عندما تطال الرتابة أعيننا، ويصير الشيء غير العادي عندنا عاديا، فتصبح قيمة النفس البشرية عندنا رخيصة، آنذاك لربما علينا أن نغلق تلك العين التي لم تعد تصلح للبصر والنظر ونستعيض عنها بعين عقل باطنية بها بصيرة ونظر. ما معنى أن يقتل طالب ينتمي لفصيل طلابي معين من طرف طلبة فصيل آخر؟ هل هذا حدث عادي وطارئ أم ظاهرة ولدت وستعيش طويلا؟ لماذا لا توجد هذه السلوكيات في الجامعات الأوروبية أو حتى العربية؟ لماذا المغرب بالذات هل هذا يعني أننا شعب يميل إلى العنف؟ هل هذا يعني أننا عندما نفشل في التواصل علينا أن نلجأ إلى لغة الحديد والدم ؟ هل يحقق العنف ما عجز عنه التواصل؟ هل هذا يعني أننا نعيش زمن أفول القيم الحضارية؟ هل تاريخ الحركة الطلابية المغربية تاريخ عنف؟ أليست هنالك طريقة للتعايش بين الفصائل؟ هل كل أبواب التدافع السلمي أغلقت؟ أليست الجامعة هي نبراس العلم ومنارة الأدب وبالتالي يفترض أن تشمل نخبة المجتمع وطلائع متنوريه؟ كنت داخل كلية الحقوق مراكش يوم قتل ذاك الطالب الذي ينشط ضمن أحد الفصائل، لكن لم أكن حاضرا في لحظة المواجهة، فلم أعلم بالخبر إلا بعد أن أخبرني صديقي سعد مساء بالخبر المؤلم، حينها أول ما خطر بذهني هو والدا المقتول، حيث قلت في نفسي كيف سيكون شعور أمّ لطالما حلمت بيوم يأتي فيه ابنها الشاب حاملا لشهادة جامعية ترفع رأسها بين جيرانها وتباهي به أمام عائلتها .. فإذا بها تستقبل جثة باردة لا تحرك ساكنا ولا تستطيع حتى الإجابة عن بعض الأسئلة التي تحرق كبدها، كيف سيكون شعور أمّ لم تفز حتى بفرصة توديع ابنها والقول: وداعا يا ابني المسامحة.. تخيلت تلك الأم وهي تسأل الجثة، والجثة لا تجيب يا أماه، تخيلتها تطرح سؤالا تلو سؤال وكأنها في حوار والواقع أنها بصدد Monologue درامي مأساوي أشد مضمضة من وقع السيف المهند، وأكثر بلاغة من أحسن أفلام الدراما، مونولوك من سمعه يودّ لو أن بإمكانه إرجاع الروح لصاحبها ولو لحوار وداع، ولكن ليس كل ما تتمناه الأم تدركه.. تخيلت ذاك الأب الذي انتظر يوما يقول له ابنه فيه: أبي تخرجت من الجامعة ووجدت عملا أعينك به على دواير الزمان وأردّ لك ولو اليسير مما قدمت لي منذ ولادتي، وأرد لك ثمن أشياء عزيزة عليك، قمت ببيعها من أجل أن ترسل لي دراهم أضيفها على منحة لا تكفي حتى مصاريف كتبي.. تخيلت أصدقاء شعبته وحيّه وفصيله، تخفي وجوههم وتبكي صدورهم متسائلين ماذا لو كنا مكانه، لقد غادرتنا يا صديق ولما نذق بعد حلاوة الحياة، فما رأينا لحد الآن يا رفيق سوى أكوام دراسات وأطنان امتحانات وحروق نضالات وجبال معاناة، يا ليتك انتظرت حتى ترى من الدنيا ولو جزءا يسيرا من جانبها المضئ كما فعل غيرك. تخيلت قاتله وهو يقول في نفسه (بعدما قصد مكانا بعيدا ليس فيه أحد غيره ) ماذا فعلت؟ لماذا فعلت؟ من أجل من فعلت؟ هل كان علي قتله؟ هل نويت قتله؟ هل أنا على حق؟ هل كان يستحق القتل؟ هل سأنسى صورته؟ هل ستشكوني أمه إلى الله؟ كيف سيكون شعور أمي لو كنت مكانه؟ هل سأعيش بقية حياتي مرتاح؟ هل سينتقم مني أحد ؟ هل الله غاضب مني؟ لو صارحت والداي بما وقع هل سيرضيان عني؟ تخيلت جميع الطلاب المنضوين تحت لواء الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وغير المنتمين، وهو يتخيلون نفسهم مكانه متسائلين إلى أين سيقودنا هذا العنف؟ ماذا لو نشبت معركة بيننا غدا أو بعد غد؟ ماذا لو كان مصيرنا أو مصير أحد أصدقائنا مثل المقتول اليوم؟ ألا يمكن أن نتفق على صيغ تواصل غير العنف؟ ألا يمكن إيجاد أرضية مشتركة لجميع الفصائل فنستغلّ فيها المشترك ونتجاوز المتنازع حوله، إذا لم نستطع تدبير اختلافنا والمفترض أننا نخبة المجتمع، فمن ننتظر أن يأتي ليعلمنا تدبير اختلافنا ؟ أختم هذا المقال أولا بتعازي الحارة والصادقة لأسرة الفقيد وأصدقاءه وزملاءه، وثانيا برسالة لجميع الفصائل الطلابية مفادها أن الجامعة للعلم، وليست ساحة للعنف، وإلا فما علاقة العلم والأدب بالعنف والدم؟ وبالتالي عليكم أن تعيدوا النظر في طرق مقاربتكم للنضال، وكيفية اشتغالكم، وحتى أشكال تواصلكم، فتلكم الأسس والأشكال في أخر المطاف ليست قرآنا منزلا ولا شكلا سرمديا، بل مجرد اجتهاد لطلبة سبقوكم زمنيا مما يعني أن بامكانكم الاجتهاد أيضا وتطوير الطرق والمقاربات وحتى الوظائف المنوطة بكم وقد تأتوا بأحسن مما أتى به سلفكم، لكن كل ذلك شرط الاقتناع بروح السلام وتبني السلم واحترام جميع الطلبة (المنتمين وغير المنتمين) ونبذ العنف واستبداله بالتعايش الحضاري والتدبير العقلاني للإختلاف، فالإختلاف والتنوع أيها الأفاضل ليس عيبا، بل العيب كل العيب هو تبني العنف وإقصاء الآخر المختلف عنك، أرجوكم لا تظنوا أنكم ملاّك الحقيقة أو أن أحدكم هو من يمتلك المشروعية والنموذج الأمثل والاخرون على ضلال، بل لكل منكم نصيب من الحقيقة والمشروعية، وهما معا تعتريهما النسبية، فلا يكن شعارك في الساحة الجامعية "إما أنا أو أنت" بل "أنا وأنت".