كنت استشهدت في مقال: "رأي في ضجة الإرث" بحديث نبوي شريف على أن فهم القرآن الكريم وتفسيره يتجدد عبر العصور، ولم أحل على أي مصدر وسكتّ عن بيان درجة الحديث من حيث الصحة لأنه مشهور معروف، مستشهد به عند كبار الأئمة. ونظرا لانتهاز بعض المعلقين فرصة سكوتي عن مصدر الحديث وحكمه، حيث ركزوا عليه وتركوا موضوع المقال وأسئلته الجوهرية، فإن بعض المتابعين طلبوا إلي رفع التشويش خصوصا وأن الحديث جليل في معانيه جميل في مبانيه، فأجبتهم عبر هذا المقال الموغل في التخصص، وأرجو أن يكون فرصة ليتعلم المتصيدون البحث والتحقيق قبل النقد والتعليق، وأن يكون عونا على فهم طريقة اشتغال علماء الحديث والإلمام بجانب من مبادئهم وقواعدهم. المحور الأول: نص الحديث الشريف: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لم تنته الجن حَتَّى قَالُوا: (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». إنه حديث جليل القدر غزير الفائدة، مضامينه محل تسليم اتفاقا، فهو يقدم أوصافا صادقة لكتاب الله الحكيم، وأما حكمه ودرجته فهو حديث صحيح، تعددت طرقه فاستحق أن يكون من نوع المشهور، هذا ما أدانا إليه البحث العلمي المهتدي بقواعد المحدثين وصناعتهم الصارمة، أما علماء الأمة فإنهم اختلفوا في الحكم على الحديث تصحيحا وتضعيفا، وقد سلم المصحّحون وأصابوا، وقصّر المضعفون وجازفوا وعطلوا المبادئ الحديثية التي يؤمنون بها، وفي مقدمتها التكاسل عن جمع ودراسة طرق الحديث وأسانيده المتعددة. المحور الثاني: مواقف العلماء من الحديث: الصنف الأول: المصحّحون لرفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: 1 الحاكم النيسابوري: أخرج الحديث في المستدرك على الصحيحين (1/741) من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد. ه 2 الحافظ المنذري: صدره في الترغيب والترهيب (2/231) بصيغة "عن" الدالة عنده على الصحة كما أوضح في مقدمة كتابه، ثم تبنى تصحيح الحاكم حيث قال: رَوَاهُ الْحَاكِم من رِوَايَة صَالح بن عمر عَن إِبْرَاهِيم الهجري عَن أبي الْأَحْوَص عَنهُ وَقَالَ: تفرد بِهِ صَالح بن عمر عَنهُ، وَهُوَ صَحِيح. ه الصنف الثاني: المرجّحون لكونه من كلام أحد الصحابة، ومنهم: 1 ابن الجوزي: أخرج حديث ابن مسعود في "العلل المتناهية" ثم قال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود، قال ابن معين: إبراهيم الهجري ليس حديثه بشيء.ه قلت: يبدو أن الحافظ ابن الجوزي لا يدري أن الحديث مروي عن رسول الله من طريق صحابيين آخرين، فيكون كلامه لاغيا، وأما اعتماده قول الإمام ابن معين دون غيره فتقليد جامد. 2 ابن كثير: قال في مقدمة تفسيره بعدما ذكر الحديث برواية مولانا علي: وَقُصَارَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَهِم بَعْضُهُمْ فِي رَفْعِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ لَهُ شَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر شاهد ابن مسعود برواية القاسم بن سلام وقال: فَيُحْتَمَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنْ يَكُونَ يقصد إبراهيم الهجري وَهِمَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ه قلت: خلاصة كلام ابن كثير أن متن الحديث ثابت من كلام أحد الصحابيين الكريمين، ولا يستبعد صحته عن رسول الله نظرا لتعدد طرقه، وهذا تقصير منه رحمه الله، نقول هذا لأن ابن كثير جزم بتصحيح أحاديث لا ترقى إلى حديث المقال بأي حال. 3 أبو إسحاق الحويني: صحّح الحديث من كلام سيدنا ابن مسعود في كتابي "المنيحة" و"النافلة"، واقتصر كلامه على حديث ابن مسعود، أي أنه لا يعرف طرقه الأخرى عن مولانا علي وسيدنا معاذ، وتلك علامة التقصير والتهاون في التحقيق، فحديث أمير المؤمنين في سنن الترمذي ومسند أحمد، وهما أشهر من المصادر التي خرجت حديث ابن مسعود. الصنف الثالث: المضطربون في الحكم على الحديث، ومنهم: 1 - الشيخ الألباني: له موقفان من الحديث: الأول: الميل إلى تحسينه، ففي سلسلته الصحيحة (2/ 263)، أورد الحديث عن ابن مسعود مرفوعا، ثم قال: وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير الهجري، واسمه إبراهيم بن مسلم وهو لين الحديث... ه لكنه ناقض نفسه، فضعفه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" تحت رقم6842. وخلص الألباني في النهاية إلى تصحيحه موقوفا على ابن مسعود. ونلاحظ أنه لم يذكر في أي من الموضعين شاهده عن مولانا علي، وهذا قصور وغفلة غير مبررين لأنه يعرف حديث مولانا علي بدليل تعليقه عليه بالضعف في سنن الترمذي وغيره، فكان عليه أن يجيب على هذا السؤال: إذا كان طريق ابن مسعود ضعيفا، فهل يرقى إلى درجة الحسن بطريق أمير المؤمنين؟ أما رواية معاذ بن جبل، فالظاهر أن الشيخ لا يعرفها لأنه لم يذكرها في أي من كتبه. 2 – المحقق حسين سليم أسد: قال في تعليقه على سنن الدارمي (2 / 523) عن حديث ابن مسعود: إسناده ضعيف لضعف إبراهيم الهجري. ثم قال في (2/527) عن حديث مولانا علي: إسناده حسن. ورغم أنه حكم أولا بالضعف على السند، فإنه خالف مبادئ علم الحديث، فكان عليه أن يقول: إسناده ضعيف لضعف الهجري، والمتن حسن بالشاهد عن مولانا علي، فإن عبارته توحي بأن سند ابن مسعود ضعيف جدا لا يقبل التحسين، والأمر ليس كذلك. الصنف الرابع: المضعفون المحتجون بالحديث: ومن هؤلاء العلامة الملا علي القاري فإنه قال في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1474)" عن رواية الحارث الأعور: فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ إِسْنَادُهُ وَإِنْ كَانَ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَاهُ، مَعَ أَنَّ الضَّعِيفَ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا. ه الصنف الخامس: المحتجون بالحديث دون بيان درجته: سواء كان الحديث صحيحا أو ضعيفا، فإن العلماء يستشهدون به في كتبهم على فضل كتاب الله ومزاياه، ومنهم: الثعلبي والفخر الرازي والقرطبي وأبو حيان في تفاسيرهم، وابن تيمية في الاستقامة والفتاوى الكبرى ودرء تعارض العقل والنقل، وتلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة... وغيرهم كثير من غير أن يعيب عليهم أحد. المحور الثالث: عرض طرق الحديث ورواياته: أولا: حديث مولانا علي بن أبي طالب: 1 - رواية الحارث بن عبد الله الأعور: قال الحارث: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ: أو قد فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فتنة، فقلت: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ ...» الحديث. وقد ورد عن الحارث الأعور من طرق عدة: أولا: طريق محمد بن كعب القرظي: قال ابْنِ إِسْحَاقَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وذكره. وهو مخرج في مسند أحمد بتحقيق شاكر (1/473)، ومسند أبي يعلى الموصلي1/302، ومسند البزار (1/155). وأخطأ الشيخ أحمد شاكر حيث قال: الظاهر أنه منقطع، لقول ابن إسحق: "وذكر محمد بن كعب القرظي" فإني لم أجد أنه روى عنه مباشرة، بل هو يروي في السيرة عنه بواسطة. ه قلت: بل صرح بالسماع من القرظي عند البزار والموصلي، وذكره مترجموه في الرواة عنه، وشاكر رحمه الله لم يكلف نفسه البحث والاستقصاء. ثم إن محمد بن كعب تابعي كبير، وكان كوفيا كالحارث الأعور، فكيف لا يسمعه ويجالسه؟ وهو ثقة من رجال الجماعة، فصح السند إلى الحارث الأعور. ثانيا: طريق ابن أخي الحارث: روى عَمرو بن قَيسٍ المُلاَئِيُّ، وداوُد بن عِيسَى النَّخَعِيُّ، ومِسعَرُ بن كِدامٍ، وأَبُو خالِدٍ الدّالاَنِيُّ، وعَبد الغَفّارِ بن القاسِمِ عَن عَمرِو بنِ مُرَّة، عَن أَبِي البَختَرِيِّ، عَنِ ابنِ أَخِي الحارِثِ، عَنِ الحارِثِ بن عبد الله الأعور، عَن مولانا عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّتَكَ سَتُفْتَتَنُ مِنْ بَعْدِكَ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُئِلَ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ الحديث مرفوعا. وهذا مروي في سنن الدارمي (4/2099)، وفضائل القرآن للفريابي ص182 وص184، ومسند البزار (1/156)، وسنن الدارقطني3/137. وعمرو بن مرة وأبو البختري سعد بن فيروز إمامان ثقتان. ورواه يحيى بن آدم وحُسَيْن بْن عَلِيٍّ الْجُعْفِيّ وعطاء ومالك بن سعير وشعيب بن صفوان، عن الإمام المقرئ حَمْزَةَ الزَّيَّات عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنِ الْحَارِثِ. وهذا في سنن الدارمي (4/ 2098) ح 3374 ، ومصنف ابن أبي شيبة (6/ 125) ح 30007 ، وسنن الترمذي ح2906، وفضائل القرآن للفريابي ص: 185، ومختصر قيام الليل للمروزي (ص: 173)، ومسند البزار(1/156)، والكامل لابن عدي (5/8)، وعلل الدارقطني3/137 و3/141، وتفسير البغوي1/58، والمخلصيات لأبي طاهر المخلص (3/ 60 و63)، وإيضاح الوقف للأنباري (1/ 5)، وترتيب الأمالي للشجري (1/ 120). وحمزة الزيات إمام ثقة، وشيخه أبو المختار الطائي: روى عنه جماعة من الأئمة منهم حمزة الزيات وشريك النخعي، وصرح ابن المديني وأبو زرعة الرازي أنهما لا يعرفانه، وجازف الذهبي في "ميزان الاعتدال" وابن حجر في "تقريب التهذيب" حيث قالا: مجهول. ه فالرجل معروف العين برواية حمزة وشريك، مسكوت عنه لم يجرح ولم يوثق، فجهالته خفيفة تنجبر بالمتابعات والشواهد. وقد أخطأ من ضعف السند بسببه، لأنه لم يتفرد به عن ابن أخي الحارث، بل تابعه أبو البختري الثقة كما تقدم، وتابعهما بكير بن عبد الله الطائي عند الدارقطني في العلل1/137، وهو موثق من رجال مسلم. فصح السند إلى ابن أخي الحارث، فما هو حاله؟ اسمه سعيد بن عمرو كما في علل الدارقطني. وحكم عليه الذهبي وابن حجر بالجهالة، وهي محمولة على جهالة الحال لأنه خال من الجرح والتعديل، أما جهالة العين فمرتفعة برواية أبي البختري وبكير الطائي. وأما جهالة حاله فمرفوعة لسببين: الأول: قال الحافظ المزي في ترجمة الحارث الأعور من تهذيب الكمال: قال بكر بن خنيس عن محمد بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن بكير الطائي: لما أصيب علي رضي الله عنه فشت أحاديث، ففزع لها من شاء الله من الناس فقالوا: من أعلم الناس بحديث علي؟ فقالوا: الحارث الأعور. فوجدوا الحارث قد مات، فقالوا: من أعلم الناس بحديث الحارث؟ قالوا: ابن أخيه. فأتوه فقالوا: هل سمعت الحارث يذكر في هذا شيئا؟ وأخبروه بما سمعوا، فقال: نعم، سمعت الحارث يقول: فشت أحاديث في زمن علي رضي الله عنه، فزعت فأتيت عليا فقال: ما جاء بك يا أعور؟ فقلت: فشت أحاديث فجئت لها، أنا من بعضها على يقين ومن بعضها في شك، فقال: أما ما كنت منه على يقين فدعه، وأما ما كنت منه في شك فهات، فأخبرته بما يقولون من الإفراط، فقال علي: إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أمته ستفتتن من بعده، فقال له: فما المخرج لهم؟ يعني من ذلك، فقال: في كتاب الله المبين الصراط المستقيم... وذكر حديث موضوعنا في المقال. وهذه الرواية الصحيحة إلى بكير الطائي تظهر أن ابن أخي الحارث كان مصدقا لدى تابعي الكوفة، ومرجعا علميا، فكفاه ذلك شرفا وتعديلا، أما الذين حكموا عليه بالجهالة، فينتظرون التوثيق الصريح من النقاد المتأخرين رحمهم الله، وتلك آفة تؤخذ على المحدثين. الثاني: لم يتفرد ابن أخي الحارث بهذا الحديث عن الحارث الأعور عن مولانا علي، فتابعه محمد بن كعب القرظي الثقة كما تقدم. وبهذه الطرق لا يبقى مجال للشك في أن الحارث الأعور روى الحديث عن مولانا علي، فما هو حال الحارث؟ هو الحارث بن عبد الله أبو زهير الهمداني الخارفي الأعور الكوفي، من كبار أصحاب مولانا علي وسيدنا عبد الله بن مسعود، واختلف فيه النقاد بين مضعف وموثق، والحق أنه ثقة كما سنبين في آخر المقال. وإن رجحنا ضعفه، فحديثه حسن بطريقي خالد التجيبي والحسن البصري ولا بد لأنها خالية كلها من الوضاعين أو المتروكين، فكل منها يقوي الآخر ويحسّنه، ثم تزداد قوة بشاهد عبد الله بن مسعود. 2 - رواية خالد التجيبي: قال الإمام الفريابي في فضائل القرآن ص: 185: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الحديث». قلت: رجال هذا الطريق ثقات، وابن لهيعة حدث قتيبة قبل الاختلاط، فيكون ثقة عند سماعه الحديث منه، وخالد بن أبي عمران هو التجيبي قاضي إفريقية الثقة، لكنه سمع كبار التابعين، ولم يدرك مولانا عليا، فيكون السند منقطعا سقط منه التابعي الذي سمع أمير المؤمنين وحدث القاضي التجيبي، وهذا من الضعف الخفيف عند المحدثين، أي أنه يصلح في المتابعات والشواهد، فيتقوى بها ويقوي غيره. وطريق التجيبي هذا لم ينتبه إليه أي من الذين تكلموا على حديث مولانا علي بالتصحيح أو التضعيف، فهم يظنون وجود طريق الحارث الأعور فقط. 3 - رواية الحسن البصري: روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 317) من طريق خالد بن أبي خالد السلمي قال: أخبرنا محمد بن راشد عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن عليا كان يخطب بالكوفة، فقام إليه ابن الكوا فقال: يا أمير المؤمنين، إنها قد فشت أحاديث. قال علي: وقد فعلوها؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون فتن، فقيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله عز وجل مرتين، فيه نبأ ما قبلكم ... الحديث وهذا طريق ضعيف بسبب عمرو بن عبيد المتكلم فيه بسبب مذهبه في الاعتزال، لكنه يصلح لتقوية الطرق الأخرى عن مولانا علي، وهو من الطرق التي خفيت على مضعفي الحديث حيث لم يذكره منهم أحد. النتيجة: حديث مولانا علي صحيح بطريق الحارث الأعور لأنه ثقة على الأرجح، وإن شئت تضعيفه، فهو حسن بمجموع طرقه لخلوها من الوضاعين والمتهمين، ثم يزداد قوة بطريقي الحسن البصري والقاضي التجيبي، وبشاهديه عن معاذ وابن مسعود رضي الله عنهما، هذا ما تفرضه قواعد المحدثين المقررة، ولا شيء بعد ذلك إلا العناد والتعصب. ثانيا: حديث سيدنا عبد الله بن مسعود: روى أَبُو مُعَاوِيَةَ ومحمد بن عمرو بن علقمة ومحمد بن عجلان وصالح بن عمر ويحيى بن عمر أو ابن عثمان الحنفي وعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ وعمار بن محمد الثوري ويَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ وَحَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَتَعَلَّمُوا مَأْدُبَتَهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةُ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، اتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ بِ {الم} وَلَكِنْ بِأَلْفٍ عَشْرًا، وَبِاللَّامِ عَشْرًا، وَبِالْمِيمِ عَشْرًا ". مصادره: مسند ابن أبي شيبة (1/251) ومصنفه 6/125، وفضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص 49)، والجليس الصالح (ص583) للمعافى بن زكريا، والمستدرك للحاكم النيسابوري (1/741)، والمجروحين لابن حبان (1/ 100)، وأخلاق أهل القرآن للآجري (ص 52)، ومختصر قيام الليل للمروزي (ص171)، والترغيب في فضائل الأعمال لابن شاهين (ص 69)، وتنبيه الغافلين للسمرقندي (ص: 421) ، وفضائل القرآن وتلاوته للرازي (ص 73) ، والسنن الصغير للبيهقي1/333، وشعب الإيمان (3/ 372) له، وتفسير البغوي (1/59)، والرد على من يقول الم حرف لابن منده (ص 50)، والعلل المتناهية لابن الجوزي (1/ 101) حكمه: قال الإمام الحاكم في المستدرك: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِصَالِحِ بْنِ عُمَرَ»، وأقره الحافظ المنذري في الترغيب، وخالفهما الذهبي وآخرون فضعفوه لسببين: الأول: إبراهيم الهجري ضعفه الجمهور من جهة حفظه، ومستندهم في ذلك قول تلميذه الإمام سُفْيَان بْنَ عُيَينة: أتيت إبراهيم الهجري فدفع إلي عامة حديثه، فرحمت الشيخ فأصلحت له كتابه فقلت: هذا عن عَبد اللَّه، وهذا عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا عن عُمَر. ه وهذا يعني أن كتابه كان يشتمل على ما هو من كلام النبي عليه السلام، وما هو من كلام أسيادنا عمر وابن مسعود، فكان ينسى فينسب كلامهما إلى رسول الله، وهو ما يعنيه قول ابن عيينة في رواية ثانية: كَانَ الْهَجَرِيُّ رَفَّاعًا، وَكَانَ يَرْفَعُ عَامَّةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَلَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثِ: أَنْ يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، قُلْتُ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ، وَقُلْتُ لَهُ: لَا تَرْفَعْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. ه والعجيب أن المضعفين لم يعتبروا قول ابن عيينة في رواية ثالثة: كان إبرهيم الهجري يسوق الحديث سياقة جيدة على ما فيه. ه أي رغم عدم تمييزه بين المرفوع من الموقوف، فإنه كان يحفظ المتون جيدا. ولم يلتفتوا كذلك إلى رواية الأئمة الكبار عنه كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج، ولو كان ضعيفا كما يزعمون لتركه ابن عيينة الخبير به، وكذلك شعبة المتشدد المتعنت في الرواة. لكنهم اعتبروا قول الإمام يَحْيى بن مَعِين المتأخر زمانا عن الهجري، والذي لم يفهم كلام ابن عيينة جيدا، فكان يجازف في حق إبراهيم الهجري ويقول: ليس بشَيْءٍ. ه وهذه عبارة قاسية لا يستحقها إلا من كثرت أخطاؤه وفحشت، أو كان مجهولا، أو متروكا. وأعدل الأقوال في الرجل قول ابن عدي في كتاب الكامل: وإبراهيم الهجري هذا حدث عنه شُعْبَة والثوري وغيرهما، وأحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإِنَّما أنكروا عليه كثرة روايته عَن أبي الأحوص عن عَبد اللَّه، وَهو عندي ممن يكتب حديثه. وأحسن منه ما نقله ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الإمام الفسوي قال: "كان رفاعا لا بأس به" هذا وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه أحاديث من طريق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود عن رسول الله، فهذا السند صحيح عنده، وهو الإسناد الذي يروي به الهجري حديث فضل القرآن. أما الإمام الحاكم النيسابوري، فأكثر من التخريج والتصحيح لإبراهيم وبالغ في الدفاع عنه وتبرئته فقال في المستدرك (1 / 512): هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وإبراهيم بن مسلم الهجري لم ينقم عليه بحجة. ه واضطرب الحافظ الذهبي، فأورد الهجري في الضعفاء، لكنه وافق الحاكم النيسابوري في تصحيحه لكثير من أحاديث الهجري، حتى إنه قال في تعليقه على تصحيح الحاكم (4/146) لحديث يرويه شعبة عن الهجري: على شرط البخاري ومسلم. ه الثاني: اضطراب الهجري بين رفعه ووقفه: روى جماعة من طريق إِبْرَاهِيمَ بن مسلم الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أنه قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ...". هذه الرواية في مصنف عبد الرزاق الصنعاني (3/ 375) ، وسنن الدارمي (4/ 2089) ، وسنن سعيد بن منصور (1/ 43)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 130)، وترتيب الأمالي للشجري 1/116 و1/ 155، وشعب الإيمان للبيهقي (3/ 371) وتفسير البغوي (1/ 59). وهي موقوفة على ابن مسعود، لذلك ذهب جماعة إلى ترجيح كون الحديث من كلامه رضي الله عنه، وهم مخطئون لأن الحديث مروي عن مولانا علي مرفوعا بإسناد صحيح أو حسن كما تقدم. وسبق أن إبراهيم الهجري كان يجعل كلام الرسول عن ابن مسعود والعكس، فالراجح أنه سمعه من مشايخه مرفوعا إلى رسول الله، لكنه نسي فرواه إلى ابن مسعود موقوفا، وأكثر تلامذته يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الرفع هو الصواب لذلك، ولوجود الشاهدين عن مولانا علي وسيدنا معاذ بن جبل. ثالثا: حديث سيدنا معاذ بن جبل: روى عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الفتن، فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله، فيه حديث ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم ... الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير (20/84) ومسند الشاميين (3/258)، وابن عدي في الكامل (5 / 118)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/253). وهو ضعيف بسبب عمرو بن واقد القرشي الدمشقي المتكلم فيه، وأعدل الأقوال بشأنه قول ابن عدي في كامله: وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه مع ضعفه. ه أي أنه مقبول في المتابعات والشواهد، بحيث تقبل رواياته التحسين إذا وردت من طريق مشابه لها في القوة، كما أنها تصلح لتقوية غيرها. وقول الذهبي في المغني وابن حجر في التقريب أنه متروك، خطأ فاحش منهما رحمهما الله، وتقليد بارد لبعض النقاد، فالرجل لم يترك، وابن عدي أعلم منهما بالرجال. وهذا الشاهد عن سيدنا معاذ بن جبل لم يذكره أحد من مضعفي الحديث، فهو علامة إضافية على قصور تحقيقهم. وتفيد رواية معاذ أن السائل عن المخرج من الفتنة هو مولانا علي، وهو ما تضمنته روايته من طريق الحارث الأعور، فهو شاهد صالح يعضدها ويزيدها صحة. الخلاصة الخاتمة: ورد حديث المقال عن ثلاثة من الصحابة الكرام، هم موالينا وأسيادنا علي وابن مسعود ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. أما حديث أمير المؤمنين فله طرق عدة، أحدها صحيح لذاته على مذهب من يرجح توثيق الحارث الأعور، أو حسن لغيره بالطرق المقوية له لخلوها من الضعف الشديد، وبالشاهدين الصالحين. وأما حديث ابن مسعود فحسن بمفرده لأن إبراهيم الهجري ليس ضعيفا، أو حسن لغيره نظرا لوجود الشاهدين. وأما حديث معاذ بن جبل، فإسناده ضعيف بسبب عمرو بن عبيد، ومتنه حسن بالشاهدين القويين. وهناك طرق أخرى لم أذكرها لضعفها الشديد، وتجنبا للتطويل. ولو رجحنا أن أسانيد حديثي مولانا علي وابن مسعود ضعيفة كلها، فنحن أمام حديث له ثلاثة طرق لا تخلو من ضعف يسير غير شديد لخلوها من الرواة الكذابين أو المجمع على تركهم، والقاعدة الحديثية المقررة تقول: كل حديث مروي من طريقين اثنين ضعيفين ضعفا خفيفا، فهو حديث حسن يحتج به ويعمل به إذا لم يكن مضمونه مناقضا لكتاب الله والصحيح من سنة رسوله. وعليه، فحديث فضائل القرآن حسن لزاما لأنه مروي من ثلاثة طرق، ضعفها خفيف منجبر حتى عند المضعفين المقصرين، ومضامينه تؤكدها آيات الكتاب الحكيم، وتشهد لها أحاديث النبي الكريم، وتدعمها وقائع الماضي والحاضر والمستقبل. ولا يكاد ينقضي عجبي من مضعفي حديث المقال رغم جلالة معانيه وفخامتها في الوقت الذي يدافعون عن صحة أحاديث منكرة المتون واهية الأسانيد، كحديث تأثير السحر في رسولنا الكريم ونحوه من الموضوعات المكذوبات الطاعنة في عصمته المسيئة لمقامه الكريم. ملحق ضروري لإثبات عدالة التابعي الكبير الحارث بن عبد الله الأعور: اختلف النقاد في هذا الجبل الإمام بين مضعف وموثق، وعمدة المجرّحين اتهام الشعبي له بالكذب، وهي تهمة ردّها المحققون المنصفون بالآتي: أولا: لم يذكر الشعبي أي مستند صحة اتهامه، فيكون كلامه لغوا، لذلك عاب عليه المنصفون حتى قال بعضهم إنه عوقب على مقاله في الحارث بأن سلط الله عليه إماما كبيرا من أئمة التابعين، هو إبراهيم النخعي، فاتهمه بالكذب في روايته عن مسروق، والجزاء من جنس العمل، ونحن نبرئ الرجلين من الكذب. أخرج ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" بإسناد صحيح عن الأعمش، قال: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي، فقال: ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئا. ثم قال ابن عبد البر: معاذ الله أن يكون الشعبي كذابا، بل هو إمام جليل، والنخعي مثله جلالة وعلما ودينا، وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أحد الكذابين، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره، ومن ههنا -والله أعلم- كذبه الشعبي؛ لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم. ه ثانيا: ناقض الشعبي نفسه، فكان يروي ما سمعه من الحارث ويحدث عنه بعدما اتهمه بالكذب، وفي ذلك برهان على أنه غير مقتنع بالتهمة أو أنه يقصد الكذب في الرأي لا في الرواية والتحديث، وعلى هذا حمل كلامه بعض المحدثين. لقد روى الشعبي عن الْحَارِثِ الأعور أحاديث، منها حديث مولانا علي رضى الله عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرة: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والحال والمحلل له ومانع الصدقة والواشمة والمستوشمة. وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود، وسنن النسائي المجتبى، وصحيح ابن حبان، وصححه الألباني في تعليقه على السنن. قال الإمام الترمذي في العلل الصغير: ويروى عن الشعبي: حدثنا الحارث الأعور وكان كذابا، وقد حدث عنه، وأكثر الفرائض التي تروونها عن علي وغيره هي عنه، وقد قال الشعبي: الحارث الأعور علمني الفرائض وكان من أفرض الناس. ه وفي كتاب الثقات لابن شاهين: قال أحمد بن صالح: الحارث الأعور ثقة، ما أحفظه وأحسن ما روى عن علي، وأثنى عليه، سمع عليا رضي الله تعالى عنه يقول: "من يشتري علمي بدرهم"، فذهب الحارث فاشترى صحيفة فجاء بها إلى علي فأملى عليه، قيل لأحمد بن صالح: فقول الشعبي: حدثنا الحارث وكان كذابا؟ فقال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. ه وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (4 / 153): فأما قول الشعبي: الحارث كذاب، فمحمول على أنه عنى بالكذب الخطأ، لا التعمد، وإلا، فلماذا يروي عنه ويعتقده بتعمد الكذب في الدين. ه وقال في ميزان الاعتدال (2/172): فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته، وأما في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم. ه قلت: الظاهر أنك تستحي أن تخطئ الشعبي رحمه الله، فمن كذب "في لهجته وحكاياته" لا يوثق به، والحارث أصدق وأتقى ولا حجة لمن جازف في حقه، وما يهمنا من كلامك أيها الإمام الجليل هو تبرئتك الرجل من الكذب في الرواية، أما توجيهك لقول الشعبي فمردود مرذول. وفي التقريب لابن حجر1/141: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف. ه قلت: الرفض لم يكن زمن الحارث، فالرجل من شيعة أهل السنة، والمعتمد في الرواة هو الصدق والضبط أما المذهب فلا دخل له ولا أثر حتى عند الحافظ ابن حجر، وقوله: "في حديثه ضعف"، من بنات أفكار الحافظ وزياداته على أئمة النقد والجرح، فلا نعتد به. ثالثا: كان الشعبي مجازفا يتهم العلماء بالكذب لأدنى شبهة، فقد رأيته يفعل ذلك بإبراهيم النخعي، حيث اتهمه بأنه يخدع الناس ويدلس عليهم، بل إنه تجرأ على أحد الصحابة بوقاحة نسأل الله أن يغفرها له: قال العلامة سيدي عبد العزيز الغماري في رسالته التي موضوعها الدفاع عن الحارث الأعور: ومعلوم أن الحارث كان أعلم بحديث علي - عليه السلام - من الشعبي، فلما سمع منه ما لم يبلغه من حديث علي عليه السلام - سارع إلى تكذيبه، وهكذا حاله حتى مع الصحابة فكيف بالحارث؟ فقد نقل الحافظ الذهبي في ترجمة الشعبي من " تذكرة الحفاظ " 1/83 عن الحاكم عن ربيعة بن يزيد قال: قعدت إلى الشعبي بدمشق في خلافة عبد الملك، فحدث رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعبدوا ربكم ولاتشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الأمراء، فإن كان خيراً فلكم وإن كان شراً فعليهم، وأنتم منه براء" فقال له الشعبي: كذبت. فهذه القصة فيها دليل بين على أن الشعبي كان سريع التكذيب لمن حدث بما لم يبلغه، فمن جعل طعن الشعبي في الحارث بالكذب حجة، فليجعله في تكذيب هذا الصحابي كذلك، مع أني أكاد أجزم بأن تكذيب الشعبي للحارث إنما هو من جهة رأيه لا غير. ه قلت: هذه القصة عند الحاكم في تاريخه، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وأوردها الذهبي في تذكرة الحفاظ وسير النبلاء أنموذجا على أن الناقد قد يطلق لفظ الكذب على الخطأ. وقد تبين لنا أن الشعبي كان يشك في سعة علم الحارث الأعور، لذلك كان يتهمه بالكذب، فيكون ما قاله العلامة الغماري في غاية الصحة: جاء في تذكرة الحفاظ (1/65) عن الشعبي قال: ما كنت أعرف فقهاء الكوفة إلا أصحاب عبد الله. فقال له قيس الأرقب: أفلا تعرف أصحاب علي؟ فقال: نعم. قال: فتعرف الحارث الأعور؟ قال: نعم، لقد تعلمت منه حساب الفرائض والجد، فخشيت على نفسي منه الوسواس، فلا أدري ممن تعلمه. ه قلت: تعلمه من مولانا علي وسيدنا ابن مسعود أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخوفك منه هو الوسواس ذاته، والله يرحمك ويرحم كل المسلمين. وبما تقدم، لا نتردد في اتهام كل الذين تأثروا بدعوى الشعبي رحمه الله بالتقصير والمجازفة، حيث تبنوا مقولته في الحارث من غير تحقيق ولا تبصر، ومن غير مراعاة لثناء الصحابة وسادات التابعين عليه، وهم أجل من الشعبي بكثير. رابعا: إن عدالة وصلاح الحارث الأعور ثابتة راسخة رسوخ الجبال لا يزحزحها مقال الشعبي وأضرابه غفر الله لهم، وهذه حجج ذلك وبراهينه القاطعة: قال عامر الشعبي الذي جازف في حق شيخه: لقد رأيت الحسن والحسين رحمهما الله يسألان الحارث الأعور عن حديث علي. رواه أحمد في العلل، وابن سعد في الطبقات، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل قال الإمام حمزة السهمي في تاريخ جرجان: وهذا يدل على أن الحارث صحيح في الرواية عن علي، ولولا ذلك لما كان الحسن والحسين مع علمهما وفضلهما يسألان الحارث، لأنه كان وقت الحارث من هو أرفع من الحارث من أصحاب علي، فدل سؤالهما للحارث على صحة روايته، ومع ذلك فقد قال يحيى بن معين: ما زال المحدثون يقبلون حديثه، وهذا من قول يحيى بن معين الإمام في هذا الشأن زيادة لقبول حديث الحارث وثقته. ه وقال سيد التابعين محمد بن سيرين: أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثنى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة الثالث لا شك فيه، ثم مسروق ثم شريح، وان قوما أحسنهم شريح لقوم لهم شأن. ه رواه ابن عدي في الكامل، والفسوي في المعرفة، وابن عساكر في تاريخه. وقال ابن سيرين أيضا: كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره، وكان يفضل عليهم وكان أحسنهم، ويختلف في هؤلاء الثلاثة أيهم أفضل: علقمة ومسروق وعبيد. (تاريخ البخاري وتاريخ دمشق وميزان الاعتدال) قلت: ابن سيرين أعلم وأتقى وأعرف بالرجال من الشعبي وعشرة مثله، وأهل الكوفة الذين كانوا يقدمون الحارث ويفضلونه هم أهل العلم والدين، وهو ما تؤكده الرواية المتقدمة عن بكير الطائي قال: لما أصيب علي رضي الله عنه فشت أحاديث، ففزع لها من شاء الله من الناس فقالوا: من أعلم الناس بحديث علي؟ فقالوا: الحارث الأعور. فرجل يتعلم منه سيدا شباب أهل الجنة، ويمدحه مثل ابن سيرين، ويقدمه أقرانه من علماء الملة، لا يتهمه في صدقه إلا متحامل مجازف بدينه أو مقلد لا يدري خطر التقليد الأعمى. خامسا: لأجل ما تقدم، فإن بعض المحدثين أنصفوا الحارث رحمه الله فوثقوه وصدقوه، ودل موقفهم على عدم قبولهم مقال الشعبي ومن قلده، وهم: 1 الإمام العجلي حيث أورده في ثقاته1/278. 2 الإمام يحيى بن معين، قال في تاريخه3/360: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة. 3 أبو داود السجستاني، حيث أخرج بعض أحاديث الحارث وسكت عنها، وقاعدته أن المسكوت عنه صالح للاحتجاج به. 4 النسائي: قال عنه: ليس بالقوي. وهي عبارة يطلقها النسائي على أصحاب درجة الحديث الحسن، لذلك قال عنه في موضع آخر: ليس به بأس، وأخرج له في المجتبى. وفي ميزان الاعتدال للذهبي (2 / 172): وحديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به وقوى أمره. ه وانتقده ابن حجر في التهذيب زاعما أن النسائي لم يخرج للحارث مفردا فأخطأ رحمه الله، والصواب مع الذهبي فإن النسائي روى للحارث حديث الملعونين العشرة دون أن يكون مقرونا بغيره. 5 الإمام الترمذي: أخرج حديث الحارث عن مولاي علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمسلم على المسلم ست بالمعروف... الحديث ثم قال: هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم بعضهم في الحارث الأعور. ه وروى له حديث: يا علي أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي، لاتقع بين السجدتين. وقال: هذا حديث لا نعرفه من حديث علي إلا من حديث أبي إسحق عن الحارث عن علي، وقد ضعف بعض أهل العلم الحارث الأعور، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، يكرهون الإقعاء. قلت: حسن حديثه، ولم يتبنّ كلام "البعض" في الحارث، فهو عنده حسن الحديث. 6 الإمام أحمد بن صالح المصري: قال ابن شاهين في تاريخ أسماء الثقات: قال أحمد بن صالح: الحارث الأعور ثقة، ما أحفظه وأحسن ما روى عن علي وأثنى عليه. 7 ابن شاهين، فإنه أورده في ثقاته وتبنى قول ابن صالح فيه. 8 الأمير الصنعاني صاحب سبل السلام: قال في شرح الجامع الصغير (1/206): قد بينا كلامهم في الحارث المذكور وما عليه من رسالتنا (ثمرات النظر في علم الأثر) بما يقتضي توثيقه. 9 العلامة المحدث عبد العزيز بن الصديق: ألف رسالتين في توثيق الحارث، الأولى بعنوان: "الباحث عن علل الطعن في الحارث"، والثانية بعنوان: "نكث الناكث المعتدي بتضعيف الحارث"، وقال في إحداهما: إن الحارث ثقة عدل رضي، وثقه جماعة السلف والخلف، واعتمدوا على روايته واحتجوا بحديثه، لأنه إمام من أئمة العلم والحديث في الكوفة. قال: وقدمه أهل الكوفة على غيره في العلم وفي الصلاة بهم، في الوقت الذي كانت عامرة بسادات التابعين وأئمة العلم والحديث في الكوفة. ه الحائرون المضطربون في الحارث الأعور: 1 ابن حبان: كان هذا الإمام يذهب إلى تضعيف الحارث الأعور تقليدا لمن سبقه إلى ذلك من المجازفين، فترجمه في المجروحين قائلا: كان غالياً في التشيع واهياً في الحديث. لكنه تراجع فأورده في كتاب الثقات (4/130)، وأخرج له في صحيحه (8/44) حديث ابن مسعود: "آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة". 2 الذهبي: قال في سير أعلام النبلاء (4 / 152): الحارث الأعور هو العلامة الإمام أبو زهير، الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد الهمداني الكوفي صاحب علي وابن مسعود، كان فقيها كثير العلم على لين في حديثه. حدث عنه الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن مرة، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم. قلت: قد كان الحارث من أوعية العلم، ومن الشيعة الأول (...) وهو ممن عندي وقفة في الاحتجاج به (...) وقد استوفيت ترجمة الحارث في "ميزان الاعتدال" وأنا متحير فيه، وتوفي سنة خمس وستين بالكوفة. ه والخلاصة أن الحارث بن عبد الله الأعور ثقة ظلمه من جرحه في عدالته أو ضبطه، وفي الرواة مظلومون كثر من قبل النقاد، وفيهم من لا يستحق فلسا لكنهم وثقوه وعدّلوه، وللتعصب المذهبي الدور الأكبر في تجريح الصادقين وتعديل الفاسقين، فلا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين. * أستاذ التربية الإسلامية [email protected]