قال الأستاذ عبدالخالق الطريس في خطاب له يوم 3 غشت 1946 : " إنه من دواعي الغبطة أن تكون هذه المنطقة الشمالية أول من نادى بوجوب إعلان استقلال المغرب وتعطيل بنود الحماية ." ( 1 ) معنى ذلك أن وثيقة المطالبة بالاستقلال ظهرت أول مرة بالشمال ، وهذه الوثيقة مؤرخة بتاريخ 14 فبراير 1943 ، وهي سابقة عن وثيقة الجنوب بأحد عشر شهرا ( 2 ). فلماذا تخليد ذكرى وثيقة 11 يناير 1944 وتجاهل وثيقة 14 فبراير 1943 . ولماذا هذا الإصرار لدى مؤرخي الحركة الوطنية بالشمال على إبراز قصب السبق الذي حققته المقاومة السياسية بالشمال في العديد من المناسبات . إن وثيقة 14 فبراير 1943 قدمتها الجبهة القومية للوطنية المغربية بتطوان إلى سفراء الدول العظمى بطنجة وتطوان . ويؤكد محمد بن عزوز حكيم على أن الأستاذ الطريس لم يُقدم على هذا العمل إلا بعد استشارة جلالة الملك والحصول على موافقته ، ويقول :" لدينا من الوثائق ما يثبت ذلك ..." ( 3 ) إن السؤال الذي يطرح هنا هو : لماذا لم يتم تقديم هذه الوثيقة إلى السلطات الإسبانية مباشرة على غرار وثيقة المطالبة بالإصلاحات . أقول لو حصل ذلك لكان عملا غير مناسب على الإطلاق ، لأن المطالبة بالاستقلال تعني إسقاط الحماية ونعرف أن المغرب وقع على معاهدة الحماية مع فرنسا وليس إسبانيا ، ومن هذا المنطلق فإسبانيا غير معنية بهذا المطلب ، وهذا ما فطن له رجال الحركة الوطنية بالشمال . سؤال آخر قد يتبادر إلى الذهن وهو : ألم يكن بإمكان زعماء المقاومة بالشمال – وفي مقدمتهم الأستاذ الطريس – المطالبة باستقلال المنطقة الشمالية عن الحماية الإسبانية . لو حصل ذلك لكان عملا ينم عن نزعة انفصالية ، وهذا ما لا يجرؤ أحد على القول بذلك ، لأن خطابات الحركة الوطنية بالشمال أكدت مرارا على الوحدة الترابية للمغرب واعتبرتها كلا لا يتجزأ ، وأن القضية المغربية جوهر لا يقبل الانقسام .( 4 ) إذن فاستقلال الشمال لم يكن ليتحقق قبل استقلال باقي التراب المغربي . هذه هي القناعة التي ترسخت لدى رجال الحركة الوطنية في المنطقة السلطانية ( منطقة النفوذ الفرنسي ) الذين كانوا يعتبرون منطقة الحماية الإسبانية بمثابة حماية ثانوية ، وقد لا تسمى منطقة حماية ، ما دامت الحماية في الأصل ، حماية فرنسية . يؤكد جرمان عياش ذلك بقوله : " كانت فرنسا قد نالت من السلطان امتياز الدولة الحامية بالنسبة لمجموع التراب المغربي . بهذا الامتياز تمكنت عوض السلطان من أن تسند لإسبانيا إدارة قطعة أرض حرصت على تسميتها بمنطقة نفوذ لا بمنطقة حماية ثانية ." ( 5) إن إسبانيا لم تكن العدو الأول للمغرب وبالتالي فالمقاومة ضدها غير ذات جدوى ، هذا ما عبر عنه بصريح العبارة أحمد بلافريج حيث يقول :" نحن في الجنوب كنا نقول للوطنيين في الشمال بأنه عليهم أن يكونوا متساهلين مع إسبانيا ، لأن العدو الأول بالنسبة إلينا هو فرنسا ، وكنا نقول ونكرر إذا ذهبت فرنسا ستحذو إسبانيا حذوها ." ( 6) بناء على ما سبق نقول إن الوطنيين في المنطقة السلطانية اعتبروا وثيقة 14 فبراير 1943 لا قيمة لها ، ولا طائل من ورائها . فهل كانت المطالبة بالاستقلال من طرف الشمال عملا متسرعا . ألم يكن من الأجدر التنسيق مع باقي الأحزاب السياسية المغربية في منطقة النفوذ الفرنسي حتى يكون مطلب الاستقلال تعبيرا عن إرادة كل المغاربة سواء في الشمال أو الجنوب ، وحتى لا نجد أنفسنا أمام وثيقتين ومناسبتين واحتفالين ، وأيهما أسبق وأيهما أحق بالاهتمام والاحتفال ... ( 7) لكن ماذا عن وثيقة 11 يناير 1944 . بحكم أن هذه الوثيقة جاءت متأخرة عن وثيقة 14 فبراير ، فليس مستبعدا أن تكون وثيقة الجنوب قد استأنست بوثيقة الشمال واقتبست منها خطوطها العريضة . إن ديباجة هذه الوثيقة ( 11 يناير ) تضمنت مجموعة من الحيثيات ، في المقابل تضمنت وثيقة 14 فبراير عددا أكبر من الحيثيات ( 16 فقرة تبدأ بعبارة وبما أن ...) هذه الحيثيات تلخص الظروف الوطنية والدولية التي دفعت الوطنيين المغاربة إلى المطالبة بالاستقلال وإسقاط الحماية ، ولا اختلاف بين الوثيقتين فيما يخص المطالب . إنها تتمثل في : -الاستقلال والوحدة الوطنية . -الاعتراف الدولي بهذا الاستقلال . -إحداث نظام سياسي تحفظ فيه حقوق سائر الشعب تحت ظل النظام الملكي . الفرق بين الوثيقتين هو أن وثيقة الشمال قُدمت باسم الجبهة القومية ، وهي تكتل حزبي الإصلاح الوطني والوحدة المغربية ( 8 ) . أما وثيقة 11 يناير فقدمت باسم حزب الاستقلال . فلماذا انفرد هذا الحزب بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال . ألم يكن من الأجدر إشراك باقي الأحزاب السياسية في هذه الوثيقة . لكن هل كانت هناك أحزاب أخرى حاضرة على الساحة المغربية . يشير أحد رموز حزب الاستقلال في تأريخه للحركة الوطنية أن " حزب الحركة القومية الذي تحول إلى حزب الشورى والاستقلال أصبح مشلولا بعد نفي زعيمه محمد حسن الوزاني سنة 1937 ولم يلاحظ له نشاط إلا بعد تفكير حزب الاستقلال في إعداد " وثيقة الاستقلال " واقتُرح على الحركة القومية الانضمام إلى حزب الاستقلال والتوقيع على الوثيقة غير أنها طلبت مهلة للتفكير وأعدت بعد ذلك وثيقة مماثلة قدمتها للسلطان ... " ( 9) هنا النص يطرح أكثر من سؤال ، لكن المثير في الأمر هو أن هناك وثيقة ثالثة للمطالبة بالاستقلال قدمها الحزب الذي سيعرف فيما بعد باسم الشورى والاستقلال والذي كان منافسا لحزب الاستقلال . نحن إذن أمام حالة غريبة في مطالبة المغاربة بالاستقلال ، مطلب واحد ووثائق متعددة . يحاول علال الفاسي – وهو لم يكن من الموقعين على وثيقة 11 يناير – إقناعنا بأن الأمة المغربية كلها التفت حول حزب الاستقلال . فهل كان علال الفاسي يعتبر حزبه ، الممثل الشرعي والوحيد للشعب المغربي . هذا ما يُفهم من قوله : " لقد سار ( حزب الاستقلال ) ومن حوله الشعب بأسره يعلن كلمة الأمة النهائية في المطالبة بالاعتراف باستقلالها الناجز " ( 10) ليس صحيحا أن كل المغاربة التفوا حول حزب الاستقلال ، وإن تأييد مطلب الاستقلال لا يعني بالضرورة الانتماء إلى ذلك الحزب . نخلص إذن إلى استنتاج هام ، هو وجود نزعة انفرادية لدى حزب الاستقلال ، حيث سعت القيادة السياسية للحزب إلى جعله الحزب الوحيد بالمغرب . وهذا ما ستثبته الوقائع التاريخية في الفترة التي تلت مباشرة الإعلان عن استقلال البلاد . هوامش : 1 – محمد بن عزوز حكيم . وثائق تشهد . الرباط 1980 . الجزء الأول . ص 103 . 2 – نشر محمد بن عزوز حكيم هذه الوثيقة في كتابه وثائق تشهد ( مرجع سابق ) ، ثم خصص لها دراسة حول ظروفها وأسبابها وأهدافها في مجلة الوثائق الوطنية . العدد 2 . تطوان . يونيو . 1988 . ص 57 . 3– عبارة كان يرددها الراحل محمد بن عزوز حكيم في مناسبات عديدة ، وكنا نرد على ذلك بأن احتكار الوثائق يؤخر إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية المغربية . 4– محمد بن عزوز حكيم . نضال الطريس في ساحة الوحدة . الرباط . 1980 . 5 – جرمان عياش . أصول حرب الريف . ترجمة محمد الأمين البزاز وعبدالعزيز التمسماني خلوق . مطبعة النجاح الجديدة . الدارالبيضاء . 1992 .ص 80 – 81 6 – عبدالمجيد بن جلون نقلا عن جان وولف . ملحمة عبدالخالق الطريس . ترجمة د محمد الشريف . تطوان . 2003 ص 278 7– إن تجاهل الجنوب لمقاومة الشمال قابله إصرار وطنيي الشمال على إبراز قصب السبق الذي حققوه في عدة محطات نضالية : أول حزب ... أول مجلة ... أول وثيقة الاستقلال ... أول عيد الكتاب ... 8– وقع الحزبان على الميثاق الوطني للجبهة القومية للوطنية المغربية يوم 18 ديسمبر 1942 بتطوان . 9– عبد الكريم غلاب . تاريخ الحركة الوطنية المغربية من نهاية حرب الريف إلى إعلان الاستقلال . 10 – علال الفاسي . الحركات الاستقلالية في المغرب العربي . ط 5 . الدارالبيضاء 1993 . ص 297 .