حقق المغرب منذ استقلاله تقدما ملحوظا في مختلف الميادين، وهو يعرف تنمية أكيدة. غير أن هذه الأخيرة، لم ترق بعد إلى المستوى الذي يأمله كل مواطن لبلده، ولم تستفد منها كافة شرائح المجتمع المغربي، بحيث أن من بينها من لازال يعيش في عوز، لا تستفيد من فرص التربية والتكوين، ولا تتوفر على مصدر للرزق، وأخرى مهمشة ومحرومة من خدمات التجهيزات الضرورية للحياة اليومية كالطرق، والماء، والمستشفى... وهو حال مناطق كثيرة من المجال القروي ببلادنا. فقد جرب المغرب كغيره من دول العالم الثالث، عدة اختيارات اقتصادية والاجتماعية، تراوحت بين الاعتماد على تدخل الدولة المباشر، أو غير المباشر في بعض الأحيان، وعلى الخيار الليبرالي في أحيان أخرى. لكن سواء في حالة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي أو في حالة اتباع سياسة أكثر ليبرالية، فإن الثابت في الحالتين هو الاعتماد المتزايد على مصادر التمويل الخارجي[1]. أثر هذا التمويل على مسار التنمية الاقتصادية ببلادنا، من خلال فرض الجهات الدائنة لبرامج وتوصيات اقتصادية تعتمد على تحرير الاقتصاد، والانفتاح على الرأسمال الأجنبي، وتراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية... وغدا الهم الأول للدولة هو تأمين سداد الديون وخدمة الدين الخارجي. وهكذا، تعتبر المرحلة الممتدة من الاستقلال إلى سنة 1982 بمثابة " مرحلة مخاض بالنسبة لبناء النموذج الوطني للتنمية."[2] حيث لم يتمكن المغرب من إقامة اقتصاد قوي، يساير متطلبات الشرائح الاجتماعية التي عانت من تهميش المستعمر الفرنسي، رغم كثرة المخططات الاقتصادية التي تم وضعها والتي غالبا ما كانت تعجز عن تحقيق الأهداف المسطرة لها من جهة، ومن جهة أخرى لاشتداد التناحر السياسي على السلطة، وتأثير التغيرات الدولية لاسيما في المجال الاقتصادي من حيث ارتفاع أسعار الطاقة، وتراجع سعر الفوسفاط بعد الأزمة البترولية لسنة 1976، دون أن يعمل المغرب على إدخال تعديلات مناسبة في برنامج الاستثمار، تراعي المستجدات الدولية. وقد انتهت سياسة التنمية في ظل هذه الظروف بحدوث عجز كبير في الميزانية، زاد من حدة المشاكل الاجتماعية خصوصا في مجال التشغيل وتوزيع الدخل. لتبدأ مرحلة أخرى من تاريخ الاقتصاد المغربي تقوم على أساس الأخذ بنصائح المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي، ونادي باريس للدول الدائنة... التي أوصته بالاعتماد على التمويلات الخارجية من أجل تمويل العجز الحاصل في الميزانية، والتي ستفرض على المغرب القيام بإصلاحات اقتصادية متمثلة في برنامج التقويم الهيكلي، كشرط للحصول على القروض. لكن، وباسم سياسة التقويم الهيكلي، أخذت الجهات الدائنة توجه السياسات الاقتصادية للمغرب، بواسطة منحه قروضا ضخمة لقاء شروط مسبقة أكثر مساسا باستقلاله الاقتصادي. وهكذا، قامت الجهات الدائنة بتوجيه المغرب اقتصاديا، بواسطة تدابير عديدة من أجل تحقيق "الازدهار الاقتصادي" على حد تعبيرها. ولعل أهم هذه التدابير: تحرير الأثمان، و إلغاء دعم الدولة للمواد الأساسية، وتجميد أو تخفيض الأجور لتشجيع المقاولين، وتحرير الواردات لإقصاء المقاولات المحلية غير الفعالة، وتخفيض العملات، وإضعاف القوانين التي تضيق على تحويل الأرباح والاستثمارات إلى الخارج.[3] إن اعتماد المغرب على وصفة البنك الدولي وغيره، لم تؤد إلى تصحيح الأوضاع الاقتصادية، بل على العكس زادت من تفاقمها، كما أن إعادة الجدولة ومساعدة المغرب على سداد ديونه، إنما هي مسكن لمرض المديونية المزمن، والتي سترتفع بعد إضافة المزيد من الفوائد. حيث انتقلت مديونية المغرب الخارجية من حوالي 13 مليار دولار سنة 1983 إلى حوالي 21 مليار دولار سنة 1994[4]، لتصل حاليا إلى حوالي 20 مليار دولار. وأمام عجز المغرب عن تسديد فواتير مديونيته وفوائدها، سيتابع سياسة البحث عن منافذ للتخفيف من وطأة نذرة الموارد المالية، وثقل المديونية الخارجية. وهكذا، سيلجأ إلى طلب مساعدة مالية جديدة من صندوق النقد الدولي، الذي سيفرض على المغرب الاستمرار في سياسة التقويم الهيكلية رغم نتائجها السلبية، وذلك بتحرير التجارة وخوصصة المؤسسات العمومية... كوسيلة لتحرير الاقتصاد والانفتاح على الرساميل الأجنبية وتنشيط السوق المالي. وقد تزامن مسلسل تطبيق الخوصصة في المغرب مع ظرفية اقتصادية جد صعبة، اتسمت بوجود نسبة عالية من البطالة مست مختلف الشرائح الاجتماعية والمهنية، بما في ذلك حملة الشواهد العليا، ووضعية مالية هشة، وتدني الخدمات الاجتماعية نتيجة تخلي الدولة عن التزاماتها اتجاه القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم... وهكذا تمت المراهنة على الخوصصة كأداة لمواجهة معضلة المديونية ولمواجهة الاختلال المالي للخزينة العامة، من خلال تحديث ودعم الاقتصاد الوطني، وخلق فرص الشغل... إلا أن الممارسة المغربية في إطار الخوصصة جاءت عكس الأهداف المعلن عنها وأظهرت هفوات كبيرة، ذلك أن عملية تفويت القطاع العام للقطاع الخاص لم تراع دائما المصلحة العامة، سواء على مستوى: - الثمن الحقيقي للمنشأة العامة المراد تفويتها مقارنة مع الثمن المفوت به، كحالة فندق حسان بالرباط، وفندق المرينيين بفاس، اللذان تم تفويتهما بأثمنة زهيدة لا تعادل نصف القيمة العقارية لأرض الفندقين[5]؛ - كان الخطاب المدافع عن الخوصصة، في البداية، يوحي بأن الأمر يقتصر على تصفية بعض المقاولات العمومية التي تعاني من العجز، ومقبلة على الإفلاس. لكن سرعان ما تبين مع انطلاق العمليات الأولى للخوصصة، أن المقاولات العمومية الناجحة التي تحقق أرباحا مهمة، وتشغل عددا كبيرا من اليد العاملة هي التي تباع للخواص، مغاربة كانوا أو أجانب، كحالة بيع اتصالات المغرب. بينما يتم تأميم المقاولات الخاصة التي تعاني من العجز لمساندتها بواسطة الضرائب غير المباشرة التي يدفعها المواطن، كحالة القناة الثانية؛ - أما على مستوى التشغيل، فقد رافق برنامج الخوصصة فقدان العديد من فرص الشغل، وتشريد أسر كثيرة. فرغم حرص قانون الخوصصة على إلزام الخواص الذين فوتت لهم منشآت الدولة بالحفاظ على نفس العمال، يتم تسجيل حالات طرد وتسريح لليد العاملة، كحالة تفكيك مكتب التسويق والاستيراد سنة1987، إذ تم تسريح 800 مستخدم بعد إقفال مكاتبه بالخارج[6]، وملف شركة الصناعة القطنية بوادي زم المخوصصة سنة 1995، حيث أصبح ما يزيد عن 1000 عائلة[7]، تعيش تحت طائلة العوز والفقر، والحالات كثيرة... إن الجلي للعيان هو أن هذه السياسات لم تكن سياسات " للتنمية المستديمة" كما يدعي ذلك منظرو النظام العالمي، وإنما كانت سياسات لتحقيق بعض التوازنات المالية من أجل إدماج دول الجنوب ومن بينها المغرب في التقسيم الدولي للعمل المجحف في حق هذه البلدان والمستنزف لخيراتها[8]. وخير دليل على ذلك، هو ماجاءت به تقارير البنك الدولي التي وصفت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب بالمقلقة. وقد أتت هذه التقارير بمعطيات وأرقام مخيفة تنذر بأزمة حقيقية، كانت أشبه ما تكون بقرب حدوث ״ السكتة القلبية ״ بالنسبة لأغلب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. هذا، وإن إصدار البنك الدولي لهاته التقارير الخطيرة حول وضعية المغرب هو اعتراف بأن ما أملاه المسؤولون بهذا البنك على المغرب طيلة هذه السنين كان خاطئا. إلا أنه من غير المنطقي أن نحمل عجز المغرب عن تحقيق تنمية اقتصادية، قادرة على المنافسة وكفيلة بإنعاش التشغيل، وتحسين ظروف عيش المواطنين... إلى ضغوطات البنك الدولي وتوصياته فقط، بل إن معيقات التنمية الاقتصادية ببلادنا كثيرة ومتداخلة، يمكن تلخيص بعضها في: ثقل المساطر الإدارية، ارتفاع كلفة التمويل، صعوبة إبراز الحقوق القانونية و التمسك بها ) وضع القضاء(،ارتفاع مستوى الضرائب، ضعف البنيات التحتية...[9] ، إلى غير ذلك من العوامل التي تشكل عائقا أمام تطور المقاولات ونموها، كالفساد المالي والرشوة وغياب روح المواطنة الصادقة التي تسعى لخدمة البلد وتنميته... عموما، إذا كانت السياسات الاقتصادية المتبعة منذ بداية الثمانينات بصفة خاصة، قد مكنت من تدارك الاختلالات المالية نسبيا، فإنها لم تمكن الاقتصاد المغربي من دينامية جديدة، عبر تسريع وتيرة النمو والرفع من الاستثمار و توفير فرص أكبر للشغل. فقد كان وقع هذه السياسات سلبيا على التوازنات الاجتماعية، حيث تراجع التمويل العمومي للخدمات الاجتماعية والأساسية، خصوصا، في ميدان التعليم والصحة، وكان وقعها أشد على قطاع التشغيل الذي عانى من تقليص التوظيفات العمومية والخاصة. لتجاوز الوضعية الحالية يتعين أن تعطى للسياسة الاقتصادية مسحة مغربية، مبنية على مبدأ التوزيع العادل للثروات بين مختلف شرائح المجتمع المغربي، لتقوية التماسك الاجتماعي، والعمل على إذكاء روح البحث العلمي الجيد المنطلق من واقعنا، وإمكانياتنا والمطعم بذاتيتنا المغربية، دون الانبطاح الأعمى أمام النظريات المستوردة وإعمال الحلول الجاهزة. كما يجب تعبئة الموارد المالية بشكل عقلاني من خلال ترشيد النفقات، وربط المشاريع والبرامج المعلن عنها بالعامل الزمني، بمعنى أن تسود في مجتمعنا ثقافة المراقبة والتقييم حتى يتم تتبع ومحاسبة المسؤولين عن البرامج الساهرين عليها، والحرص على متابعة العابثين والناهبين للمال العام، وتحريك الطاقات الوطنية وتحفيزها على المساهمة في بناء مغرب قوي قادر على مواجهة التحديات المستقبلية. *باحث في الجغرافية البشرية [email protected] **** [1] - عبد السلام أديب)1999(: تراجع دور الدولة المغربية في التنمية. جريدة المستقل، عدد: 269. 25-31 مارس. [2]- المغرب الممكن(2006): إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك. 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025. مطبعة دار النشر المغربية، ص:137. [3] - أمينة لمقدم(2004): وهم التنمية إلى أين ؟.مجلة المنعطف، عدد مزدوج 23-24، ص: 58. [4]- عبد السلام أديب(1998): السياسة الضريبية واستراتيجية التنمية. مطابع أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، ص: 38. 5] - عبد الفتاح برغوت(1998): ملف الخوصصة أمام القضاء. جريدة العلم. 24 شتنبر، عدد: 17660. [6] - محمد السوعلي(1995): الخوصصة والشغل. جريدة الاتحاد الاشتراكي. 26 يوليوز. [7] - عبد الفتاح برغوت(1998): نفس المرجع السابق. [8] - أمينة لمقدم(2004): نفس المرجع السابق. ص: 58. [9] - منجي زنيبر(1998): تنافسية الاقتصاد المغربي من خلال تقارير مرصد التنافسية الدولية للاقتصاد المغربي. مجلة شؤون مغربية، عدد: 20، مارس ، ص: 38.