في هذه السلسلة، نناقش أحاديث يعتمدها العلماء التقليديون في احتقار المرأة وإقصائها من الحياة العامة، وهي أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محرّفة بفعل الرواية بالمعنى الخطأ، أو هي أقوال الصحابة والتابعين نسبت إلى الرسول عليه السلام. وهي (أحاديث) يستغلها الخصوم للطعن في النبوة والسنة والدين، وتنتج كوارث سياسية واجتماعية في بلاد المسلمين. وقد نجح هذا النوع من (الأحاديث) في الرواج بسبب آثار الجاهلية المحتقرة للأنثى، وتغلغل الإسرائيليات وتلقيها بالقبول من قبل السلف أيام التابعين. ونفتتح سلسلتنا بحديث محرف يحتج به المحافظون على نقصان عقل ودين المرأة: روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله وعظ النساء في يوم عيد أضحى أو فطر فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها). هذا الحديث تلقاه علماؤنا كما يتلقى القرآن، لأنه مروي في الصحيحين "المعصومين" عندهم، ولم يكلفوا أنفسهم جمع طرقه ورواياته لاستكشاف أسباب الخلل، ولا سمحوا لأنفسهم بتأمل متنه وعرضه على القرآن والعقل لاستكشاف ونكارته، بل جعلوه حجة على أن معظم نساء المسلمين سيدخلن النار لأنهن "ناقصات الدين"، متجاهلين أن رجال المسلمين أظلم وأجرم عبر تاريخ الأمة، واتخذوه برهانا على نقصان عقل المرأة وعدم أهليتها للفتوى والقضاء والحكم... ولم يسلم كبار العلماء القدامى من القدح في دين المرأة وعقلها بناء على هذا الحديث المحرّف، واقرأ ما قاله ابن حزم العقلاني في "الفصل"، والمفسرون كابن كثير في تفسير قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، وشرّاح الحديث في الصحيحين كالنووي وابن حجر، تراهم مجمعين على الباطل، متناسين أن المرأة هي أمهم التي أنجبتهم وتفننت في تربيتهم روحا وعقلا وبدنا، وأنها الزوجة الحافظة لمصالحهم الحريصة على أبنائهم، وأنها الأخت التي يفيء إليها الأخ في المهمات، وأنها البنت التي يستأمنها الأبوان على إخوتها إذا غابا... هذا، وليس في الرجال بعد الأنبياء عليهم السلام، باستثناء قلة كمولانا علي وولديه السبطين وسيدنا أبي بكر الصديق، من يبلغ إيمان وعقل حوّاء أم البشرية، وآسية زوج فرعون، ومريم أم عيسى، وخديجة زوج المصطفى، وفاطمة أم الشرفا، فلا كلام بعد هذا مع من ينتقص قدر المرأة ويحتقر دينها وعقلها. وإننا نقسم بأغلظ الأيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، وإنما قال شيئا آخر مشابها في مناسبة أخرى، فأخطأ الرواة، وحرفوا كلامه وغيروه تبعا لمعتقداتهم الجاهلية عن المرأة، ثم خلطوا كلام النبي عليه السلام بقول للصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. الأدلة على استحالة صحة هذه الرواية المنكرة شرعا وعقلا وخلقا: الدليل الأول: إن النبي صلى الله عليه وسلم صاحب "خلق عظيم"، و"رحمة للعالمين"، و"بالمومنين رؤوف رحيم"، وداع إلى الله "بالحكمة والموعظة الحسنة"، ولم يكن "فظا غليظ القلب"... فيستحيل أن يبشر نساء وبنات أصحابه المؤمنات بأن أكثرهن في النار يوم القيامة، وأن ينعتهم بنقصان العقل والدين في وجوههن، فإن ذلك خلق سيئ وقسوة وعبث يتنزه عنه الدعاة الربانيون فضلا عن الأنبياء والمرسلين. الدليل الثاني: لو فرضنا أن أكثر نساء الصحابة وبناتهم من أهل النار، وأنهن ناقصات، فإن إخبارهن بذلك يوم العيد وفي سياق الحث على الصدقة، قلة حياء وجهل بآداب الدعوة إلى الله يستحيل أن يصدرا عن رسول الله الموصي بالقوارير خيرا. تصوروا أن واعظا أراد أن يحث قوما على عمل صالح، فبدأ نصيحته بقوله: معشر الناس، إنكم ناقصو العقل والدين، لذلك سيكون أكثركم في النار، فتصدقوا وأنفقوا في سبيل الله. فهل يكون هذا الواعظ أحمق سفيها عند العقلاء أم لا؟ الجواب: إنه كذلك قولا واحدا، ومحال أن يفعل ذلك نبي مرسل. الدليل الثالث: إذا كان أكثر نساء الصحابة في النار، فلا فضل للصحبة التي أكرمهن الله بها، ولا قيمة للتربية النبوية، ولا شرف للجيل الأول من المسلمين خير القرون. وإذا كان غالب نساء القرن الأول في النار، فماذا يكون مصير نساء الأجيال بعدهم؟ إن النبي لا يمكن أن يقول ذلك عن أمته الموعودة بأن تكون أكثر أهل الجنة. الدليل الرابع: يستحيل شرعا وعقلا أن يكون كفران العشير واللعن الكثير سببا في استحقاق أكثر المسلمات النار، وأن يكونا عاملا في كون أكثر أهل النار نساء، فجرائم الرجال وموبقاتهم لا تقارن بنكران العشير واللعن الكثير. فالرجال يقتلون ويظلمون ويسرقون ويغتصبون ويغشون... فالمنطق الشرعي والعقلي يقتضي أن يكون غالب أهل النار رجالا إذا كانت المعاصي هي المعيار. فهل يعقل أن يغيب ذلك عن الرسول عليه السلام؟ الجواب بالنفي قطعا، فيستحيل صدور هذا الكلام عن نبي الله، والصواب أن النساء الكافرات أكثر من الرجال الكافرين في آخر الزمان، ولذلك سيكون عددهن في النار أكثر من عدد الرجال، فالكفر بالله هو السبب الأعظم، ولا علاقة للمسلمات المؤمنات بعدد أهل النار. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعَهُ مِنْهُ: « إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَفْشُوَ الزِّنَا وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ وَتَبْقَى النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ ». رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وفي رواية صحيحة عند أحمد والحاكم: « لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله! وحتى تمر المرأة بقطعة النعل، فتقول: قد كان لهذه رجل مرة، وحتى يكون الرجل قيم خمسين امرأة، وحتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض ». والعالم اليوم يتجه نحو هذا المصير، فالمواليد من الإناث أكثر مقارنة بالذكور حسب الدراسات والأبحاث المعاصرة. وسيأتي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الصريح في أن الكفر بالله هو سبب دخول النساء الكثيرات النار. الدليل الخامس: وصفت الرواية المرأة بنقصان العقل، وهذا مخالف للقرآن الذي يصرح بأن الإنسان، أي الذكر والأنثى، خلق (في أحسن تقويم)، ويوجه الخطاب التكليفي للجنسين على حد سواء، ويناقض العلم الذي أثبتت أبحاثه أن الرجال والنساء متساوون في الملكة العقلية، وأن التنشئة الاجتماعية أو الخصائص الوراثية هي التي تجعل الإنسان أذكى وأعقل من غيره سواء كان ذكرا أو أنثى، ففي الرجال من هم أعقل من عموم النساء، وفي الإناث من هن أعقل من جمهور الرجال. والغالب في الرجل أن يكون أذكى من المرأة فيما جعله المجتمع من مهامه كالصناعة والتجارة، والغالب في المرأة أن تكون أذكى من الرجل فيما عده المجتمع من وظائفها كتربية الأبناء. وفي التصرفات والأفعال، تؤثر العواطف والأمزجة على الرجل فيكون أغبى من المرأة أحيانا وأعقل منها أحيانا، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة. فالرجل إذا سمع زوجته تخاصم امرأة ينصحها بالصبر والتجاوز فيكون أعقل، لكنه لا يكون كذلك إذا تعرض للاستفزاز من ذكر مثله، بل تكون المرأة أعقل في هذه الحال، فتنهى زوجها عن الخصام والتقاتل وترشده إلى الحلم والتحمل. ومن أمحل المحال أن ينطق رسول الله بما يناقض القرآن أو العلم، فلا يجوز أن ننسب إليه هذا الكلام التافه. الدليل السادس: الحكم على عقل المرأة بالنقصان بناء على أن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، استنباط خطأ لا يتفوه به رسول الله، فالقرآن تعامل مع شهادة المرأة بصور مختلفة حسب نوع الشهادة. ففي مجال السلف والقرض قال سبحانه: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء، أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى). فرّق الله هنا بين الرجل والمرأة بناء على أن النسيان أسرع إلى النساء في مجال المال الذي يكاد يكون خاصا بالرجال، وذلك قوله سبحانه: (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى). وتؤكد الدراسات والأبحاث والتجارب أن المرأة تنسى سريعا بعض القضايا كالإهانة والإساءة، بينما يسرع النسيان إلى الرجل في مجال الحب والعاطفة، فالمرأة إذا مات زوجها تبقى ذاكرتها شغالة مدة أطول من الرجل الذي تموت زوجه، وربما تمتنع عن الزواج وتفضل الترمل لعدم قدرتها على نسيان زوجها، أما الرجل فينسى أسرته كلها لو ماتت في وقت قصير. فالنسيان لا يدل على نقصان العقل، وإلا كان الرجل أنقص العقل من المرأة لأنه ينسى قبلها كثيرا من القضايا. وقال الله تعالى في مجال اللعان: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَن لَعْنَة اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَن غَضبَ اللَّه عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ). ونرى هنا المساواة الصريحة بين الرجل والمرأة في الشهادة لأن النسيان لا يتطرق إلى أحدهما في هذا المجال، بل يكون المعيار هو الصدق والكذب، وحيث لا يوجد شهود غير الزوج المدعي والزوجة المنكرة، فهما في الصدق والكذب سواء، لأن عقلهما سواء. وبناء على هذا المجال، ودون نظر إلى سابقه، يمكنك أن تقول: شهادة الرجل مساوية لشهادة المرأة. وقال الله سبحانه في الإشهاد على الطلاق أو الرجعة: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). قوله تعالى: (ذوي عدل منكم)، يصدق على رجلين وعلى امرأتين وعلى رجل وامرأة، وليس حصرا في رجلين كما يدعي المحافظون، بدليل أن الله قال في مجال الدين: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، فهذه خاصة بالرجال، أما (ذوي عدل منكم) فلا، وإلا كان التنويع في التعبير القرآني عبثيا. إن (ذوي عدل منكم) تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، حسب العادات والأعراف، وشريعة الإسلام تحترم الأعراف التي تخدم مصالح الناس. فإذا كان المجتمع لا يرضى إلا شهادة رجلين عدلين في مجال الزواج والطلاق، كانا هما (ذوي عدل)، وإذا تغيرت الظروف والأحوال، واستطاعت المرأة أن تثبت جدارتها كما هو الحال في العصر الحديث، نظرا للقفزة الهائلة التي عرفتها، جاز أن يكون (ذوي عدل) امرأتين أو امرأة ورجل. ومن هنا نقول: إن تولي المرأة لوظيفة "العدول" أمر تتقبله الشريعة الإسلامية بنص الآية المتقدمة، خلافا لما يعتقده جماهير الفقهاء تقليدا للفقه الموروث عن أجيال كانت المرأة فيها مقصية مقهورة. ومن أغرب المفارقات أن معظم الدول الإسلامية تقبل تولي المرأة مهمة القضاء، وهي أخطر وأعظم من "العدول"، فمتى يصحو العقل المسلم؟ والخلاصة أن القرآن يساوي بين شهادة المرأة والرجل في مجال الزواج والطلاق والرجعة، وذلك يستلزم تساوي عقليهما. والنتيجة أن شهادة الرجل الواحد المعروف بالصدق مقدمة على شهادة المرأة الواحدة المشهورة بالصدق في مجال التداين فقط، نظرا لإسراع النسيان في مجال المال إلى المرأة مقارنة بالرجل، وليس لتفاوتهما في القدرات العقلية، وشهادتهما متساويتان فيما لا يلحقه النسيان. هذا، وشهادة الرجل الواحد الصادق لا تقبل في مجال الزنا، بل ولا شهادة ثلاثة رجال صادقين، وشهادة رجل واحد مردودة في مجال التداين والزواج والطلاق والرجعة، فدل ذلك كله على أن تكثير العدد احتياطي لا علاقة له بقوة العقل والذكاء، فربما يكون عقل رجل واحد أكمل من عقول أربعة أو اثنين، لكن الاحتياط لحقوق الناس يقتضي تقديم شهادة الأكثر على شهادة الواحد ولو كان صديقا. هذا ما يقرره القرآن بعيدا عن النظرة الفقهية الموروثة النابعة من بقايا الجاهلية والدسائس اليهودية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولا توجهه الموروثات الجاهلية، ولا خرافات اليهود، ويستحيل أن يغيب عنه ما قرّره الوحي النازل عليه، فنقسم بالله أنه لم يفرق بين عقل الرجل والمرأة، ولم يصفها بالنقصان، وأن ذلك كلام غيره نسب إليه سهوا أو عمدا. الدليل السابع: نقصان الدين يعني نقصان الإيمان، والحيض كمال في المرأة كما أن عدم الإنجاب كمال في الرجل، والله سبحانه وتعالى هو الذي حرم على المرأة الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس، وترك الحرام طاعة توجب الثواب، فتكون المؤمنة مثابة على عدم صلاتها وصومها تنفيذا لأمر الله، ثم تثاب على قضاء الأيام التي أفطرتها. والحيض والنفاس نوع من المرض، والمريض يؤجر على ما اعتاد فعله من عمل صالح قبل المرض كما أخبر النبي عليه السلام في الصحيح، فتكون الحائض والنفساء مأجورة حتما على الفريضة والنافلة المحظورة عليها. فهل بعد هذا يمكن أن يصدق مسلم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف النساء بنقصان الدين/الإيمان بسبب الحيض والنفاس؟ الدليل الثامن: روى الإمام مَالِكٌ في الموطأ 2/260، رواية يحيى الليثي، عَنْ شيخه زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ (...) ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَاذْكُرُوا اللهَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئاً فِي مَقَامِكَ هذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ. فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُوداً، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»، قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ»، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ». ومن طريق مالك يرويه أحمد ح2711 والبخاري ح 1052 وح 5197 ومسلم ح 907 وغيرهم. دل هذا الحديث الصحيح النظيف سندا ومتنا على عدة أشياء: الأول: المناسبة التي أخبر فيها الرسول بأن النساء أكثر أهل النار لم تكن مناسبة عيد، فتأكد ما استقبحناه في الدليل الثاني. الثاني: الخطبة التي أخبر فيها بذلك لم تكن خاصة بالنساء، بل كانت عامة، وكان الرجال أغلب الحاضرين، فتيقنا ما قلناه في الدليل الأول. الثالث: جملة: (قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ»)، صريحة في أن النساء الكثيرات في جهنم هنّ الجامعات بين الكفر بالله وبالعشير والإحسان، فثبتت براءة المؤمنات من ذلك الوعيد الشديد، وظهر التحريف الذي لحق بكلام النبي عليه السلام. وقد حاول بعض المحدثين التشكيك في "الواو" الواردة في جملة: "ويكفرن العشير"، والدالة على أن النسوة المقصودات كافرات بالله قبل أن يكن كافرات بالعشير، وكونها في الموطأ من رواية يحيى الليثي آخر من سمع من الإمام مالك، وموافقتها للمتواتر من دين الله، يدحض محاولة هؤلاء المحدثين غفر الله لهم، فكأنهم يحرصون على تحقير المرأة بأي سبيل. وجملة: (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ») زيادة تفسيرية مدرجة من أحد الرواة حتما، لأنها لم ترد إلا في طريق زيد بن أسلم، ولأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفرن العشير ولم يكثرن اللعن، فلا يقولها رسول الله بحال، ولو أن أمهات المؤمنين فعلن ذلك لسترهن رسول الله، وآفة الأخبار رواتها. الرابع: عبارة: "وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" لا تحكم على جمهور نساء الصحابة والمسلمين بالنار، خلافا لجملة: "رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ" المنكرة القبيحة، فتأكد تحريف كلام رسول الله. ولم ينفرد زيد بن أسلم بهذه الرواية الصحيحة، فروى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وصَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، وأيوب وسعيد بن أبي عروبة عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَظَرْتُ فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءُ، وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ» (مسند أبي داود الطيالسي ح 2882 ومسند ابن الجعد ص447 ومسند عبد بن حميد ح691 ومسند أحمد ح2086 وح3386 وصحيح البخاري ح3241 وح5198 و6449 وصحيح مسلم ح2737). ولم ينفرد سيدنا ابن عباس بهذه العبارة الدقيقة الموافقة لما قلناه في الدليل الرابع: فعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نظرت إلى الجنة فرأيت أكثر أهل الجنة الفقراء، ونظرت في النار فرأيت أكثر أهل النار النساء. (مصنف عبد الرزاق 11/305 ومسند ابن الجعد ح 3049 ومسند الطيالسي ح872 ومسند أحمد ح19852 وح19927 وح19982 وصحيح مسلم ح2738) وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْمَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإِذَا أَهْلُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ» (صحيح البخاري 5196 وح6547 وصحيح مسلم ح2736) فتأكد أن عبارة: "رأيتكن أكثر أهل النار" أو ما شابهها وقاربها محرفة عن العبارة المحفوظة: (أَكْثَر أَهْلِهَا النِّسَاءَ). الدليل التاسع: وردت موعظة النبي للنساء يوم العيد من طرق كثيرة صحيحة خالية من تلك العبارات القبيحة المحتقرة للمرأة، فترجح أنها زيادات وتحريفات من الرواة: رواية سيدنا الخدري: روى الثقتان داود بن قيس وابن نمير عن الثقة عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ، فَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ، ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَرَهُمْ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا»، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. (أخرجه عبد الرزاق ح 5634، وابن أبي شيبة ح9808، وأحمد ح11315، ومسلم ح889، والنسائي ح1576، وابن ماجه ح1288، وابن حبان ح3321). تقول هذه الرواية: (وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ)، وكن يتصدقن بحليّهنّ كما جاء مبينا في غير هذه الرواية، فدل ذلك على قوة إيمانهن وكمال دينهن، فكيف ينعتهن النبي بالنقصان؟ وشذ زيد بن أسلم فروى الحديث عن عياض عن أبي سعيد الخدري محرّفا مشتملا على تلك القبائح، مزيدا في آخره، فقال في روايته: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: (أيها الناس تصدقوا). فمرّ على النساء فقال: ( يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ) . فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ( تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء) . قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل)؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها). ثم انصرف. فلمَّا صارَ إلى منزلِه، جاءَت زَينبُ امرأةُ ابنِ مسعودٍ تستأذنُ عليه، فقيل: يا رسول الله! هذه زينب. فقال: "أيُّ الزيانبِ؟ "، فقيل: امرأةُ ابنِ مسعودٍ. قال: "نعم، ائذَنوا لها". فأُذِنَ لها، قالت: يا نبيَّ الله! إنكَ أمرتَ اليوم بالصدقةِ، وكان عِندي حُليٌّ لي. فأرَدتُ أن أتصدَّقَ به، فزعَمَ ابن مسعودٍ أنه وولَدَه أحقُّ مَن تصدَّقْتُ بهِ عليهم. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " صدَق ابنُ مسعودٍ، زوجُكِ وولدُكِ أحَقُّ من تصدَّقتِ به عليهم". وزيد بن أسلم ذكره الحافظ ابن حجر في كتاب "المدلسين"، ولم يصرح بالسماع من عيّاض، فالظاهر أنه أخذ هذه الرواية المحرفة من أحد الضعفاء المغفلين. وفي تهذيب التهذيب (3/ 397) أنه كان (رجلا صالحا وكان في حفظه شيء). وقد أظهر لنا عدم حفظه لحديث أبي سعيد الخدري عندما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى)، فلم يضبط مناسبة الحديث، فكيف نستأمنه على كلام رسول الله. ويظهر لنا أن زيد بن أسلم سمع رواية زينب امرأة ابن مسعود المشتملة على تلك الألفاظ المنكرة، ثم نسي فجعلها عن أبي سعيد، بدليل أنه زاد حوار زينب مع زوجها ثم مع نبي الله، وهي زيادة واردة في روايتها كما يأتي، ولم يتابعه عليها الرواة عن عياض. وبالجملة، فروايته ضعيفة بسبب تدليسه، ولكونه متكلما في حفظه، ولأنه خالف تلامذة عياض بن عبد الله الثقات، وروايات غير أبي سعيد. رواية سيدنا ابن عباس: أخرج عبد الرزاق في مصنفه ح5632، وأحمد ح3064، والبخاري ح98 وح977 و ح4613 وح5541، ومسلم ح884 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ، قَالَ: فَنَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ، حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا}، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: حِينَ فَرَغَ مِنْهَا «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا مِنْهُنَّ: نَعَمْ، يَا نَبِيَّ اللهِ لَا يُدْرَى حِينَئِذٍ مَنْ هِيَ، قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ»، فَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ فِدًى لَكُنَّ أَبِي وَأُمِّي، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ، وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ. قُلْنَا لَهُ: مَا الْفَتَحُ؟ قَالَ: «خَوَاتِيمُ مِنْ عِظَامٍ كُنَّ يُلْبَسْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» في رواية عند البخاري: فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ» وبين ابن عباس في بعض الطرق أن النساء لم يتمكن من سماع خطبة النبي أمام الرجال، لذلك خصّهن بالموعظة. وعبارة: «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟»، أي على الإيمان الصحيح، تتنافى كليا مع جملة: "إنكن أكثر أهل النار"، ومع الوصف بالنقصان. رواية سيدنا جابر: أخرج البخاري ح935 ومسلم ح885 عن ابْن جُرَيْجٍ قال: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، وَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ، وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ، يُلْقِينَ النِّسَاءُ صَدَقَةً» قُلْتُ لِعَطَاءٍ: زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ صَدَقَة يَتَصَدَّقْنَ بِهَا حِينَئِذٍ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ فَتَخَهَا، وَيُلْقِينَ وَيُلْقِينَ»، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَحَقًّا عَلَى الْإِمَامِ الْآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِّسَاءَ حِينَ يَفْرُغُ فَيُذَكِّرَهُنَّ؟ قَالَ: «إِي، لَعَمْرِي إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟» وشذّ عبد الملك العرزمي وخالف ابن جريج والروايات الصحيحة، فحرّف الحديث، فأخرج أحمد ح14420 ومسلم ح 886 من طريق عَبْد الْمَلِكِ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ العرزمي، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ»، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ. وابن جريج أحفظ وأضبط الرواة عن عطاء بن أبي رباح، لا يقدم عليه سواه، وفي "العلل" (3/254) لابن حنبل: حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر: "انكسفت الشمس" خالفه ابن جريج... أقضي بابن جريج على عبد الملك في حديث عطاء، وقال أبي مرة أخرى وذكر عطاء فقال: أثبت الناس في عطاء ابن جريج وعمرو بن دينار. ه وعبد الملك العرزمي ثقة يخطئ كما قال أحمد وأبو داود وابن حبان، وتركه شعبة لخطأ فاحش في حديث الشفعة، الذي قال فيه الإمام أحمد: حديثه في الشفعة منكر، وهو ثقة. وفي تقريب التهذيب لابن حجر: "صدوق له أوهام". فإذا خالفت رواية العرزمي روايات غيره من الثقات، كانت روايته ضعيفة حتما، ومما يدل على أنه كان يتصرف في المتون ويحرفها سهوا وغلطا، تفرده بعبارة: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ»، فهي أنكر وأبشع من عبارة: "إنكن أكثر أهل النار"، فحطب جهنم لا تقال إلا للكافرين والمشركين. وكما حصل لزيد بن أسلم، فإن عبد الملك العرزمي روى حديث الكسوف عن عطاء عن جابر عند مسلم في الصحيح برقم 2140، وسمع كلام ابن مسعود، فاختلط عليه الأمر، وخرج علينا بتلك الرواية الشاذة. رواية سيدتنا زينب: روى الطيالسي ح1758 والبخاري ح1466 ومسلم ح1000 والترمذي ح636 وابن خزيمة ح2463 وابن حبان 10/58 وغيرهم من طريق شعبة وحفص بن غياث وأبي الأحوص وابن نمير وأبي معاوية الضرير محمد بن خازم قالوا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حجرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ». هذه الرواية خالية من الزيادات المنكرة، لكن أَبا مُعَاوِيَةَ ناقض نفسه مرة، وخالف أقرانه في السند والمتن فقال: حدثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَمْرٍو بن الْحَارِثِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَثَّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ مِنْ أَكْثَرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الحديث. (مسند أحمد ح27048 ومسند ابن راهويه ح 2405 وسنن الترمذي ح635 والمستدرك4/646). فزاد أبو معاوية في السند "ابن أخي زينب" الذي لم يثبت أنه من شيوخ الأعمش، وزاد في المتن: "فَإِنَّكُنَّ مِنْ أَكْثَرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وهي زيادات منكرة سببها أوهام أبي معاوية الذي لم يكن يحفظ مروياته جيدا، فانظر ترجمته من "تهذيب" ابن حجر تجد الإمام أحمد يقول عنه: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها حفظا جيدا. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام ابن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هو مضطرب في حديث الأعمش وغيره، بدليل اضطرابه في حديثه موضوع البحث. وقال ابن معين: أبو معاوية أثبت في الأعمش من جرير، وروى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر مناكير. قلت: كونه أثبت في الأعمش من غيره خرافة ودعوى منقوضة بحديثه هذا على الأقل، ومن روى المناكير عن عبيد الله لا يعجزه أن يرويها عن الأعمش وغيره. ويزيدها نقضا قول العجلي في ثقاته (2/236): أبو معاوية الضرير الحماني كوفي ثقة، وكان يرى الإرجاء وكان لين القول، وسمع من الأعمش ألفي حديث، فمرض مرضة فنسي منها ستمائة حديث. ه ثم وجدنا أبا معاوية يروي الزيادة المنكرة عن الأعمش من حديث ابن مسعود، فتأكد أنه حرّف حديث امرأته زينب بسبب اضطرابه في حديث الأعمش بعد النسيان الذي أصابه، فقال أحمد في مسنده برقم4037: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ ذَرٍّ عَنْ وَائِلِ بْنِ مَهَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ: فَقَامَتِ امْرَأَةٌ لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَتْ: بِمَ نَحْنُ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: "إِنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ". وسيأتي الكلام عن رواية ابن مسعود وما فيها من عوار. واضطرب أبو معاوية في السند بين عمرو بن الحارث وزينب الثقفية، فقال مرة: عمرو بن الحارث عن زينب، وقال مرة: عمرو بن الحارث ابن أخي زينب، وقال في ثالثة: عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب. وعمرو بن الحارث ليس ابن أخي زينب عند المحققين، ولم يذكر في شيوخه ابن أخي زينب إلا أبو معاوية الضرير، وتفرد بالوجهين الثاني والثالث دون أصحاب الأعمش، فهو مخطئ متوهم جزما. أما الحافظ ابن حجر الحريص على التلفيق بأي طريقة، فإنه اجتهد في جعل عمرو بن الحارث الخزاعي ابنا لأخي زينب الثقفيين، وأن يختلق لها ابن أخ آخر غير عمرو الخزاعي يحمل نفس اسمه ونسبه، ويبدو أنه لم يقف على ما قاله ابن القطان في الموضوع. والخلاصة أن رواية الضرير لحديث زينب من جملة مناكيره، ومع ذلك صححها المحدثون المغترون بإمامته المقصرون في دراسة هذا الحديث متنا وسندا. وإذا أكدت لنا القرائن والأدلة قصورهم وتواردهم على التقليد، لم نرفع لكلامهم رأسا، وقد وجدنا الإمام الترمذي يحكم على أبي معاوية بالوهم هنا، فقال عن رواية شعبة: وهذا أصح من حديث أبي معاوية، وأبو معاوية وهم في حديثه فقال: عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب، والصحيح إنما هو عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. ه أما الحافظ المحقق ابن القطان الفاسي، فإنه ضعف حديث زينب في "بيان الوهم والإيهام" 2/454 بالانقطاع بين عمرو بن الحارث وزينب، ونحن نضم صوتنا إليه، ونضيف أن الأعمش كان رحمه الله مشهورا بالتدليس عن الضعفاء، ولم يصرح بسماع عمرو من زينب في هذا الحديث، فهو منقطع، والساقط بين عمرو وزينب أحد الضعفاء المجاهيل. فلسنا مبتدعين ولا مغترين، والخلاصة أن رواية زينب الخالية من الألفاظ المنكرة حسنة بشواهدها، أما المشتملة على النكارات، فواهية جدا من جهة المتن ومن ناحية السند. رواية سيدتنا أم سلمة: قَالَت رضي الله عنها: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُجْزِينِي مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى زَوْجِي وَهُوَ فَقِيرٌ، وَبَنِي أَخٍ لِي أَيْتَامٍ، وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَكَانَتْ صَنَاعَ الْيَدَيْنِ. (سنن ابن ماجه ح1835 ومسند أبي يعلى ح6899، وصححه الحافظ البوصيري). الدليل العاشر: كل الروايات المشتملة على تبشير غالب المؤمنات بالنار، والمقررة لنقصان دين وعقل المرأة، ضعيفة من جهة السند، يتفرد بكل واحدة منها راو ضعيف، أو يعاني سندها من الانقطاع. هذا ما تبين من الروايات السابقة، ويتأكد من اللاحقة، وهو وحده يكفي للتكذيب بالقصة من أساسها، ولا مجال للقول بأنها تتقوى ببعضها، لأنه يشترط في التقوي بكثرة الطرق أن يكون المتن موافقا للقرآن والسنة الصحيحة والعلم، وأن لا توجد روايات صحيحة خالية من مواضع النكارة، وهذان الشرطان منتفيان هنا، فلا مجال للتحسين بالشواهد. وهناك روايات أخرى تشتمل على النكارة، ضعيفة الأسانيد، نرجئها لمقال قادم بإذن الله، ونقتصر على أقواها: روى أحمد ح5343، ومسلم ح250 من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: « تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: « أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ ». قلت: تفرد عبد الله بن دينار بهذه الرواية المنكرة عن سيدنا ابن عمر، وقد ضعفها الإمام الدارقطني في العلل (13/194) مرجحا أنها من مراسيل الحسن البصري رحمه الله، ومراسيله شبه الريح عند النقاد، فقال الدارقطني: يرويه يزيد بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عُمَر... ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن الحسن مرسلاً، والمرسل أشبه. ه مفاد كلام الدارقطني أن ابن دينار اضطرب في سند الرواية، فأسندها عن ابن عمر مرة، وعن الحسن البصري كرة، ومثله لا يحتمل منه هذا الاضطراب، فإنه متكلم في حفظه، فقال سفيان بن عيينة: لم يكن بذاك. وقال أحمد في "بحر الدم" ص85: ثقة، إلا في حديث واحد يرويه عن ابن عمر: الولاء لا يباع. قلت: أنكر عليه المحدثون حديث بيع الولاء، ولم ينتبهوا لنكارة حديثه المحقر للنساء. وأورده العقيلي في الضعفاء2/247 فقال: في رواية المشايخ عنه اضطراب. ودافع عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" بما لا يقنع، وابن عيينة أعرف منه لأنه تلميذه، وكلامه يعني أنه لم يكن يضبط مروياته. الخلاصة: رواية ابن دينار ضعيفة لاضطرابها، ومخالفتها رواية الثقات سندا ومتنا. الدليل الحادي عشر: روى الأعمش وغيره عن ذر بن عبد الله الهمداني عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن" فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة ليست من علية النساء فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ثم قال عبد الله: ما وجد من ناقص العقل والدين أغلب للرجال ذوي الرأي على أمورهم من النساء، قال: فقيل: يا أبا عبد الرحمن، وما نقصان عقلها ودينها؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله شهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث كذا يوما لا تصلي لله سجدة. أخرجه الدارمي ح1047، والطيالسي ح384، وابن أبي شيبة 6/168، وأحمد ح3569 وح4122 و4152، والنسائي في الكبرى ح 9212، وابن حبان ح 3323، والحاكم2/207 و4/645، وغيرهم. وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا سند محتمل للتحسين. وضعفه الألباني بوائل بن مهانة. قلت: رجاله كلهم ثقات، وابن مهانة مستور لم يرو عنه إلا ذر الهمداني، وذكره العجلي وابن حبان في الثقات، ولم يجرحه أحد، وفي تقريب ابن حجر: "مقبول". قلت: القول ما قاله الألباني، لكن هذه الرواية تفيدنا أن وصف النساء بالنقصان هو رأي لابن مسعود رضي الله عنه، نسبه الرواة إلى رسول الله عمدا أو سهوا. وإذا صح أنه كلامه، فهو مخطئ فيما قال نظرا لما تقدم تفصيله، والصحابة رضي الله عنهم لم يستطيعوا التخلص من الأعراف والثقافة الشعبية بالكلية، فلا يبعد أن ينطق أحدهم بمثل ذلك الكلام في حق النساء. مناقشة شبهة مفترضة: قال تعالى على لسان امرأة عمران أم مريم عليهم السلام: (وليس الذكر كالأنثى) ويحتج علماؤنا بالآية على تفضيل عقل الذكر ودينه، ولا علاقة لها بما قالوا، ولا يفهم معناها الحق إلا بالرجوع إلى السياق: قال تعالى في سورة "آل عمران": (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي، إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفلهَا زَكَرِيَّا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً، قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء، فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى). اطرح التفاسير المستندة إلى الإسرائيليات، وتأمل كلام الله العربي المبين، يظهر لك الآتي: حملت امرأة عمران، فنذرت أن تهب مولودها لخدمة المعبد/المحراب ببيت المقدس ظانة أنه سيكون ذكرا، لكن المولود كان أنثى، والشريعة اليهودية لا تقبل ترهّب الإناث ولزومهن المعبد، فاستشعرت الحرج والحياء من الله فقالت: (وليس الذكر كالأنثى)، أي أنهما لا يستويان في الوظائف والمهام الدينية حسب شريعة بني إسرائيل، لكن الله تعالى أراد إعداد اليهود لاستقبال دعوة سيدنا عيسى، وهي دعوة ناسخة لبعض أحكام شريعة سيدنا موسى، ومنها إقصاء الأنثى من المناصب الدينية، فشاءت حكمته سبحانه أن تلد المرأة الناذرة أنثى، ويتقبل سبحانه أن تعتكف في المعبد رغم أنوثتها، ويوحي إلى نبيه زكريا عليه السلام أن يقنع أحبار اليهود بمشروعية اعتكاف مريم عليها السلام في المعبد، على أن يتكفل بها هو من حيث حاجاتها كالطعام والشراب، فوافقوا وجعلوا لها جناحا خاصا. فقصة سيدتنا مريم ناقضة لثقافة التفرقة بين الذكر والأنثى لو تعقل علماؤنا رحمهم الله، لكنهم بتروا قول الأم من سياقه، كما يفعل من يقتطع قوله تعالى: (ويل للمصلين) من سياقه. وإن موقف اليهود قبل حدوث قصة السيدة مريم يشبه موقف كثير من الفقهاء الذين يمنعون إماء الله من بيوت الله، ويستنكرون أن تتولى المرأة المناصب الدينية كالوعظ والإرشاد في المساجد، ولعلها مواقف موروثة عنهم بفعل مدسوساتهم. النتيجة العامة: إن رسول الله بريء من كل رواية تبشر أكثرية نساء المسلمين بالنار، أو تحكم على دين المرأة وعقلها بالنقصان، فكل الروايات المشتملة على ذلك مهزوزة الأسانيد منكرة المتون، والثابت الصحيح أنه أخبر أن أكثر أهل النار نساء المشركين، فحرف الرواة كلامه وزادوا عليه قول ابن مسعود، فخرجوا علينا بتلك الرواية المستهجنة شرعا وعقلا وخلقا. وفي المقال المقبل بإذن رب الأرض والسماء، سنثبت أن أكثر أهل الجنة هنّ النساء، أخبر بذلك إمام الأنبياء، وبورك عيدكم أيها الأحباء. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]