(1) نشر طالب علم مثلنا – منير المرود - مقالا تحت عنوان: "رد مفصل على مقال: تصحيح حديث فضائل القرآن"، وبعد تحيته وشكره على ردوده التي أعتبرها مناقشة تسهم في تنوير الرأي العام، ودافعا لتطوير المعرفة الدينية وتيسيرها للمثقفين على اختلاف مراتبهم، أشير إلى أنه كان قد بدأ الرّد عليّ منذ مدّة، وكنت أود الإجابة عليه في أحد المواقع حيث كان ينشر، إلا أن القائمين على الموقع اختاروا إذاعة الرأي الوحيد، وإقصاء الفكرة (الخطأ) من وجهة نظرهم، وحسنا فعل أكرمه الله باتجاهه للنشر في موقع يؤمن بحق الاختلاف ويحرص على النشر للجميع دون إجحاف، وأرجو أن لا يدفعه مقالي هذا للعودة إلى المواقع المغلقة. ولأنني أرى الكاتب أهلا للنقاش والحوار، بعد تجاوزي عن أسلوبه في الاحتقار والاتهام في النية رجما بالغيب، ومزيدا من التنوير والتبصير للمتابعين، وتيسيرا لعُقد علم الحديث على المثقفين، فإنني رأيت من اللازم علي أن ألتفت إليه، وأرد التحية بمثلها، مستحضرا حكمة الأجداد: "الاختلاف لا يفسد للوُدِّ قضية". وسيأتي جوابي على الأخ الكريم عبر دروس رصينة، تتحاشى الإجابة على الانتقادات الهامشية الموغلة في الترف والجزئية، فعلى الله نتوكل وبه نستعين: درس في اصطلاح الحافظ المنذري رحمه الله: قال صديقنا فيما عدّه سقطتي الأولى: (قوله في معرض حديثه عمن صحح حديث فضائل القرآن المذكور: (الحافظ المنذري: صدره في الترغيب والترهيب (2/231) بصيغة "عن" الدالة عنده على الصحة كما أوضح في مقدمة كتابه، ثم تبنى تصحيح الحاكم حيث قال: رَوَاهُ الْحَاكِم من رِوَايَة صَالح بن عمر عَن إِبْرَاهِيم الهجري عَن أبي الْأَحْوَص عَنهُ وَقَالَ: تفرد بِهِ صَالح بن عمر عَنهُ، وَهُوَ صَحِيح). قلت: لعل " الأنجري " لم يفهم عبارة المنذري رحمه الله أو لم يقرأ تتمة كلامه كما هي عادته ( أنظر المقدمة التاسعة) ليعقل ما قصده من كلامه المذكور، أو لعله لم يرجع إليه أصلا وإنما أخذ ذلك بواسطة فتبناه لكونه يتلاءم مع ما يشتهيه ويهواه. وما لا يعلمه "ابن الأزرق"، هو أن للمنذري في " الترغيب والترهيب " اصطلاح خاص به لم يسبقه إليه أحد من العلماء فيما نعلم، وهذا نص كلامه كاملا ليعلم مقصوده رحمه الله من تصدير الحديث بصيغة "عن"، حيث قال في مقدمة كتابه المذكور: « فإذا كان إسناد الحديث صحيحاً أو حسناً أو ما قاربهما صدّرته بلفظة: "عن"، وكذلك إنْ كان: مرسلا، أو منقطعا، أو معضلا، أو في إسناده راو مبهم، أو ضعيف وُثَّق، أو ثقة ضُعِّف، وبقية رواة الإسناد ثقات، أو فيهم كلام لا يضر، أو روي مرفوعا والصحيح وقفه، أو متصلا والصحيح إرساله، أو كان إسناده ضعيفا، لكن صححه أو حسنه بعض من خرجه أصدّره بلفظة "عن"، ثم أشير إلى إرساله أو انقطاعه أو عضْله، أو ذلك الراوي المختلف فيه، فأقول: "رواه فلان من رواية فلان، أو من طريق فلان"، أو: "في إسناده فلان"، أو نحو هذه العبارة، ... وقد لا أذكر الراوي المختلف فيه، فأقول إذا كان رواة إسناد الحديث ثقات؛ وفيهم من اختلف فيه: "إسناده حسن"، أو "مستقيم"، أو: "لا بأس به"، ونحو ذلك حسبما يقتضيه حال الإسناد والمتن وكثرة الشواهد». فقارن أيها القارئ الكريم بين ما كتبه الحافظ المنذري رحمه الله، وبين فهم المعاصر "الأنجري"، فرواية الحديث بصيغة " عن " لا تفيد التصحيح مطلقا، وإنما هو اصطلاح خاص بالمنذري ضمنه مجموعة من الأنواع منها: من في إسناده راو مبهم، أو ضعيف وثق، أوالمرفوع الصحيح وقفه، أوالضعيف السند إذا صححه أو حسنه بعض من خرجه، وكل هذه الصفات التي ذكرت تنطبق على الحديث المذكور، فلا يكون بذلك تصديره للحديث بالعنعنة دلالة على تصحيحه، بل إنه رحمه الله صدر مجموعة من الأحاديث بنفس الصيغة ثم أشار إلى ضعف بعضها أو ترجيح وقفه). الجواب: أولا: أكثر صديقنا من الاحتمالات حول سبب "سقطتي" المتوهمة، وبعضها تدخّل في الغيب الذي هو اختصاص الخالق سبحانه، وكان يكفيه أن يتهمني بعدم فهم اصطلاح المنذري وتنتهي القصة بسلام من ظن السوء، وهذه مسألة بينه وبين ربنا المطّلع على الخفيّات. ثانيا: اتهمني حبيبي الكاتب بأنني لم أفهم اصطلاح المنذري لأنني لم أقرأ كلامه كاملا، ثم تبرّع بنقله ليثبت "سقطتي". ويا للهول، فالكاتب وقع في كارثة علمية فاحشة، تسمى عند العلماء تدليسا وتلبيسا على القراء، ذلك أنه نقل ما يشتهي من كلام المنذري وترك ما يشهد لي، وهذه تتمة كلام الإمام رحمه الله، ليبطُل رجم الكاتب بالغيب من جهة، وليظهر التدليس الفاحش من ناحية: قال المنذري: ...حسبما يقتضيه حال الإسناد والمتن وكثرة الشواهد، وإذا كان في الإسناد من قيل فيه كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو ذاهب الحديث أو هالك أو ساقط أو ليس بشيء أو ضعيف جدّا أو ضعيف فقط أو لم أر فيه توثيقا بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين صدّرته بلفظة: "روي"، ولا أذكر ذلك الراوي ولا ما قيل فيه ألبتة، فيكون للإسناد الضعيف دلالتان: تصديره بلفظة: "روي"، وإهمال الكلام عليه في آخره. انتهى فانظر أيها القارئ المنصف إلى مجموع كلام المنذري، وتحرّر من الهوى والتعصّب، تخرج بما يلي: 1 – الذي تعمد البتر والحذف المفضي لتحريف اصطلاح المنذري أولا، والتدليس على القارئ ثانيا، مكشوف واضح. 2 – كل حديث صدّره المنذري بلفظ "عن" فهو صحيح أو حسن أو قريب منهما، والأخير هو الذي يحتمل التحسين كما بيّن عندما تحدث عن القسم الثاني، وهو الذي يقول فيه بعض الحفاظ: "جيّد" أو "صالح" أو "لا بأس به"، وكلها تندرج في إطار الصحيح بمعناه العام، فيكون كلامي سليما أمينا. 3 – كل حديث ضعيف عند المنذري لا يحتمل التحسين، يصدّره بلفظة "روي"، وفي ذلك تأكيد على أن "عن" خاصة بالصحيح والحسن والقريب منهما. 4 – إذا كان في سند الحديث ثقة ضُعّف، فإنه يصدّره بلفظ "عن" المشعر بصحته، ثم ينبه على ذلك الراوي، ويترجمه في آخر الكتاب إشارة للرأي الراجح فيه. وحديث فضائل القرآن، قال بعده المنذري: رواه الحاكم من رواية صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص. وصنيعه هذا مشعر بوجود راو مختلف فيه لكنه موثق عنده، وهو إبراهيم بن مسلم الهجري بطبيعة الحال، وقد وفّى المنذري بوعده في المقدمة، حيث قال في الفقرة التي حذفها الكاتب الناقد من وسط الكلام: وأفردت لهؤلاء، المختلف فيهم بابا في آخر الكتاب، أذكرهم فيه مرتبا على حروف المعجم، وأذكر ما قيل في كل منهم من جرح وتعديل على سبيل الاختصار). فترجمه في آخر الكتاب قائلا: إبراهيم بن مسلم الهجري: ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم ليس بقوي، ووثقه ابن حبان وابن خزيمة وأخرجا له في صحيحيهما غير ما حديث عن أبي الأحوص، وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله وعامتها مستقيمة. اه فالرجل مختلف فيه وموثق من قبل ثلاثة مقابل اثنين عند المنذري، لذلك فحديثه قابل للتحسين، يستوجب التصدير بصيغة: "عن" الدالة على الصحة بمعناها العام. فيكون صاحبنا الكاتب، أسقط فقرة من وسط الكلام، وفقرة من آخره، وهذا لا اسم له إلا البتر المقصود والتدليس المردود. ثالثا: صديقنا لم يُعِر لقول المنذري في آخر كلامه: "وهو صحيح" قيمة، ونحمد الله أنه لم يحذفه من كلامي، فلا عذر له إلا العجلة وعدم الانتباه. فالحافظ قطع الباب بذلك، وصرّح بتصحيح الحديث لفظا بعد الإشارة بعن، وهو كلامه لا كلام الحاكم صاحب المستدرك، لأن جملة الحاكم هكذا: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بصالح بن عمر)، فلا تلتفت إلى تشويش الألباني على هذه المسألة. رابعا: إن أخطاء الكاتب في هذا الموضع، راجعة إلى تقليده الشيخ الألباني رحمه الله، فإنه نقل بعد كلامه المتقدم شيئا من أقوال الألباني بخصوص اصطلاح المنذري، وعندما أراد توثيق كلام الحافظ لم يعزُه للكتاب الأصل، بل إلى صحيح الترغيب للألباني. والألباني هو الذي شوّش على اصطلاح المنذري، وحاول في مقدمة كتاب "صحيح الترغيب" أن يصوره كلاما معقدا مضطربا، بل كاد غفر الله له أن يحكم على "الترغيب" بعدم الفائدة، والواقع أنه لم يدقق النظر، ففاته إدراك ما لخّصناه آنفا حول اصطلاح الحافظ. ولما كان الألباني (خاتمة المحدثين ونهاية الإمامة) في الحديث عند المعجبين به، طبعا، فإنهم لا يتجرؤون على تخطئته والاستدراك عليه، إلا من رحم الله من محبيه، ونحن منهم، لكننا لا نراه الخاتمة ولا النهاية، بل نراه واحدا من المشتغلين بالحديث المجدّين. خامسا: الألباني الذي زعم أن اصطلاح المنذري مضطرب، وادعى أن "عن" لا تعني تقوية الحديث دائما، نسي ما استدركه وانفرد به حسب دعواه في مقدمة "ضعيف الترغيب"، إذ نجده ينتقد المنذري بسبب توطئته للأحاديث بلفظ "عن" رغم ضعفها عند الألباني أو غيره. ولو احترم ما استدركه وأبدعه في شرحه لاصطلاح الإمام، لما أكثر من انتقاده ورميه بالتساهل في "ضعيف الترغيب"، لأنه حسب شرحه التجديدي، قرّر أن "عن" لا تستلزم التقوية عند المنذري، وأن الأخير أشار في كلامه إلى أنه قد يصدّر بها الحديث الضعيف، فلِمَ الانتقاد عليه إذن؟ مثال: علّق الألباني في "ضعيف الترغيب" على الحديث رقم 1595 بقوله: في إسناده ضعيف وآخر مجهول. وفي إسناد ابن حبان كذاب. وهو مخرج في "الضعيفة" (1910)؛ فالعجب من المؤلف كيف صدره ب (عن) مشيراً إلى تقويته! قال الأنجري: فها هو إمام منير يصرح بأن "عن" تشير إلى "التقوية" عند المنذري، فهل يستطيع أن يرفع الاضطراب بين تنظير إمام مدرسته وتطبيقه؟ وماذا سيلتزم: النظرية أم التطبيق؟ وهل يملك الجرأة الفكرية على تخطئة إمامه في أحد الوجهين؟ وهل يجعلنا نحن وإمامه سواء في الصواب أو الخطأ؟ دون ذلك خرط القتاد. خلاصة الدرس: أولا: لقد منّ الله علينا بإدراك اصطلاح المنذري، لأننا نتوجه إلى كلامه مباشرة، ولا نقرؤه بمنظار رجل يخطئ ويصيب، فإنه مكتوب بكلام عربي ميسور، ولا نحتاج لمن يعلمنا مبادئ العربية، ولا نقبل تحكّم بشر في الفهم والتدبّر، لأننا ولدنا أحرارا نتقزّز من التقليد والعصبية المذهبية. ثانيا: المنذري صحّح الحديث تصريحا وتلميحا، والأخ المحاور جعل الشيخ الألباني واسطة بينه وبين الحافظ، فحصل له التشويش في الفهم، ثم إنه لم يرفع لتصريح المنذري رأسا، وبتر كلامه وسطا وآخرا، فكان ما كان، وضاع بين الوديان، ونجونا بفضل المنّان الذي حرّر منا الجَنان. صفعة ألبانية: أجلب الكاتب علينا بسبب إدخالنا المنذري في جملة مصححي الحديث لتصديره بلفظة: (عن)، وتغافل عن اعتمادنا أيضا على إقراره تصحيح الحاكم في المستدرك، ثم صدّع رأسنا بأقوال للشيخ الألباني حول اصطلاح المنذري، لكنه تعمّد إخفاء نصّ لإمام مدرسته يوافقنا فيه على أن المنذري يقصد تصحيح حديث فضائل القرآن، حيث قال في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" تحت رقم 6842: فالعجب من المنذري كيف حكى تصحيح الحاكم للحديث وأقره، وصدره بقوله: "وعن".. المشعر بقوته عنده. ه ولا شك أن منيرا وقف على هذا الكلام لاعتبارين: الأول: الألباني هو إمام تياره، والثاني: اجتهاده في الرد علينا دفعه لتتبع كلام إمامه على حديث فضائل القرآن ليتأكد مما نسبناه إليه، فلا شك أنه وقف عليه وتعمد تجاهله ظنا منه أننا لن نعود إلى أقوال إمامه، وهذا يسمى فقدان الأمانة العلمية. أما إن كان جاهلا بما قال إمامه، فهذا ينعت عند العقلاء: التقصير والتكاسل في التحقيق. وبالجملة، فهذا إمامه يقدم له صفعة مؤلمة، ويمنحنا تحية عظيمة، فهل ينطبق قول الكاتب على إمامه كما طبّقه علينا؟ أم يملك الجرأة العلمية فيعلن تسرّعه وتحامله في الردّ على باحث متخصص رغم أنفه، قادر على ضرب خصمه بسلاحه ببساطة؟ فائدة حديثية: إذا صدّر الحافظ المنذري حديثا بلفظ "عن"، فهو صحيح أو حسن أو قريب منهما، أي ليس ضعيفا حسب اجتهاده بناء على المعطيات المتوفّرة لديه، وقد يكون عند غيره ضعيفا أو موضوعا. ويستثنى من ذلك كل حديث صدّره بتلك الصيغة، ثم صرّح عند التعليق عليه بضعفه، وهذه هي الطريقة الوحيدة لرفع التعارض بين اصطلاحه وتطبيقه، وهو ما لم يهتد إليه الألباني وإن حام به وطاف، ولو استوعبه ما صدر منه تشنيع وانتقاد شديد للإمام، رحم الله الجميع. درس في تهاون الشيخ الحويني: قال منير مرود، كان الله لنا وله: السقطة الثالثة: قال عن الشيخ أبي إسحاق الحويني: (صحّح الحديث من كلام سيدنا ابن مسعود في كتابي "المنيحة" و"النافلة"، واقتصر كلامه على حديث ابن مسعود، أي أنه لا يعرف طرقه الأخرى عن مولانا علي وسيدنا معاذ، وتلك علامة التقصير والتهاون في التحقيق). قلت: كم تجازف يا "ابن الأزرق" ؟!، كيف لا يعرفها وهو الذي حقق كتاب " فضائل القرآن " لابن كثير؟، حيث تحدث هناك عن حديث علي رضي الله عنه وخرجه وبين طرقه وعلله، وعلق عليه تعليقا علميا نفيسا، ثم قال: « وله طرق أخرى وشواهد لا تقويه، سقتها في "التسلية"، ولا يصح الحديث موقوفا أيضا، لعدم صحة الأسانيد بذلك ». ثم نعتني بالتكاسل في تتبع أبحاث الحويني، وحكم علي بالمجازفة وأضاف: واقتصار الشيخ أبي إسحاق على رواية ابن مسعود رضي الله عنه في كتابيه "المنيحة" و"النافلة" يؤكد أن للعلماء منهج دقيق في ذكر تعدد الروايات، حيث إنهم لا يجمعون الأسانيد، ولا يذكرون الطرق المتعددة إلا إذا اقتضت الحاجة العلمية ذلك، وليس كما يفعل حاطبنا "ابن الأزرق" حيث يفرح بكل طريق كيفما كان حالها. اه الجواب: أولا: كتاب النافلة للحويني طبع عام 1408 هج، وطبع كتاب فضائل القرآن عام 1416 هج، وأما كتاب المنيحة فليس من تأليفه، بل هو من عمل أحمد بن عطية الوكيل، جمعه من كتب الحويني، فيكون اجترارا لما في "النافلة". وما دام كتاب "النافلة" سابقا على "الفضائل"، فالرجل كان مقصّرا لا يعرف حديث مولانا علي رغم أنه في مسند أحمد وسنن الترمذي، فلا عذر له إلا التهاون والتقصير. وأخونا منير أسقط من كلامي السابق جملة يعرف خطورتها المشتغلون بعلم الحديث، حيث قلت بعد الكلام الذي نقله: (فحديث أمير المؤمنين في سنن الترمذي ومسند أحمد، وهما أشهر من المصادر التي خرجت حديث ابن مسعود). فلماذا بترها؟ لأنها تؤكد تهاون الحويني، إذ من العيب عند المحدثين أن تترك حديثا في كتب أصيلة مثل المسند وسنن الترمذي، وتذكر ما في كتب هي أحطّ رتبة من الكتب الستة. ثانيا: رجعنا إلى تعليق الحويني على "فضائل القرآن"، فوجدنا كلامه مقتصرا على حديثي مولانا علي وسيدنا ابن مسعود، ولا ذكر لحديث سيدنا معاذ فيه، فبقي التهاون والتقصير لاصقين بالرجل وإن فرضنا أن "الفضائل" مطبوع قبل "النافلة". ونحن نتساءل: لماذا أوهم صديقنا القراء أن حديث معاذ مذكور في "الفضائل"؟ أو على الأقل: لماذا لم ينبه على عدم وجوده هناك؟ أليس هذا وجها آخر من التدليس؟ وشاهدا إضافيا على تقديس رجال تيار بعينه؟ ثانيا: دافع أخونا عن غياب حديثي علي ومعاذ رضي الله عنهما من "النافلة" و"المنيحة"، تحت دعوى أن الحاجة لا تدعو لذكرهما، وهذا كلام مضحك. فالذي يتصدّر للتخريج كالحويني، عليه أن يستفرغ الجهد في إيراد طرق الحديث كيفما كانت، ويزداد الوجوب العلمي تأكيدا إذا كان الطريق في أحد الكتب الستة، لأن عامة العلماء يعتقدون صحة كل ما فيها فضلا عن العامة من الطلبة. وهذا منهج الألباني في الصحيحة والضعيفة، كما أنه سيرة الحويني في سائر كتبه التفصيلية، فلم هذا الحديث بالذات، إن لم يكن هناك قصور وتكاسل؟ وإذا كان المخرّج عارفا بطريق ما، وأنه ضعيف جدا أو موضوع، فعليه أن يكتفي بالتنبيه، فيشير إلى وجود طرق أخرى لا ينفع ذكرها، وهذا منهج المُجدِّين من المحدّثين، والألباني يفعل ذلك في كتبه، بل الحويني نفسه فعل ذلك في "فضائل القرآن"، فلماذا لم يفعل في "النافلة"؟ لأنه ببساطة ولا حرج عليه: كان يجهل تلك الطرق لتهاونه وتقصيره حتما. ثالثا: لنتجاوز عن قضية التقصير، فما قول الكاتب فيما نسبناه إلى شيخ مدرسته من تصحيح حديث فضائل القرآن في كتاب النافلة والمنيحة موقوفا على سيدنا ابن مسعود؟ هل يسلّم بذلك أم لا؟ وإذا سلّم وأقرّ، فإن شيخه مضطرب متناقض، لأنه قال عن الحديث في التعليق على فضائل ابن كثير ص44: ولا يصح الحديث موقوفًا أيضًا، لعدم صحة الأسانيد بذلك. اه وهو كلام لم نكن تنبهنا إليه عند كتابة المقال الأصل، لذلك لم نُدخل الحويني في المضطربين، فوجب الآن إلحاقه بهم، ولعله مغترّ باضطراب شيخه الألباني. ويبقى السؤال: لماذا صححه موقوفا على ابن مسعود في "النافلة"، ثم نقض ذلك في "الفضائل"، ثم عاد وأقرّ جامع "المنيحة" المؤلف بعد طبع "الفضائل" الموافق للنافلة؟ تصحيح ثم تضعيف ثم عودة للتصحيح، اضطراب أم نسيان أم تغير اجتهاد؟ وإن كان الاحتمال الأخير مخرجا، فهل يعترف الكاتب أن الحديث صحيح موقوفا عند شيخ مدرسته؟ رابعا: قال صاحبنا منير: (كما يفعل حاطبنا "ابن الأزرق" حيث يفرح بكل طريق كيفما كان حالها). قلت: هذه المقولة تكذبها جملتي في خاتمة المقال، حيث قلت: (وهناك طرق أخرى لم أذكرها لضعفها الشديد، وتجنبا للتطويل). فهل قرأها صديقنا وتجاهلها، فيكون ذلك تعمدا للكذب؟ أم يكون تكاسلَ عن قراءتها فيكون ملحقا بالمتهاونين المقصّرين؟ ولما كان الوصف بحاطب الليل من أقبح التهم في مجال علم الحديث، فصاحبنا ملزم بالحجة وإلا كان شاهد زور. والحجة هي أن يذكر للقراء مثالا وحيدا على طريق ضعيف جدا أوردته في مقالي لتقوية الحديث، فإن لم يفعل، ولن يفعل إلا إذا شاء العناد، وتقليد رموز تياره، فهو أولى بالوصف وأحرى. درس في تناقض وقصور الشيخ الألباني رحمه الله: كنت ذكرت الألباني ضمن المضطربين في الحكم على حديث فضائل القرآن، وقلت: (الشيخ الألباني: له موقفان من الحديث: الأول: الميل إلى تحسينه، ففي سلسلته الصحيحة (2/263)، أورد الحديث عن ابن مسعود مرفوعا، ثم قال: وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير الهجري، واسمه إبراهيم بن مسلم وهو لين الحديث... ه لكنه ناقض نفسه، فضعفه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" تحت رقم6842. وخلص الألباني في النهاية إلى تصحيحه موقوفا على ابن مسعود. ونلاحظ أنه لم يذكر في أي من الموضعين شاهده عن مولانا علي، وهذا قصور وغفلة غير مبررين لأنه يعرف حديث مولانا علي بدليل تعليقه عليه بالضعف في سنن الترمذي وغيره، فكان عليه أن يجيب على هذا السؤال: إذا كان طريق ابن مسعود ضعيفا، فهل يرقى إلى درجة الحسن بطريق أمير المؤمنين؟ أما رواية معاذ بن جبل، فالظاهر أن الشيخ لا يعرفها لأنه لم يذكرها في أي من كتبه. فقال الكاتب في ملاحظته الأولى: فهم ابن الأزرق من كلام الألباني رحمه الله: «وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات»، الميل إلى تحسينه، وهذا خطأ فاحش لا يتصور وقوعه من طالب مبتدأ في هذا العلم الشريف لعدة أمور (...) وهكذا يتبين لنا أن الشيخ رحمه الله لم يحسن الحديث يوما، ولم يتناقض في كلامه أبدا (...) ولكن العلة كل العلة في فهم "ابن الأزرق" لكلام علماء الحديث وطرائقهم في التصنيف. ه قلت: قول أخينا (طالب مبتدأ) لحن فاحش، يتنزّه عنه التلميذ (المبتدئ) بالهمزة على الياء وليس على الألف، لأن "المبتدئ" اسم فاعل، و"المبتدأ" اسم مفعول، وشتان بينهما. وأفحش من لحن النحو، لحن الفهم، فنحن لم ننسب للألباني تحسين الحديث، بل قلنا إنه "يميل إلى تحسينه"، أي كاد يحسّنه ولم يفعل، كقولك: "ملتُ إلى السقوط" من عين القارئ بسبب لحني اللغوي، فهو يعني أنك كدت تسقط. وكيف غاب عن الطالب المنتهي أنني أعتبر الحديث حسنا عند إمامه، وأنا ذكرته في المضطربين، بين الميل للتحسين، والتضعيف الصريح، والتصحيح وقفا على سيدنا ابن مسعود؟ وأُراني ملزما بتوضيح أوجه التناقض في كلام الشيخ، فأقول للطالب المقصّر في فهم أحكام إمامه: قول الشيخ: «وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات»، يستلزم أنه ضعيف ضعفا خفيفا يرقى إلى الحسن بأي متابع أو شاهد يشبهه في الضعف، وهو ما ذكره الكاتب في مقاله ظانا أنه يفيدنا، فله الشكر عليه. فهو حكم أخف من قوله في أكثر من موضع عن طريق ابن مسعود: (ضعيف)، دون اعتبار شواهده الكثيرة. وهما معا، غير تصحيح الحديث موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، وهذه أقوال الألباني الصريحة: قال في سلسلة الأحاديث الضعيفة (14/787): وقد وصله ... عبد الرزاق ... ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/39 1/ 8646) عن إبراهيم الهجري به موقوفاً، فهو الصواب. وقال في ضعيف الترغيب والترهيب (1/431) عن رواية ابن مسعود من طريق الهجري نفسه: وروي عنه موقوفاً، وهو الصحيح. ه فهل هو إسناد لا بأس به في المتابعات والشواهد؟ أم هو إسناد ضعيف؟ أم صحيح موقوفا؟ إن لم يكن هذا اضطرابا وتناقضا، فما هو إذن؟ نعم، يمكنك أن تدعي تغير اجتهاد الشيخ، وهذا لا يرفع التناقض لأنه لم يصرّح في آخر اجتهاداته بموقفه النهائي. ومن عجائبه رحمه الله المؤكدة لاضطرابه، والتي لم نكن راغبين في ذكرها لولا جعجعة الأتباع، أمران: الأول: جرت عادة الألباني في سلسلته الصحيحة أن يعطي للصحيح موقوفا على ابن مسعود أو غيره حكم الرفع، إذا كان مما لا يقال بالرأي والاجتهاد، كما في الأحاديث: 107 و642 و941 و1033 و1059 و1140... فلماذا لم يعتبر الألباني موقوف ابن مسعود في فضائل القرآن من قبيل المرفوع حكما، رغم أنه مما لا يقال بالرأي؟ أليس هذا تقصيرا أيضا؟ الثاني: قال الألباني في صحيح الترغيب - الحديث 2221: (صحيح لغيره): وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب، ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، وهي الموبقات يوم القيامة، اتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه، فما زال عبد يقول: يا رب ظلمني عبدك مظلمة، فيقول امحوا من حسناته. وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب، وإن مثل ذلك كسفر نزلوا بفلاة من الأرض، ليس معهم حطب، فتفرق القوم ليحتطبوا، فلم يلبثوا أن حطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا، وكذلك الذنوب. رواه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، ورواه أحمد والطبراني بإسناد حسن نحوه باختصار. ه قلت: قوله: (صحيح لغيره) يعني عند المبتدئ والمنتهي في علم الحديث أنه مروي من طريقين حسنين، فترقّى إلى الصحيح لغيره. وقد صرّح بأن طريق أحمد والطبراني حسن، فيكون طريق الهجَري عن أبي الأحوص عن عبد الله حسنا بمفرده حتما، وهو الطريق ذاته الذي يروي حديث ابن مسعود في فضائل القرآن. فلماذا يا شيخُ تضعّف ذاك، وتحسّن هذا؟ أوَليس هذا تناقضا واضطرابا إضافيا في الحكم على إبراهيم الهجري في كتاب واحد؟ وهل يستطيع شيعة الرجل أن يأتوني بتفسير منطقي؟ **** وقال الكاتب: (الشيخ الألباني جعل الجزء الأخير من حديث الباب كشاهد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه : "اقرءوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر، فتلك ثلاثون"، وفرق بين الاستشهاد بجزء من الحديث الصالح للمتابعات على صحة أو حسن حديث آخر، وبين تحسين الطريق الوارد بها ذلك الجزء (...) وكل من يفهم كلام المحدثين واصطلاحاتهم يعي تماما أن هناك فرق بين تحسين أو تجويد الحديث، وبين الاستدلال بطرف منه على صحة حديث آخر لنفس الصحابي راوي الحديث (...) ولكن العلة كل العلة في فهم "ابن الأزرق" لكلام علماء الحديث وطرائقهم في التصنيف). قلت: كل ما قاله الأستاذ منير هنا معروف مقرّر، لكن العلة فيه وفي إمامه رحمه الله، أما علته فهي عدم استيعابه للفرق بين قولنا: "يميل إلى تحسين الحديث"، وقوله: "حسّن الحديث"، وقد شرحنا ذلك آنفا. وأما علة إمام مدرسته، فهي الاضطراب في الحكم على حديث ابن مسعود، ثم التناقض في شأن إبراهيم الهجري، وهذا تقدم تفصيله، ونضيف إليه ما يجعل الكاتب يتحسّر على ضعف إحاطته بتصرّفات إمامه المضطربة، فنقول بإذن الله راجين رحمته للشيخ ولجميع البشرية أحياء وأمواتا: جرت عادة الألباني في كثير من كتبه على أن يضعّف حديثا ما، ثم يستثني فقرة منه، فيحسّنها بالشواهد المؤيدة لها، أليس كذلك يا منير؟ إذا وافقتني، وهو لازم لا محالة، فلماذا ضعّف إمامك حديث فضائل القرآن في مواضع كثيرة من كتبه، دون أن يستثني تلك الفقرة؟ ولا تقل: إنه أشار إلى حسنها واستثنائها لما قوّى بها حديثا آخر، إذ الجواب: كان على الشيخ أن يستثني الفقرة عند الكلام على حديث ابن مسعود أصالة لا تبعا، وسكوته أوحى لمقلّدته وشيعته بضعف الحديث كاملا، وهم معذورون طبعا. **** جاء في الملاحظة الثانية للكاتب: ( كيف يكون الحديث حسنا عند الشيخ رحمه الله وقد ذكر في سنده راو "لين الحديث"، وهذا اللفظ من ألفاظ الجرح التي تضع الراوي في خانة الضعفاء خفيفي الضعف، حيث يصلح حديثهم في الشواهد والمتابعات (...) ولكي لا يعتقد البعض أن الشيخ رحمه الله قد يشذ أحيانا فيحسن حديث من وصف ب "لين الحديث" سنرجع إلى كتبه ونبحث عن رأيه في الطرق والروايات التي فيها من كان هذا حاله، فنجده رحمه الله يحكم دائما كعادة المحدثين على حديثهم بالضعف، ومن ذلك: قال في كتاب " أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم 2 744: « فبما أن عمران هذا قد تفرد بهذا الحديث بهذا اللفظ؛ فهو لين الحديث، ضعيف »...). قلت: "ليّن الحديث" تجريح خفيف كما قال الكاتب، لكنه يواصل تأكيد عدم قدرته على التمييز بين الميل إلى التحسين الذي نسبناه للألباني، وبين التحسين الذي نقوّله إياه، وإنما فهمه الكاتب لمشكلة يعاني منها. وأما الدعوى بأن إمام مدرسته يضعّف حديث "اللّيّن" دائما، فهي خرافة تشهد بأنه لا يستوعب تصرفات مقلَّده، أو أنه يمارس التّعمية على الحقيقة المرّة، وما دام فتح هذا الباب من المآخذ على متبوعه، فمن اللاّزم البيان، فنقول: أولا: إن الغالب على أحكام الألباني هو تضعيف الأحاديث التي يجد في أسانيدها راويا لين الحديث عند ابن حجر، لكنه يشذّ ويناقض نفسه أحيانا، لأسباب لا ندريها، فيصحح أو يحسن رواية "لين الحديث"، وهذه أمثلة يبدو أن الكاتب لا يعرفها: المثال الأول: قال في سلسلة الأحاديث الصحيحة عن الحديث رقم 107: رواه الحاكم (2/126) والبيهقي (3/346) من طريق بشير بن مهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالا، غير أن بشيرا هذا قد تكلم فيه من قبل حفظه، وفي "التقريب" أنه صدوق لين الحديث. وقد خولف في إسناده... قلت: وافق الألباني الإمامين الحاكم والذهبي على أن الحديث صحيح على شرط مسلم، رغم إقراره بأن بشير بن المهاجر صدوق لين الحديث، فهو تجاوز التحسين إلى التصحيح، وربما يغتر أحدهم بصيغة "صدوق" الزائدة، فوجب التنبيه إلى أنها تدل على صدقه وبراءته من الكذب، فلا تنفي ضعف حفظه، وغالبا ما تستعمل في حق من اتهم في عدالته لتدليس ونحوه، لنفي الكذب عنه، وابن المهاجر من هذه البابة كما يعلم من ترجمته. ومن تناقضات الألباني أنه ضعّف الحديث 2576 من "السلسلة الضعيفة" بابن المهاجر، فقال: هذا إسناد ضعيف، رجاله ثقات رجال الشيخين غير بشير بن المهاجر فهو من رجال مسلم وحده، ولكن فيه ضعف قال الحافظ: "صدوق، لين الحديث". وترجمه الذهبي في "الميزان"، ونقل عن أحمد أنه قال: "منكر الحديث، يجيء بالعجب". ه ومن قارن بين ترجمتي إبراهيم الهجري راوي حديث فضائل القرآن، وترجمة ابن المهاجر، يدرك أن الأول أقوى منه بكثير، ومع ذلك فإن الألباني يضعّف له. المثال الثاني: قال عن إسناد حديث: "أول من يغير سنتي رجل من بني أمية" تحت رقم 1749 من الصحيحة: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير المهاجر وهو ابن مخلد أبو مخلد، قال ابن معين: " صالح ". وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجي: "صدوق". وقال أبو حاتم: " لين الحديث ليس بذاك وليس بالمتقن، يكتب حديثه ". قلت: فمثله لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن. ه قال الأنجري: سبحان الله، راو يقول عنه أبو حاتم الرازي ذلك كله، ويشير ابن معين إلى تليينه بصيغة "صالح"، وهما أعلم بالرجال من الحافظ ابن حجر، ويضعفه غيرهما ضعفا مفسّرا، (لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن)، وراو يليّنه الحافظ المتأخر جدا عن زمن النقد والرواية ضعيف عند الألباني، وهكذا يكون العلم. وهناك أمثلة على اضطراب الشيخ في "لين الحديث" عند ابن حجر، لا نطيل بعرضها، ويكفي هذان لتعليم الكاتب شيئا من تناقضات شيخه، ولردعه عن الادّعاء قبل البحث والتنقيب. ثانيا: ألّف الحافظ ابن حجر كتاب "التقريب" في بدايته وشبابه، وحاول فيه تلخيص أقوال النقاد في رجال الكتب الستة، فكان يصيب غالبا ويخطئ أحيانا في التلخيص، وهذه مسألة مشهورة عند علماء الحديث، ولأجل ذلك وضع الشيخان بشار معروف والأرنؤوط كتاب: "تحرير تقريب التهذيب"، والألباني يدري ذلك وينتقد الحافظ أحيانا على قوله في بعض الرواة: "ليّن الحديث". لكنه كان شديد الاعتماد على "التقريب" لكثرة مشاريعه ومنشوراته التي لم تكن تسمح له بالتحري في الغالب، وهذا من دواعي تناقضاته رحمه الله، فتراه يحكم على حديث بالضعف لأن الحافظ ليّن أحد رواته في التقريب، ثم يصحّح أو يحسّن لنفس الراوي حديثا آخر، وقد ضربنا مثالا على هذا فيما تقدم. وهاك شاهدا على أن الألباني عارف بحقيقة "التقريب": قال في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 60) (38 - 39) عن حديث يرويه مولانا حذيفة بن اليمان: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال مسلم... والوليد بن أبي الوليد هو أبو عثمان المدني مولى ابن عمر ويقال: مولى لآل عثمان. قال ابن أبي حاتم (4/2/20): " جعله البخاري اسمين، قال أبي: هو واحد. سئل أبو زرعة عنه؟ فقال ثقة " قلت: وهذا التوثيق مما فات الحافظ ابن حجر، فلم يذكره في ترجمة الوليد هذا من "التهذيب" ولم يحك فيه توثيقا سوى ابن حبان الذي أورده في "الثقات"(1/246) وهو متساهل في التوثيق معروف بذلك، ولذلك لا يعتمده المحققون من العلماء، وعلى هذا جرى الحافظ في "التقريب" فقال فيه: "لين الحديث". وظني أنه لو وقف على توثيق أبي زرعة إياه لوثقه ولم يلينه. والله أعلم. ه قلت: الوليد المدني "لين الحديث" عند الحافظ في "تقريب التهذيب"، لكن توثيقه راجح عند الألباني لأنه اكتشف قصورا للحافظ بالرجوع هذه المرة إلى أقوال النقاد ومقارنتها بتلخيص الحافظ. ولو أن الألباني حرّر ترجمة إبراهيم الهجري بعيدا عن التقريب، لبان له مثل النتيجة التي وصلها بخصوص الوليد العدني. ولكي نبرهن على أن الشيخ يغترّ بأحكام تقريب التهذيب، نختم بهذا المثال الصادم لشيعته: قال في "الصحيحة" عن الحديث رقم 928، ولفظه" من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه": قال الحاكم: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي... ويبدو لي الآن أنه كذلك، فإن رجاله كلهم - عدا الصحابي رجال مسلم، وقد كنت قلت في تعليقي على "المشكاة" (5036) : "إسناده لين". وذلك بناء على قول الحافظ ابن حجر في ترجمة الوليد هذا من "التقريب" لين الحديث. وهو أخذ ذلك مما ذكره في ترجمته من "التهذيب" وليس فيها من التوثيق غير قول ابن حبان في "الثقات": "ربما خالف على قلة روايته". قلت: وقد فاته قول ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/2/20): "سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: ثقة". ه قلت: جمع لنا هذا المثال بين التأكيد على ما قلناه في حق "تقريب" التهذيب، وبين إثبات اغترار الشيخ به اعترافا منه، فهل بعد هذا من كلام؟ خاتمة في النحو والأمانة والتحقيق قبل التعليق: قال المصنف/منير المرود رحمه الله في ختام رده علي: (ولا يسعني في نهاية هذا البحث إلا أن أترحم على درة عمر رضي الله عنه، وأن أنعي هذا الزمن الذي صار يتحدث فيه مثلي ومثل "ابن الأزرق" في أمور علمية عظيمة الشأن، مع التذكير بأن الأجزاء القادمة من الرد على تصحيحه لحديث فضائل القرآن، ستشهد فضائح حديثية لم أرها عند غيره، ولا يتصور وقوعها من طالب مبتدئ في هذا العلم الشريف). وأجاب المحشّي/ابن الأزرق حفظه الله، وجعله "درة" معنوية تقصم العقول المتخشّبة، بقوله: تفتقر يا أخي المرود إلى ثلاثة أمور حتى تجاريني وتلحق بي، فضلا عن إثبات (الفضائح) الحديثية بي، وهي: أولا: اتقاء اللحن النحوي لتحاشي اللحن الفكري: يشهد مقالك بأنك "لُحَنة" تنسى نصب اسم "أن" إذا فصله عنها كلام ولو كان قصيرا، وهذا نقص فاحش يتنزّه عنه المبتدئون، وهذه مواضع لحنك في اسم "أن": قلت في ردك: (يؤكد أن للعلماء منهج دقيق في ذكر تعدد الروايات)، وصوابه: (منهجا دقيقا) وقلت: (وكل من يفهم كلام المحدثين واصطلاحاتهم يعي تماما أن هناك فرق بين تحسين أو تجويد الحديث)، والصواب: (أن هناك فرقا). وقلتم رحمكم الله: (وما لا يعلمه "ابن الأزرق"، هو أن للمنذري في " الترغيب والترهيب " اصطلاح خاص به)، والحق أن ابن الأزرق يعلم (أن للمنذري اصطلاحا خاصا به) بالنصب لا بالرفع. ولم يقف لحنك عند اسم "أن"، فقلت مدافعا عن متبوعك: (كيف يكون الحديث حسنا عند الشيخ رحمه الله وقد ذكر في سنده راو "لين الحديث")، وكان عليك أن تنصب الرواي لأنه مفعول به فتقول: (ذكر في سنده راويا...). أما قولك: (لا يضمنون بحوثهم الحديثية إلا بما يعود بالنفع على القارئ)، فركاكة فاحشة، لا ترتفع إلا بحذف الباء من عبارة: (بما) قولا واحدا. وعند التعليل نقول: "لذا"، أي لهذا بحذف الهاء، ولا نقول كما في مقالك: (وكتاب "التسلية" غير متوفر لدي الآن، لدى لم أستطع الرجوع إلى كلام الشيخ الحويني هناك). ثانيا: الأمانة في النقل ميزان العقل: جربنا عليك الوقوع في بتر كلامي وأقوال العلماء، وهو نزغة من إبليس. ورأيناك تنسب لي ولغيري أشياء متخيلة، وهذه آفة تَصِم الباحث بالتلبيس. والباحث المؤمن ينبغي أن يكون أمينا في النقل، لأن المؤمن يطبع على الخلال كلها ما عدا الخيانة والتدليس. فكن موضوعيا محايدا، تستحق المجد وتبرأ من التدنيس. ثالثا: البحث والتحقيق دربك على الطريق: يبدو من مقالك، أعزّك الله، أنك لا تبذل الجهد المطلوب في تحقيق المسائل قبل الوقوع في الحبائل. فإنك لم تدرك اصطلاح المنذري اغترارا بإمام السلفيين البواسل، ولم تُحِط بأحكام شيخك المضطربة المتناقضة فهو طالع نازل، فأحسن استيعاب اجتهادات إمامك رحمه الله وألحقه بالسابقين الأوائل، واحتط من باحث مجدّ أمين ليس بالدخيل ولا الغافل. وارجع للتحدي الاضطراري المضمن في مقال: حديث "جئتكم بالذبح"، فإنه موجه إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أستاذ التربية الإسلامية، وخريج دار الحديث الحسنية، وخطيب جمعة موقوف بسبب مقالاته [email protected]