون أن "المسألة المذهبية تخضع للجانب الشعوري في حركتها داخل النفس أكثر من خضوعها للجانب الفكري"[54]، فاعتبر الدكتور عرسان كيلاني الخطوة الأولى نحو التقريب والوحدة هي التربية[55]،وأبرز مؤسسات التربية المعاصرة في بلاد المسلمين قد أضعفت من رباط الولاية الذي كان يربط بين المسلمين في صدر الإسلام، فظهرت "أجيال ارتدت إلى محاور الولاء القومي، أو الشعوبي، ثم إلى محاور الولاء الإقليمي، ثم إلى محاور الولاء القبلي، فالإنسان الحاضر في بلاد الإسلام يتحدد محور ولائه بحدود قبيلته، وليس لديه مفهوم واضح عما يعنيه الولاء للأمة المسلمة الواحدة"[56]. الفهم السليم لظاهرة الاختلاف نُسبق الحديث عن الظاهرة بذكر هذه المقدمات: 1- الاختلاف آية من آيات الله عز وجل ﴿ومن آياته خلق السموات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾[57]. 2- الاختلاف طبيعة متأصلة في البشر ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾[58]. 3- الحديث المشهور "اختلاف أمتي رحمة" ضعفه ورده غير واحد من العلماء: أ- عزا السخاوي روايته إلى الإمام البيهقي في المدخل من حديث سليمان بن ابي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :"مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن في سنتي مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة"[59]، قال الإمام السخاوي: "جويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع"[60]،ثم أفاد أن كثيرا من الأئمة – لم يذكرهم- يعتقدون عدم وجود أصل له، ورأى في ذكر الإمام الخطابي للحديث إشعارا بوجود أصل له[61]. ب- ممن اعتقد عدم وجود أصل للحديث المذكور الإمام الزيدي صالح المقبلي فقال: "والعجب ممن يقول الاختلاف رحمة وبيان الكتاب والسنة، ولو صح لما قبل لأنه صادم القطعيات"[62]. ج- ورد ابن حزم الحديث "لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط"[63]، أما في قوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾[64]، فقد حكم ابن حزم بالفساد على رأي من ظن أن الآية تعني وللرحمة خلقهم قاصدا بذلك استباحة الاختلاف، فالصحيح عنده (ابن حزم) أن الله تعالى "استثنى من رحم من جملة المختلفين، وأخرج المرحومين من جملة المختلفين وعديدهم"[65]، وعن مجاهد: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ قال: أهل الباطل، ﴿إلا من رحم ربك﴾ قال: أهل الحق ليس بينهم اختلاف"[66]،وعلق ابن عبر البر على تفسير مجاهد فقال: "الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله"[67]. ولأبي سليمان الخطابي تفصيل في المسألة، إذ قسم الاختلاف في الدين إلى ثلاثة أنواع[68]: الأول: في إثبات الخالق ووحدانيته، وإنكاره كفر. الثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارهما بدعة. الثالث: في أحكام الفروع "فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة"[69]. 4- وتنسب الشيعة رواية هذا الحديث إلى بعض الأئمة، فنسب أسد الله الكاظمي روايته إلى الإمام موسى الكاظم[70]، إلا انه يقع تأويله بخلاف المتبادر إلى الذهن من ظاهره: "ففي علل الشرائع انه قيل للإمام جعفر بن محمد الصادق: إن قوما يروون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: اختلاف أمتي رحمة، قال: صدقوا: فقيل: إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل: ﴿فلولا نفر ن كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾[71]، واختلاف أهل البلدان إلى نبيهم، ثم من عنده إلى بلادهم رحمة، ومثله في معاني الأخبار للصدوق وفيه: إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافهم في دين الله، إنما الدين واحد"[72]. 5- إذا كانت هذه النقول لا تذهب إلى إباحة الاختلاف – نظريا على أقل تقدير- فلا احد ينكر أن الاختلاف قد حدث ووقع. ولقد ذكر ابن حزم عشرة أسباب لوقوع الاختلاف في الأحكام والفتيا[73]: أولها: ألا يبلغ العالم الخبر، فيفتي فيه بنص آخر بلغه. ثانيها: أن لا يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ وأنه وهم. ثالثها: أن يقع في نفسه أنه منسوخ. رابعها: أن يغلب نصا على نص لأنه أحوط. خامسها: أن يغلب نصا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالته. سادسها: أن يغلب نصا لم يصح على نص صحيح وهو لا يعلم بفساد الذي غلب. سابعها: أن يخصص عموما بظنه. ثامنها: أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به، ويترك الذي يثبت تخصيصه. تاسعها: أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنه بغير برهان. عاشرها: أن يترك نصا صحيحا لقول صاحب بلغه، فيظن انه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده. وبما يقرب من هذه الأسباب اعتذر ابن تيمية لوقوع الاختلاف بين العلماء في رسالته المشهورة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)[74]. وذكر الكاظمي من أسباب الاختلاف بين الشيعة[75]: أولا: اشتداد التقية. ثانيا: قلة الحاملين الحافظين لعلوم الأئمة. ثالثا: كثرة الكذابين في الرواية على الأئمة وأصحابهم. رابعا: عدم انقياد بعض الأئمة واستقلالهم بآرائهم، ويضيف الدكتور حسن عباس إلى هذه الأسباب أسبابا أخرى عمقت الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة منها: التعصب، والمستشرقون، والاستعمار، واختلاف آراء المتكلمين[76]. 6- مما يستوقف المرء ورود بعض الروايات – عند الشيعة- ترغب في مخالفة العامة (والمقصود الأول بهذا اللفظ هم أهل السنة)، مما يحول دون حصول فهم سليم لظاهرة الاختلاف، من تلك الروايات ما يرويه الكليني عن جعفر الصادق أنه قال: "ما خالف العامة ففيه الرشاد"[77]، وبرغم توضيح الشيخ محمد تقي الحكيم بأن "المراد بالعامة هنا أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام، ويبررون لهم جملة تصرفاتهم، وليس المراد بالعامة أولئك الأئمة الذين عرفوا بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم"[78]، فإن ذلك التوضيح لا تسلم به جل الروايات الواردة في الدواوين الحديثية للشيعة.وتكفل الأستاذ عادل العلوي بتوضيح المقصود برشاد، فحصر دائرة الرشد في مقام العمل الفردي وفي العبادات، "وأما في مقام المعاشرة والتعايش، فناهيك الروايات الكثيرة التي تأمرنا أن نحسن المعاشرة معهم ونعيش"[79]، ومن تلك الروايات ما يرويه الكليني عن محمد بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس (المخالفين للمذهب)، فقال: تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم"[80]،وعن أبي حمزة عن محمد بن علي الباقر قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون، ويقذفون من خالفهم، فقال لي: الكف عنهم أجمل"[81]. 7- لابن تيمية نظرات دقيقة وعميقة في ظاهرة الاختلاف، أقتصر منها على ذكر رأيه في أنواع الاختلاف، إذ يقسمه إلى نوعين: اختلاف تنوع واختلاف تضاد. أ- اختلاف التنوع: يقع على أضرب[82]: أولا: ما يكون فيه كل واحد من القولين أو الفعلين حقا ومشروعا. ثانيا: ما يكون كل من القولين في معنى القول الآخر، لكن العبارتين مختلفتين. ثالثا: ما يكون فيه المعنيان مختلفين، ولكنهما لا يتنافيان فكلاهما صحيح. رابعا: ما يكون طريقتان مشروعتان، كل واحد من المختلفين قد سلك واحدة يشهد الدين لكلتيهما بالحسن لكن الظلم أو الجهل على ذم أحدهما وحده "بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا بينة"[83]. ب- اختلاف التضاد: يعرفه ابن تيمية بقوله: "القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد، وإلا فمن قال: كل مجتهد مصيب، فعنده من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد"[84]، ثم يلفت النظر إلى أن أكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء وسفك الدماء واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء بين الناس هو من القسم الأول (اختلاف التضاد)، لأن إحدى الفرقتين لا تعترف بما مع الأخرى من الحق[85]، والمفضي إلى كل هذا هو التعصب. البعد عن التعصب 1-إن من إخلاص الدين لله جل وعلا التجرد من كل تعصب لأن فيه حظ النفس، يقول تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾[86]، وقد أجاد الشيخ محمود شلتوت في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾[87] فقال :"يشمل الأمر بالتجرد عن كل هوى من شأنه أن يخل بتقوى الله حيث يتجه المرء إلى محراب العلم ملتمسا أن يفيض الله عليه من نفحاته، إن المتقي لله في مقام ابتغاء العلم ذلك الذي لا تأخذه عصبية، ولا تسيطر عليه مذهبية، ولا ينظر يمينا ولا شمالا دون قصده"[88]. لقد حذر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من الدعوة إلى العصبية أو الغضب لعصبية، فيروي الإمام النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: من قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتل جاهلية"[89]، قال الشارح (السيوطي): "أي كما يموت أهل الجاهلية من الضلال والفرقة"[90]. وروى الكليني عن جعفر الصادق قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"[91]، وعن زين العابدين علي بن الحسين قال: "العصبية التي يأثم صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية لأن يحب الرجل قومه، ولكن العصبية أن يعين قومه على الظلم"[92]. وورد في (نهج البلاغة) قول الإمام علي: "ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط (تلصق) بعقول السفهاء"[93]، وإن كان لا مفر من العصبية فلتكن "لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور (...) من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلاف، والكظم للغيض، واجتناب الفساد في الأرض"[94]. 2- يضع الدكتور معتز سيد عبد الله بين أيدينا خلاصة تجربة بشرية، وحكمة إنسانية عند الغرب – والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها- في سياق بسطه للحديث عن ظاهرة التعصب وسبل مكافحتها في كتابه القيم (الاتجاهات التعصبية)[95]، نجمل الخطوط العريضة لتلك الخلاصة في النقط التالية: أ- في البداية يعرف الدكتور معتز التعصب بتعريف بعض علماء النفس الغربيين، فالتعصب عند أحدهم هو "اتجاه يجعل صاحبه يفكر ويشعر ويسلك طرقا مفضلة أو غير مفضلة نحو جماعة من الأشخاص، أو أعضائها الأفراد"[96]، وعند آخر هو "اتجاه يتسم بعم التفضيل نحو موضوع معين، فينطوي على مجموعة من القوالب النمطية شديدة العمومية من الصعب تغييره، بعد توفر المعلومات المخالفة له"[97]، والقالب النمطي هو " تصور يتسم بالتصلب والتسلط المفرط عن جماعة معينة، يتم في ضوئه وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الجماعة بناء على مجموعة من الخصائص المميزة لها"[98]. ب- تتعدد سلوكات المتعصب حيال المخالفين وأفراد الجماعات الأخرى على النحو التالي: "1-الامتناع عن التعبير اللفظي خارج حدود الجماعة الداخلية، وهي درجة قليلة من التعصب، لا يوجد خلالها أذى للجماعات الخارجية بشكل صريح. 2- التجنب: عندما يشتد التعصب يؤدي بصاحبه إلى تجنب أعضاء الجماعات الخارجية موضوع الكراهية. 3- التمييز: وتعد هذه المرحلة بداية أشكال التمييز الضارة من النوع الفعال، حين يأخذ صاحب التعصب على عاتقه السعي إلى منع أعضاء الجماعات الخارجية من الحصول على التسهيلات والامتيازات التي يتمتع بها الآخرون. 4- الهجوم الجسماني. 5- الإبادة: وهذه هي المرحلة النهائية للعداوة والكراهية بين الجماعات"[99]. أما المتعصبون من الشيعة وأهل السنة فلا يهنأ لهم بال حتى يضيفوا إلى هذه السلوكات الحكم بخلود المخالف في نار الجحيم. ويدلي الدكتور معتز بعدة اقتراحات لمواجهة آفة التعصب منها[100]: أولا: مواجهة التعصب من خلال وسائل التخاطب الجماهيري. ثانيا: البرامج التربوية. ثالثا: النصح والإرشاد. رابعا: العلاج النفسي للأشخاص المتعصبين. خامسا: الوقاية من الاتجاهات التعصبية خلال عملية التنشئة الاجتماعية. سادسا: ربط الصلات بين الجماعات المختلفة، مما يساعد على "تخفيف حدة القوالب النمطية، والاعتقادات الخاطئة، والعمل على تغييرها، وأن التقارب والتفاعل يزيدان من المودة والمحبة"[101]. لقد أصبحت عملية التقريب بين الثقافات والعقائد والتصورات المختلفة والمتصارعة، وتلمس القواسم المشتركة بينها علما قائما له أساليبه وتقنياته ومضامينه في عالمنا، ويقربنا الدكتور حسن محمد وجيه من هذا العلم الذي يمكن لدعوة التقريب بين الشيعة وأهل السنة أن تستفيد منه لتنفتح على آفاق جديدة ورحبة. عرف (علم التفاوض) بالقول: "هو ذلك العلم الذي يهدف من خلاله إلى التعرف على أفضل وسائل تكوين الأرضيات المشتركة، والتفاهم الفعال بين بني البشر، رغم اختلافاتهم وثقافتهم وعقائدهم، إنه العلم الذي نحاول من خلاله تجنب تفجير الصراعات والجدل العقيم الذي يستنفد الوقت والجهد البشري في غير الصالح العام، ولا يتناسب حاليا مع سرعة إيقاع العصر ومتطلباته على جميع الأصعدة[102]، ويؤكد على أن أسباب العداء والخصام بين الأفراد والجماعات ترجع في أغلبها إلى "عدم وضوح ولبس الرسائل بين مرسلها ومستقبلها والعكس (...) وسوء فهم لطبيعة ديناميكيات الحوار في المقام الأول"[103]. ويوجز في خمس عشرة نقطة أهم الأسس التي تبنى عليها "ثقافة التفاوض": 1- التركيز على المشاكل مع عدم التعرض للأشخاص بأي شكل من أشكال التشويه. 2- الاستماع الجيد للآخرين. 3- الاستخدام السليم للحجج لإنجاح التفاوض لا لإفحام الخصم، وإدراك وظائف الصمت في الحوار، والاستثمار الجيد للوقت، والعلم باختلاف تقاليد الحوار. 4- اجتناب أساليب المغالطات، والاعتراف بالخطأ وعدم الإصرار عليه. 5- اجتناب الانطواء على النفس، والخوف من المواجهة الإيجابية مع الآخرين. 6- انتهاج مبدأ "تحقيق الممكن"، وتجنب "السقوط في الحب النظري للكمال" مما يفوت فرصة تحقيق الأهداف العادية والممكنة. 7- تجنب التفكير الأحادي لأنه يجعل المتحاور سجين فكرة واحدة دون النظر إلى منظومة الأفكار الأخرى. 8- تحديد المسائل التي يمكن التفاوض بشأنها. 9- تحديد أولويات التفاوض. 10- تقييم الموقف التفاوضي دائما. 11- تجنب سوء الظن بالآخرين، والتفسير التآمري لسلوكاتهم. 12- إدراك أهمية الأسئلة واستثمارها لإنجاح التفاوض. 13- مراعاة أسلوب الملاءمة للسياق. 14- مراعاة كم المعلومات التي يلقى بها على مائدة الحوار. 15- أهمية توثيق أحداث في المجالات المختلفة، ومقارنتها بالأهداف عند بدء الدخول للتفاوض"[104]. تتعدد المعابر إلى نشر ثقافة التقريب بمضامينها الثلاث (البواعث الإيمانية وتفهم ظاهرة الاختلاف ونبذ التعصب) إلا أن ثمة معبران يكتسيان أهمية وخطورة وهما: الكتب المدرسية والإعلام. فالكتب المدرسية من وسائل ومصادر المعرفة والتعليم والتأثير المهمة والواسعة الانتشار، لذلك كثيرا ما تلجأ إليها الدول والحكومات والمنظمات والهيئات السياسية والحزبية والعقائدية[105]، ويفترض في القائمين على تأليف هذه الكتب أن يسعوا إلى تمكين الناشئة من الحصانة اللازمة ضد كل أصناف الفرقة والانحراف والتحريف ، ولا خير يرجى من تلك الكتب إن هي شحنت بمضامين تعمق الخلافات التاريخية وتحييها، وتولد التمزقات والانفصامات في شعور وتفكير وسلوك أطفال أبرياء لم تكتمل لديهم آليات النقد والافتحاص والتحليل،وإذا كانت الكتب المدرسية محدودة التأثير لتعاملها مع فئة محدودة ذات مستوى عمري متقارب هي فئة الأطفال والتلاميذ، فإن الإعلام واسع الانتشار والتأثير، يجدر الاهتمام به لتعميم ثقافة التقريب وتكوين رجال ونساء فوق الانتماء التعصبي. خلاصة القول:لا تقريب بدون تصحيح في السياقات الثلاث التي أتينا على ذكرها:النقل والعقل والعواطف على التفصيل الذي سلف في المقالات،وهي سياقات شرطية بدونها يغدو التقريب حرثا في الماء أو محاولة للإمساك بالهواء. أنقر هنا لتحميل مقالة الدكتور زقاقي مرفوقة بهوامشها (نسخة Word)