ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الخميسات.. إيقاف شخص في حالة سكر هدّد بارتكاب جناية وتعريض حياة المواطنين للخطر    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    إفريقيا تنتقد ضعف التمويل المناخي    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    فدرالية أطباء الطب العام بشمال المغرب تعقد المؤتمر الثاني للطب العام    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ عامة        انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران        الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تخلف التدبير العمومي للفعل الاحتجاجي
نشر في هسبريس يوم 15 - 02 - 2016

أحداث القمع الرهيبة التي جرت مؤخرا في حق الأساتذة المتمرنين، و أمثالها مما يحدث بانتظام، لا تبقي مجالا للحكمة و لا للثقة و لا للشعور بالأمن. إنها تهدم في لحظات بنى نفسية و اجتماعية استغرق بناؤها أوقاتا طويلة و بذلت فيها طاقات عظيمة، لا يدركها منطق حامل الهراوة، و ليس من شأنه أن يفهمها. و إن الذي كلفه بمعالجة هذه التظاهرات هو من يتحمل وزرها و ينبغي أن يحاسب على ذلك، إن لم يكن اليوم فسيكون غدا عندما يفوت الأوان.
لقد اصطلح المغاربة على تسمية فترة حكم جلالة الملك محمد السادس بالعهد الجديد. قبلوا هذا النعت و تبنوه. و لقد كان في هذا القبول دلالة رمزية خاصة مضمونها أن الأمة المغربية قد تلقت رسالة ملكها الجديد الذي لم يأل جهدا منذ توليه العرش في التأكيد على أنه يريد تأسيس و استثمار مفهوم جديد للسلطة، و أنها تريد أن يكون هذا العهد عهدا جديدا و أنها عازمة على تكثيف جهودها في سبيل ذلك. بذلك تحدد الإطار السياسي الجديد لعلاقة السلطة بالمواطن فيما عبر عنه الملك في خطابه التأسيسي بتاريخ 12 أكتوبر 1999، حيث قال :
" إن مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون في ضوء الاختيارات التي نسير على هديها من ملكية دستورية و تعددية حزبية و ليبرالية اقتصادية وواجبات اجتماعية بما كرسه الدستور وبلورته الممارسة. ونريد في هذه المناسبة أن نعرض لمفهوم جديد لسلطة وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي. وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم و ملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة."
ثم تلا ذلك مجهود إصلاحي كبير، فجرى إطلاق مبادرات لتعديل العديد من النصوص القانونية، كما تأسست هيأة الإنصاف و المصالحة، و اضطلعت بمهمة إعادة الصفاء و الثقة و الأمان إلى علاقة المواطن بالدولة. و على الرغم من غباء بعض من لم ير فيها إلا آلية للتعويض المادي، إلا أن عموم الناس قد أدركوا رمزيتها و ما ترومه من شفاء الصدور. و هو ما عبر عنه ادريس بنزكري حينها قائلا: "لا ينحصر الأمر في تقاسم معرفة ما حدث في الماضي و تملكه، بل يتعداه عبر الجدل البناء، إلى التحفيز حاضرا، على إبداع معايير و قواعد عيش مشترك، يسهم الجميع من خلالها في بناء المستقبل".
لكي يكون هذا العهد جديدا ينبغي إذن أن تتحد فيه القلوب بالثقة، و تشتد فيه العزائم بالطموح، و تشرئب فيه الأعناق إلى المستقبل. لكن واقع الفساد المطبق، و المصالح الضيقة، و التجرؤ على مقدرات البلاد و حقوق العباد، كل ذلك شكل عقبة حقيقية ما لبثت أن أفسدت روح التفاؤل التي بدأت تعم الناس. فانتفض الناس بعد عقد و نيف من العهد الاجتماعي الجديد، معلنين تشبثهم به، و إصرارهم على حقهم في تأسيس حياة عامة طيبة و التخلص من خبائث الفساد و المفسدين المتوارين خلف بقايا عهد القمع. و في هذه المرة أعاد جلالة الملك لشعبه فضله بفضل مثله، فاستجاب لهم كما استجابوا له من قبل، و رد ردا فاجأ الكثيرين و قرر العمل على إخراج دستور جديد يجسد قيما جديدة. و إن من أهم ما يجعل دستورنا الحالي لحظة فريدة من لحظات تاريخنا، هو أنه قد ولد من رحم فعل احتجاجي شعبي. إن سنة 2011 هي بحق سنة الاعتراف بشرعية الحراك الشعبي و مشروعية الفعل الاحتجاجي العمومي. و قد تبلور في هذه اللحظة وعي عام بأن الاحتجاج العمومي ليس فوضى، بل هو الشكل الأولي للتعبير عن الإرادة الشعبية عندما لا تفي القنوات التنظيمية بواجبها في إيصال مطالب العامة إلى دوائر التدبير السياسي.
عندما تضطر الإدارة الأمنية إلى تبرير أساليب القمع التي تنتهجها في مواجهة الفعل الاحتجاجي، نجدها ترفع ورقة القانون، و معادلة احترام القانون أو استعمال القوة. و يتبع الكثيرون هذا المنطق، إما عن جهل أو عن سوء نية، فيتصورون أن الفعل الاحتجاجي بطبيعته يمثل خرقا للإطار القانوني القائم، ثم يختلفون في جزائه، بين من يرون أن مواجهته باستعمال القوة (كما ينص على ذلك القانون) أمر مشروع، و بين من يرون أن الطابع السلمي للاحتجاج لا يبرر استعمال القوة، و أن الجزاءات القانونية المقررة ينبغي أن تكون مرنة و متسامحة. فيتفق الجميع في إلقاء اللوم على القانون و اعتباره المسؤول الأول عن إطلاق يد السلطة العمومية في تعاملها مع التجمعات و التظاهرات العمومية؛ و هنا يقع خطأ عظيم.
الفعل الاحتجاجي هو بالأساس فعل سياسي. إنه تعبير شعبي طبيعي (بمعنى أنه لا يندرج في سياق تنظيمي) عن موقف سياسي. و للتعبير عن هذه الطبيعة، و إدراكا لدور هذا الفعل في إغناء الفضاء السياسي الوطني، جاء الدستور بصيغة غير مسبوقة في الفصل 29 حيث نص على أن "حريات الاجتماع و التجمهر و التظاهر السلمي ... مضمونة، و يحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات". هذا النص، الذي يمر كثير من الناس عليه مرور الكرام ظنا منهم أنه يوازي الفصل 9 من الدستور السابق، يقرر قاعدتين أصيلتين. القاعدة الأولى، هي إقراره بضمان حرية التجمهر و التظاهر السلمي، بعدما كان النص السابق لا يتعرض سوى لحرية الاجتماع. و القاعدة الثانية، هي تكليفه للقانون بوضع شروط ممارسة هذه الحريات، بينما كان النص السابق يقرر للقانون صلاحية الحد من ممارسة كل الحريات. فما الذي تغير إذن؟
لقد صار الفعل الاحتجاجي يجد سنده الأساسي في مبدأ دستوري راسخ يضمن مختلف تجلياته الواقعية من اجتماع و تجمع و تظاهر. ثم إنه لم يعد يخشى أي قيد قانوني خاص، اللهم إلا الحدود الإجرائية التي يضعها القانون لضمان ممارسته و ليس للحد منها. و يؤكد ذلك الفصل 6 من الدستور الذي يضع على عاتق السلطات العمومية واجب توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنين و المواطنات و من مشاركتهم في الحياة السياسية. فهذا الفصل في الحقيقة هو الذي يفسر عبارة الفصل 29 عندما تكلف القانون بتحديد شروط ممارسة الحريات العامة.
و إذا عدنا إلى ظهير 1958 المتعلق بالتجمعات العمومية، و الذي صيغ بخلفية أمنية بارزة، فإن قراءته اليوم ينبغي أن تتم بمنطق قانوني تركيبي صحيح يضع مقتضياته ضمن سياقها الدستوري و القانوني الحالي، لا بمنطق فترة اللادستور و حالات الاستثناء و سنوات القمع و الرصاص و الاختطافات التي اتفق الملك و السياسيون و الشعب على طيها و دفن منطقها التسلطي في ثنايا التاريخ.
انطلاقا من هذا الأساس، فإن الفقرة الثانية من الفصل 11 من الظهير المذكور التي تنص على أنه "لا يسمح بتنظيم المظاهرات بالطرق العمومية إلا للأحزاب السياسية و المنظمات النقابية و الهيآت المهنية و الجمعيات المصرح بها بصفة قانونية" تصبح منسوخة بحكم نص الفصل 29 من الدستور. خاصة و أن الفقرة الثالثة من الفصل 6 من الدستور تقر و تفرض مبدأ تراتبية القواعد القانونية و على رأسها الدستور، و هو ما يفتح الباب بشكل رسمي أمام نسخ القانون بالنص الدستوري مباشرة من غير حاجة إلى انتظار إصدار قوانين جديدة كما يحلو للبعض أن يردد. و من ثم فلا يجوز منع التظاهر و التجمع بحجة عدم اندراجه ضمن هيآت منظمة، لكون الحرية في تنظيم الاحتجاج سواء في صيغة تجمع أو تظاهر منظم أو غير منظم قد صار من الحقوق الدستورية الأساسية. و قد اقترح المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مذكرته المرفوعة إلى رئيس الحكومة في نونبر 2015 أن يعدل الفصل 11 من الظهير المشار إليه ليسمح بتنظيم التظاهرات للأشخاص المعنويين و الطبيعيين على السواء، استنادا إلى قوة الواقع الفعلي حيث صارت المظاهرات تقام من طرف المجموعات الفعلية أكثر مما تقام من طرف التنظيمات المعددة فيه.
نفس الأصل يحكم الحرية في تنظيم التجمعات، أو التجمهر بصيغة ظهير 1958. فهذا الشكل الاحتجاجي حق أساسي يضمنه الدستور صراحة، و لا يستند إلى إقرار القانون و لا إلى إذن السلطات العمومية. ما موقع القانون إذن و ما مدى صلاحياته في شأن تنظيم ممارسة هذه الحريات؟
كلف الفصل 29 من الدستور القانون بتحديد شروط ممارسة حريات التظاهر و التجمع. و أوجب الفصل 6 منه على السلطات العمومية العمل على توفير الظروف المناسبة التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحريات المواطنات و المواطنين. فهل تشتمل صلاحيات القانون و سلطات الإدارة على تحديد حالات منع الاحتجاج العمومي؟ و ما هو مدخلها الدستوري إلى ذلك؟
لا يحتاج أحد إلى إقامة الدليل على أن الفعل الاحتجاجي ملزم بالوقوف عند حدود كل الحريات، فهو لا يبرر ارتكاب الجرائم، من مس بالسلامة الداخلية للدولة، أو مس بسلامة الأشخاص الذاتية و المعنوية، أو اعتداء على أموالهم، أو غير ذلك مما جرمه القانون. كما أنه لا يصح أن يكون وسيلة تستغلها فئة من المواطنين لقمع فئة أخرى و حرمانها من ممارسة حرياتها المكفولة لها بموجب الدستور و القانون. و لقد أصل الدستور هذا القيد الأخلاقي بعبارة فريدة في الفصل 37 منه حيث يقول: "على جميع المواطنات و المواطنين احترام الدستور و التقيد بالقانون. و يتعين عليهم ممارسة الحقوق و الحريات التي يكفلها لهم الدستور بروح المسؤولية و المواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بالواجبات".
هذا الإطار الدستوري إذن هو تأويل اتخاذ إمكانية المساس بالأمن العام قيدا على ممارسة الفعل الاحتجاجي في الفصلين 13 و 17 من الظهير المتعلق بالتجمعات العمومية، و هكذا ينبغي أن يفهم. و ذلك لأن السلطات العمومية و إن لم تكن مالكة لحريات المواطنين تنعم بها على من تشاء و تمنعها عمن تشاء، فإنها حارسة لانسجام هذه الممارسة و تناسقها حتى لا تؤدي إلى مفسدة أعظم. هذه حدود تدخلات السلطات الإدارية. فلو تأكد لها، مثلا أن الاحتجاج المزمع إجراؤه في منطقة معينة يجهر بدعوة من شأنها أن تستفز مشاعر فئة من المواطنين (و الاحتجاج بطبيعته إنما اتخذ للاستفزاز)، و أن مخاطر حدوث اشتباكات بين الطرفين جدية، فإنها تزن الأمر بميزان الحكمة، فإن بدا لها أن التحكم بالوضع يسير، فلا يحق لها أن تمنعه، بل تتخذ ما يلزم من تدابير لحيلولة دون حصول الانفلات. لكن، إذا لم تكن قادرة على ذلك فإنها قد تمنعه. و لربما ترخص له صراحة في وقت آخر أو في مكان آخر. فهذه من أدوارها التدبيرية، و هو تجسيد لروح المسؤولية و المواطنة الملتزمة. و لذلك نجد الظهير يتحدث عن الأمن العمومي، بعدما عدلت المادة 17 التي كانت تستعمل مفهوم النظام العام. فدلالة الأمن العمومي تستوعب الأحوال المنضبطة، كالأفعال المكيفة جرائم بمقتضى القانون الجنائي، و التي تجعل الفعل الاحتجاجي ذاته غير مشروع؛ كما تتجاوزها إلى التقدير الاحتمالي، حيث لا يُقدح في مشروعية العملية الاحتجاجية ذاتها، بقدر ما تقدر الإدارة أن قوة الخطاب أو أسلوب ممارسته سيؤولان إلى الفوضى.
لكن هذا الأسلوب التقديري هو في النهاية تدبيري سياسي متغير، و ليس تحليلا قانونيا ثابتا. و لذلك فالإدارة هنا تمارس السياسة في مستوياتها الدنيا، و هو ما يجعلني أقول إن الخطأ الأول الذي يرتكب في شأن تدبير الاحتجاجات العمومية هو فصل فعل السلطة العمومية عن الاعتبارات السياسية. فالسلطات العمومية بالنظر إلى موقعها من البنية السياسية ليس من مهامها و لا تجيد التقدير السياسي، و وظيفتها الأساسية تطبيق القانون و تنفيذ السياسيات العمومية، و إن كان لا بد لها من مواجهة المتغيرات السياسية – محليا على الأقل – فينبغي تأطيرها من طرف السياسي، أما إذا أطلقت يدها في الأمر فلن تقودنا إلا إلى الكوارث؛ لأنها ستعمل منطقها التبسيطي المختزل - خرق القانون يبرر استعمال العنف - حيث لم يخرق القانون و حيث لا يجوز استعمال العنف. لهذا السبب وضعت الإدارة تحت تصرف الحكومة (الفصل 89 من الدستور)، و لهذا السبب كان التداول و التقرير في شأن القضايا الراهنة المتعلقة بحقوق الإنسان و بالنظام العام من مهام الحكومة (الفصل 92 من الدستور).
لكن، إذا لم بكن القانون يضع معادلات واضحة للإجابة عن سؤال متى و بأية شروط يكون الفعل الاحتجاجي متاحا بدون تحفظ، و متى يكون ممنوعا بدون حرج، بحيث يكون المحتجون و الإدارة معا على بينة قطعية من أمورهم، فما هي طبيعة الدور الذي أنيط به؟
لقد حير هذا السؤال معظم من تصدى لدراسة نظام الحريات العامة؛ و ما ذلك إلا لأن مقاربته تنطلق من فهم مقلوب لمفهوم الحق و من تصور مبهم لطبيعة الاحتجاج العمومي. فالفعل الاحتجاجي ليس تصرفا قانونيا – تبعا لمفاهيم القانون الخاص -، و إنما هو حراك سياسي، يروم الصدع بخطاب مطلبي، أو موقف سياسي، أو يهدف إلى التنفيس عن احتقان شعبي جراء حدث من الأحداث، إلى غير ذلك مما يدخل في التعبير عن هموم مشتركة حيال أسلوب تدبير الحياة المجتمعية. و لذلك فالفعل الاحتجاجي بطبيعته فعل مستفز و مثير و مزعج إذا صح التعبير؛ لأنه يزعزع حالة الرتابة القائمة، فيدفع إلى إعادة النظر في ترتيبات الأداء السياسي، لتأخذ في الاعتبار مواقف و رؤى الفئات الشعبية المحتجة. ليست التجمعات العمومية إذن مجرد تعبير قانوني واضح يهدف إلى تطبيق قانون مهمل، أو إلى إنشاء تعاقد عقلاني لتبادل المنافع المشروعة، بل هو تدخل شعبي غير نظامي في تدبير الشأن العام. و لهذا فليس من شأن التنظيم القانوني له أن يتناوله كما يتناول التصرفات القانونية ببناء شروط صحته و أسباب فساده و الالتزامات الناشئة عنه ثم الجزاءات المقررة للإخلالات التي قد تشوبه. فهذا الطابع غير النظامي المميز للاحتجاج يضعه بالضرورة خارج القانون، بمعنى أن المحتج إنما يتحرك لإسماع صوته خارج المسالك التقليدية المقننة لممارسة الحق في المشاركة في الفعل السياسي. لهذا السبب بالذات يصطلح على تسمية هذا اللون من الممارسات بالحريات أكثر مما يعرف بالحقوق؛ لأن الحق إنما ينشأ ضمن القانون، أما الحرية فهي سابقة عليه، و هي و إن كانت تسايره و توازيه، إلا أنها تتولد خارجه. و لقد رأينا أن الفعل الاحتجاجي يصحح المسارات الحقوقية و يؤسس الأنظمة السياسية. أما إقرار القانون بهذه الحريات رغم ما تحمله من تهديد مبطن له فيرجع إلى إدراك عميق بأن الفعل الاحتجاجي من أهم الحركيات السياسية و الاجتماعية الخلاقة، و أنه إذا كان الانضباط الصارم لسنة القانون ضروريا للاستقرار، فإن الحركية الخلاقة أساسية للتغيير و التطور.
الدور القانوني إذن ينبغي أن يبقى محدودا في المواكبة، و وضع الترتيبات اللازمة للتحكم في الانفلاتات المحتملة. فالقانون لا يضيق على حرية الاحتجاج، بقدر ما يحد من سلطة الإدارة في التدخل. و لهذا، فإن الظهير المتعلق بالتجمعات، مقروءا تحت ضوء المبادئ الدستورية، لم يعد يتضمن ما يبرر التضييق على مبدأ الحرية في تنظيم التجمعات و التظاهرات. بل لم يعد يضم، عند التحقيق، إلا قسما إجرائيا بسيطا، و قسما جنائيا، و قسما إداريا. فأما الجانب الإجرائي فما من شك في أنه قد صار يدعو إلى إعلام الإدارة (عملا بالضابط الأخلاقي) و لم يعد يلزم و لو بشكل مقنع بالاستئذان. و أما القسم الجنائي، فتضمن تجريم و معاقبة أفعال تتراوح بين عدم احترام إجراءات التصريح، و خرق المنع الذي قد تقرره الإدارة، و حمل الأسلحة أثناء الاحتجاج. و أما القسم الإداري، و هذا هو أهم ما يستدعي النقاش في سياقنا هذا، فقد فتح أمام السلطات العمومية باب التصدي للفعل الاحتجاجي على نحو يبدو في منطق الإدارة شبه مطلق، خاصة و قد مكنها من إصدار قرارات المنع و من تفريق المحتجين بالقوة. فما مدى صلاحيات الإدارة في مواجهة الفعل الاحتجاجي؟
أقر ظهير التجمعات العمومية للإدارة سلما للمواجهة يضم مستويين من القوة: مستوى المنع الإداري لتنظيم التجمع، و مستوى استعمال القوة في تفريق المحتجين. لكنه على ما يبدو لم يكلف نفسه عناء التفصيل لا بخصوص الأسباب المبررة للمنع، و لا بشأن طبيعة القوة المستعملة و ترتيب درجاتها و حدودها.
إذا استثنينا الاجتماع العمومي، فهو لا يشكل فعلا احتجاجيا حقيقيا بقدر ما هو فضاء لنقاش عمومي، فإن تدبير المنع الإداري لم يقر إلا بالنسبة للمظاهرات، حيث ألزم المنظمون بتقديم التصريح أو الإشعار. و قد نص الفصل 13 منه على أن قرار المنع لا بد أن يستند إلى وجود تهديد للأمن العمومي مقترن بالمظاهرة. إذا اكتفينا بعبارة الفصل المذكور فهذا التعليل بهذه الصياغة لا يبدو جديا، و يبدو مجرد مناورة لتمكين السلطات العمومية من إصدار قرارات المنع كلما شاءت. غير أن استحضار مبدأ إلزام الإدارة بتعليل قراراتها، خاصة تلك التي تتضمن منعا أو تقييدا لممارسة حرية دستورية، يجعلنا ندرك أن صلاحية الإدارة بهذا الشأن ليست مطلقة. علما أن قراراتها بهذا الشأن تخضع للرقابة القضائية. هذا التعليل و هذه الرقابة صارا يكتسيان اليوم معنى جديدا بوجود الفصل 6 من الدستور الذي يضع على عاتق السلطة العمومية أمانة تمكين المواطنين من ممارسة حرية التظاهر، و الفصل 19 منه الذي اتخذ ممارسة الحريات السياسية و المدنية مبدأ أساسيا أصيلا، فصار قرار المنع يشكل ملجأ اضطراريا و إجراء غاية في الاستثناء. و هذا هو المعنى الذي ينبغي أن يحرص عليه القضاة عندما يتابع أمامهم منظمو المظاهرات الذين لم يستجيبوا لقرار المنع الإداري، و هم بصدد فحص مدى توافر علل التجريم، حتى يتجنبوا مفاسد التفسير الظاهري و يحققوا المقاصد الحقوقية.
أما التدخل باستعمال القوة، فإن ظهير 1958 لم يأت فيه بما يشفي الغليل، و لذلك فإن من الحمق أن يُكتفى في فهمه بظاهر عبارته، أو يُتوقف عند تاريخ ولادته؛ بل لا بد من تركيبه ضمن مجموع المنظومة القانونية الراهنة حتى نجد له معنى معقولا. ما معنى استعمال القوة؟ و هل يسوغ استعمال العنف؟ و ما مدى مسؤولية الإدارة بهذا الخصوص؟
لنصحح أول الأخطاء و أفدحها على الإطلاق: إن القوة ليست مرادفا للعنف. فعلى عكس ما يتداول بين الناس، بمن فيهم بعض المتخصصين للأسف، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتخيل أن بين التصريح باستعمال القوة و بين استعمال العنف أي تلازم. و ما ذلك إلا لأن المنظومة القانونية المغربية بإطلاقها لم تتبن في يوم من الأيام استعمال العنف الجسدي و لا اللفظي بأي شكل كان و لأي مبرر كان. و على الرغم مما كان يقع من صنوف الإيذاء و التعذيب، و ما قد يحدث اليوم أيضا، فإن كل ذلك لا يعدو أن يكون ممارسات غير مشروعة لا يسمح بها القانون، بل و يعاقب عليها متى ثبتت. هذا الأمر يبينه اليوم بوضوح صارخ الفصل 22 من الدستور الذي يمنع، على وجه الإطلاق، المس بالسلامة الجدية أو المعنوية لأي شخص، و في أي ظرف، من أي جهة كانت خاصة أو عامة. كما يمنع كل معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية، مهما ذريعتها. و نص نصا صريحا على اعتبار أي فعل من هذه الأفعال تعذيبا خاضعا للنصوص المجرمة له بمقتضى القوانين المعمول بها. و مما يزيد من التأكيد على هذا الأمر أن القانون قد حصر أقسى العقوبات التي بمكن أن تلحق بمرتكب أقصى الجرائم في لائحة العقوبات المبسوطة في مدونة القانون الجنائي، و لم يجعل لها من منفذ إلى التطبيق إلا منفذ المحاكمة و الإدانة تحت رقابة القضاء، و هي جميعها أدنى من مستوى الوحشية التي يتضمنها العنف الجسدي.
فهل بقي بعد هذا مجال لأحد ليتذرع بنص عجوز متهالك و يقول بإمكان ممارسة السلطة العمومية للعنف في مواجهة أشكال التجمع العمومي؟ إن من يقول بشيء من ذلك إما أنه بليد العقل أو مريض القلب. و لرب معترض يسأل: و ما العمل في حالة تجاهل المحتجين لقرار المنع ثم عدم استجابتهم للأمر الصادر إليهم بالتفرق؟ و هذا أرد عليه قائلا: أليس تجاهل قرار المنع و الأمر بالتفرق عملا مجرما؟ فالإقدام عليه إذن لا يعدو أن يكون جريمة كبقية الجرائم، حتى و إن لم يرتكب خلال الاحتجاج فعل إجرامي محدد بمقتضى النصوص الجنائية. فهل يسوغ لرجال السلطة الاعتداء بالعنف الجسدي أو اللفظي على القاتل أو المغتصب أو الإرهابي؟ أم هل يحق للشرطة معاملة خائن الأمانة و مهرب المخدرات و مزور العملة معاملة لا إنسانية؟ فلماذا التردد و الحيرة في قطع الطريق على استعمال العنف ضد المتظاهرين و المتجمعين؟
الحقيقة أن كل أعمال العنف و الإيذاء الجسدي التي تمارس ضد المحتجين إنما هي أعمال تعذيب صريحة و واضحة، و ينبغي أن يحاسب منفذوها و الآمرون بها على السواء. و ليس من الممكن أن يختبئ هؤلاء و لا أولئك وراء الفقرة الأولى من الفصل 124 من القانون الجنائي، لأن هذه الفقرة لم تجعل من أمر السلطة الشرعية مبررا لوحده، بل ربطته بضابط الوجوب القانوني. و الحال أن القانون لم يوجب ممارسة العنف ضد المتظاهرين. و إذا أراد أحد أن يحتج بصيغة الفقرة الثانية من الفصل 19 من ظهير 1958، فعليه أن ينتبه إلى أنها لم تتحدث عن العنف بل عن استعمال القوة، و أنها لم توجب هذا الاستعمال. و فوق هذا و ذاك، فإنه إذا صح أن الفقرة المذكورة تقضي بممارسة العنف، فإن الفصل 22 من الدستور ينسخها إذن نسخا صريحا، كما تنسخها الفصول 231 و ما يليه من القانون الجنائي التي تجرم ارتكاب العنف و التعذيب ضد الأشخاص. لا مجال إذن لتفسير استعمال القوة باللجوء إلى العنف الجسدي. بل القوة تعني الإرغام على التفرق باستعمال وسائل إكراهية و ضغوط لا تصل إلى حد التكييف بالعنف الجسدي، كإرسال المياه، و الدفع الممنهج لتقليص التجمع إلى مجموعات صغيرة، أو العزل في أماكن ضيقة مفصولة عن العموم، أو إرسال غازات مزعجة، إلى غير ذلك مما أبدعته سلطات دول ديمقراطية عديدة. أما الذين تعجز مخيلاتهم عن إبداع أساليب متحضرة و قانونية، و لا زالوا يجترئون على المواطنين بالضرب و الجرح و التعذيب و الرفس و السب و القذف، إن هؤلاء ليرتكبون أفظع الجرائم في حق مواطنين عزل يمارسون حرياتهم الدستورية، و إن مسؤولية الإدارة عن هذه الممارسات ثابتة لا شك فيها سواء على المستوى الجنائي أو المدني.
بيد أني أعتقد أن المسؤولية الحقيقية عما يقع إنما تعود إلى المسؤولين الحكوميين. لأنه قد اتضح مما سبق أن القانون لم يتدخل لتقييد الاحتجاجات العمومية و لم يأت بحل لمعالجتها، لأن هذا الأمر ببساطة ليس من مهامه، و كل ما يقوم به بتكليف من الدستور نفسه، إنما هو تعريف حدود التدخل الإداري الوقائي. كما تبين أن معالجة الخطاب الاحتجاجي، و ترويض حركته الثائرة، ليست من وظائف الإدارة الأمنية، بل إن دفعها إلى الاصطدام به ليس له إلا مآل واحد، هو أبعد ما يكون عن التوفيق و تحقيق السلم. أما تدبير الفعل الاحتجاجي، و توجيهه عبر القنوات الكفيلة بإعادة التوازن إلى العلاقات الاجتماعية و السياسية، فهذه من صميم مهام العمل الحكومي. و إذا كانت الحكومة تخشى مواجهة الاحتجاج، أو كان صدرها يضيق به، أو كانت اختياراتها السياسية أضعف من أن تحتك بحجج المعارضين، فتخلي بينهم و بين هراوات قوات الأمن، متذرعة بحكم القانون، فلبئس السياسية سياستها، و لبئس الرأي رأيها.
*أستاذ باحث بكلية الحقوق ومحام بهيأة الدار البيضاء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.