يجسد ولوج نزاع الصحراء عقده الخامس صورة سوداء للفشل الإنساني، ويضع أكثر من علامة استفهام حول مساهمة الإنسان المغاربي في معالجة قضاياه، خاصة فرض العين منها الذي نصفه بالوطني. فمع مرور الأيام يتحول نزاع الصحراء، بتعايشنا السلبي معه ورتابته، إلى لعبة شطرنج بين المملكة المغربية من جهة، والجزائر وجبهة البوليساريو من جهة أخرى، بكل مؤسساتها، كل يسعى لكسب نقاط في رقعة الصحراء. وبلغة الجغرافيا؛ يتنافس حول هذه الرقعة لاعبان: شمالي ضد شمالي، وبينهما صحراوي. وبحكم أن ثقل الحياة العامة والمؤسسات في البلدين، الجزائر والمغرب، يتركز في الشمال حيث الكثافة السكانية وكبريات الحواضر، فالفاعل المدني في المغرب والجزائر (الإنسان ابن بيئته) أكثر إلماما وإحاطة واهتماما بقضايا محيطه في الشمال من المناطق الصحراوية البعيدة عنه نسبيا، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مناطق وجود الصحراويين في المغرب (إقليمي العيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب) والمخيمات في الجزائر اعتبرت مناطق عسكرية مغلقة حتى بعد وقف إطلاق النار بعشر سنوات (بداية الألفية الثالثة)، فإننا نقف على حقيقة أن مصدر المعلومة ظل وقفا على الروايات الرسمية وما تسوقه أجهزة الدولة. وبحكم خلفيته الشمالية، لم يكن الفاعل المدني في المغرب والجزائر قادرا على فرز المعلومة الصحيحة من الفقاعة الإعلامية التضليلية، مما جعله تابعا ورهينا بما تجود به السلط التي ﻻ تسوق من الأخبار فوق ما يخدم أجندتها، وإن قصرت قصر معها. وكمثال على البعد عن الصورة الحقيقية، سأورد الصورة التالية من سنة 1987، حينما كنت طالبا في جامعة عنابة بالشرق الجزائري، وذات مساء بينما كنت وثلاثة شبان من المخيمات في مقهى بوسط المدينة، نتصفح جريدة "الصحراء الحرة" التي تصدرها جبهة البوليساريو، انضم إلينا رجل جزائري تجاوز ال50 من العمر، لم يجد مقعدا فاستأذن في الجلوس معنا لتناول قهوته. وبعد جلوسه لاحظ الجريدة على الطاولة التي ﻻ تشبه الجرائد الجزائرية، ولما تناولها اكتشف أنها لسان حال جبهة البوليساريو، فالتفت إلينا متعجبا وقال: "سبحان الله.. وعملوا لهم جريدة أيضا.. السلطة تريد أن تجبرنا بالقوة على قبول وجود بوليساريو.. هل في حياتكم التقيتم أحدا منهم خارج التلفاز". سحب أحدنا بطاقة التعريف الصحراوية التي كانت الجبهة تصدرها لمن يسافر إلى الخارج، وقال للسيد الجزائري متهكما: "الأغرب أنهم صنعوا لهم بطاقة تعريف وطنية أيضا". لم يكن خطأ السيد ما أوقعه في حرج، بل جهله لحقيقة تبعد عنه بآﻻف الكيلومترات، ولم يجد من محيطه ما يؤكد حقيقتها. لكن حدثا واحدا كان كفيلا بأن يغير كل معطياته عن صورة ظلت وسائل إعلام بلده وسلطه تسوقها له، ولم يستوعبها نتيجة لغياب الدليل. وليس الأمر مقتصرا على الشارع الجزائري وحده، ففي البلدين المعنيين والفاعلين والمتضررين من استمرار نزاع الصحراء، والملايين شعبيا ودوليا على تأخير تنمية وتكامل بلدانهم ومنطقتهم، تتكرر الصورة نفسها والمشهد نفسه رغم الانفتاح الداخلي الكبير والبعد عن زمن شمولية الحزب الواحد والعشرية السوداء في الجزائر، والقطيعة في المغرب مع زمن أم الوزارات وعهد سنوات الرصاص. وﻻ يمكن أن نلوم السلط، فلها حساباتها والتزاماتها، خاصة بعد انتهاء زمن "ليسي باسيLaisser passer " للدخول والخروج من الأقاليم الصحراوية والمخيمات، وفي زمن انتشار المعلومة. إن قضية الصحراء كانت منذ اليوم الأول قضية وجود بالنسبة للمملكة المغربية، حينما وضعتها الجزائر في موقف جيش طارق بن زياد (العدو "الجزائر" أمامكم والبحر من ورائكم) بعد تبنيها لجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الإقليم، وتأسيس كيان يدور في فلكها، مما يعني للمغرب سعي الجزائر، غريمه التقليدي، إلى عزله عن عمقه الإفريقي وجعله بين مطرقة ابتزاز أوروبا وسندان الجزائر البري. وبالنسبة لسكان المخيمات الذين تجمعوا من الإقليم والجزائر وموريتانيا والمهجر في المخيمات فوق التراب الجزائري، الذين تم عزلهم عن العالم لأمد طويل، ولم يخرجوا منه إﻻ ولسان حال قادة الجزائر يخاطبهم بما خاطب به ابن سلول المهاجرين من مسلمي مكة إلى المدينة: "نحن ﻻ نضيق بكم. لكنكم لم تعودوا تملكون شيئا هنا وﻻ هناك، وليس لكم إﻻ سيوفكم". فهؤﻻء بسبب انقطاعهم الطويل عن مرابعهم ومصالحهم، أصبحت قضيتهم قضية وجود، ولم يبق أمامهم غير مواصلة النزاع مع المغرب إلى حين التوصل لحل يحقق لهم استقرارا بديلا. لهذا الوضع ومن منطلق المسؤولية الأخلاقية لكل الفاعلين في منطقتنا، يجب أن نتوقف عن أن نكون صدى للسلط ﻻ نرى إﻻ ما ترى أو ترينا، ليس لأنها على خطأ دوما، بل لأنها مقيدة ومكبلة بمصالحها الضيقة وبالتزاماتها الدولية، وليست وحدها المعنية بما نسميه القضايا الوطنية. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على الإعلاميين والفاعلين السياسيين والمدنيين. ففي المغرب ينتظر الجميع الإيعاز من السلطة أو تحركا منها للتعبير عن رضاه أو سخطه من أي حدث متعلق بها، أصبح معها فعل الأحزاب والمجتمع المدني والإعلام متأخرا دائما ومرتبطا بالموقف الرسمي حتى في تناقضاته، حينما يزين الحدث اليوم نصطف خلفه، وعندما يشينه غدا نقول كما الأمس: تبارك الله عليك. وفي المخيمات لم تحصل يوما وقفة عفوية، إنما ينتظر من يدعون أنهم "ثوار وأصحاب قضية" استدعاءهم من قبل سلطة البوليساريو للاحتجاج على ما تدعي السلطة أنه اعتداء مغربي، أو التصفيق لما تصنفه انتصارا، وألف العالم صور نسوة يحملن أعلام البوليساريو ويصرخن بشعاراتها كمشهد وحيد في مخيمات لا ينقصها من البؤس والمعاناة غير أن تشق الأرض وتبتلعها، وإن حصل فستخرج في الأمكنة نفسها نسوة أخريات في المشهد نفسه وبأمر من السلطة يشهدن بأن المغرب هو من شق الأرض وأقبر المخيمات. بالمحصلة، تكاد ﻻ تخلو أنفسنا من بعض نفاق، نسمي بعض القضايا بالوطنية، ونتصرف معها تصرفا غير المعني في انتظار أن نعرف أين تسير السلطة فنسير في ركبها. نتألم من وجع في حياتنا ونتصبر، وحينما تدعونا السلط إلى الإعلان عن وجع ﻻ نراه نخرج صادحين: "اللهم ارفع عنا الضرر"، ولما نخلو بأنفسنا يسأل بعضنا بعضا، ما المناسبة؟ يكون الجواب: في الغالب قالوا! ولن يقول أحد قط: من المسؤول، أعلم من السائل! * قيادي سابق في جبهة البوليساريو