نشرت مجلة زمان في عددها الأخير الصادر بتاريخ أكتوبر 2012 مقالا للباحث المغربي عدنان السبتي بعنوان "خطأ عبد الخالق الطريس"، الذي تناول فيه انطلاقا من الوثائق المحفوظة في الأرشيف الإسباني، جانبا من جوانب الضعف الإنساني لزعيم سياسي، كان له تأثير بارز في سير الأحداث خلال مرحلة الحماية الإسبانية لشمال المغرب، بل حتى خلال البدايات الأولى لاستقلال المغرب، إنه عبد الخالق الطريس، الذي يتناول سيرته المهتمون بالشأن السياسي في تطوان، كرجل كانت له إيجابيات وسلبيات، ولكن الباحث عدنان السبتي يتناول أحد أكثر سلبياته كارثية، ألا وهي بيعه لأرشيف الدولة المغربية الذي كانت تحتفظ به أسرته مقابل حفنة من المال، كما أن المقال يوضح لنا كذلك كيف أثرت شخصية عبد الخالق الطريس المولعة بجمع المال وتبذيره، في وقوعه فريسة سهلة في أيدي سلطات الحماية، لكي تستغله لخدمة أهدافها الخاصة. ولأهمية الموضوع آثرنا ترجمته إلى اللغة العربية تعميما لفائدته على عموم المهتمين بهاته الجوانب الغامضة من تاريخنا المعاصر. ........................................................... كتب: عدنان السبتي إذا كان عموم المغاربة يعرفون الالتزام الوطني لعبد الخالق الطريس، فإن عددا قليلا منهم كان يعرفون أن الضائقة المالية التي كانت تصيبه بين الفينة والأخرى، كانت بمثابة سيف دمقليس الدائم الذي دفعه إلى ارتكاب غلطة فادحة، ما زالت حكايتها غير منشورة إلى يومنا هذا، كما أن جميع ألغازها لم يتم حلها بعد. هناك بعض الأسرار التي تقاوم الزمن، وحتى ولو كنا متيقنين من صحتها، فإننا غالبا مما نفضل بكل تعفف عدم الكشف عنها، لماذا؟ بكل بساطة لأن الحديث النبوي يقول: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم" إلا أن التاريخ لا يحترم هذه القاعدة، حيث يفضح كل شيء، ويهتم بالمسار الذي قطعته الشخصيات، وتأثيرها في الأحداث، وفي هذا الصدد ليس هناك مجال للعاطفة، بل إن التاريخ هدفه الأساس هو دراسة الماضي من أجل فهم الحاضر والإعداد للمستقبل. أحد الأسرار الأكثر كتمانا في التاريخ المعاصر في المغرب، يتعلق بخطيئة تم اقترافها من طرف وطني بارز ومرموق تم وضعه منذ الوهلة الأولى رهن إشارة السلطان محمد الخامس من طرف الإقامة العامة سنة 1953، ولعب دورا حاسما في إنهاء عزله عن عرشه، حيث لم يقتصر على استنكار ما أقدمت عليه الدولة الفرنسية، بل قام بإثارة الجماهير ضدها، وتمكن في النهاية، بفضل دعم السلطات الإسبانية بشمال المغرب، من وضع حد لمنفى العاهل المغربي بجزيرة مدغشقر. عائلة محترمة لذلك بعد استقلال المغرب سنة 1956، كان من الطبيعي أن يرتقي عبد الخالق الطريس إلى أعلى المراتب في الدولة، وكان له الحق أن يحظى بكل الاعتبار، فكان أول سفير للمملكة الشريفة بمدريد لدى الجنرال فرانكو، ثم سفيرا في القاهرة لدى الرئيس جمال عبد الناصر، وهما منصبان يعكسان مدى الحظوة، التي كان يتمتع بها لدى القصر الملكي، ثم تم تعيينه كذلك وزيرا للعدل. ولكن الخديم الوفي للأعتاب الشريفة، لم يكن يتوانى عن الظهور بمظهر "القناص" عندما جاءت المناسبة سنة 1958، باندلاع الثورة بجبال الريف، حيث عبر على موجات إذاعة تطوان، عن معارضته الحادة للحكومة المغربية، التي اعتبرها، حسب رأيه، مسؤولة عن الأزمة الاقتصادية والبؤس الاجتماعي الذي تعيشه هذه المنطقة. يتعلق الأمر، إذن، بعبد الخالق الطريس، الذي ينحدر من أسرة مرموقة بتطوان، كانت مقربة من "المخزن الشريف" منذ القرن 17، مباشرة بعد قدوم أجداده الموريسكيين المطرودين من الأندلس. لقب "الطريس" يعتبر في شمال المغرب "رمزا"، حيث ما زال منزل العائلة الكبير بالمدينة العتيقة يحمل نفس الاسم، وكان أبوه الحاج أحمد الطريس أول من تم تعيينه باشا مدينة تطوان من طرف الإسبان سنة 1913. أما جده محمد بن العربي الطريس فكان وزيرا مفوضا بطنجة، وكان يمثل إلى جانب محمد المقري، وممثلين آخرين، السلطان عبد العزيز في البعثة المغربية التي حضرت مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، الذي نوقش خلاله مستقبل المغرب، وأعدت على الخريطة المواقع التي ستوضع تحت الحماية الإسبانية والحماية الفرنسية. المال عصب الحرب الطريس وأسرته لم يتعرضا بتاتا للمضايقة من طرف سلطات الحماية الإسبانية، فالأرشيف الإسباني يشير إلى أبيه وجده بما يلي: "أعمالهما تستحق كل العطف والتقدير من طرف الأمة الإسبانية النبيلة". وعبد الخالق نفسه تم تعيينه في مناصب حساسة بالإدارة الخليفية، مثل المدير العام للأحباس، ووزيرا للعمل الاجتماعي لدى خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي، وكان الأجر الذي يتقاضاه عن هذه المهام مجزية بمقاييس ذلك العهد. كما أنه لم يتعرض في أي وقت من الأوقات للاعتقال أو للاعتداء الجسدي من طرف السلطات الإسبانية. إن هذا الإبن البارز تم رصده من طرف المخابرات الإسبانية، منذ البدايات الأولى لسنة 1930،حيث تشير إحدى وثائق الأرشيف الإسباني إلى اعتباره "أكثر من وطني، يريد أن يكون دائما في الواجهة، بل كان أكثر الوطنيين اشتغالا وعطاء، ويمكن القول عنه بأنه رجل عملي، فرغم حداثة سنه، فإنه شخص لا تنقصه المعرفة والثقافة والكفاءة". ورغم ذلك، فإنه كان شخصا متهورا، حيث ظهرت وقاحته إزاء السلطات الإسبانية من خلال مجموعة من المقالات التي قام بنشرها في جريدة "الحياة" التي أصدرها سنة 1934. وبلغت وقاحته مع السلطات الإسبانية درجتها القصوى، حينما قام خلال نفس السنة، بفتح مكتب لتلقي شكايات المغاربة من تصرفات محصلي الضرائب والمراقبين العسكريين والمدنيين الإسبان. وكان رد فعل الإسبان إزاء ذلك، عوض تلفيق تهمة له، أو اعتقاله، هو تعيينه مديرا عاما لأملاك الأحباس بمنطقة الشمال. فأثار هذا التعيين ضجة وسط بعض رفاقه، الذين اعتبروه بمثابة فخ سياسي، ولأول مرة سيوجهون له إهانة، حينما وصفوا قبوله بهذا المنصب بمثابة "خيانة للأمة المغربية". فحاول أن يستعيد ثقتهم، بأن أوضح لهم أن قبوله لهذا المنصب هو بدافع التسل لمعرفة خبايا الإدارة الإسبانية. ولكن الظاهر أن قبوله بهذا المنصب كان بدافع حاجته الملحة للمال، فالمداخيل الهزيلة التي كانت تدرها عليه الجريدة، لم تكن كافية لتلبية احتياجاته المتعددة. ومن جهة أخرى، فإن سلطات الحماية الفرنسية لم تنظر بعين الرضا إلى هذا التعيين، وتجلى ذلك من خلال مقال صدر بتاريخ 24 أكتوبر 1934 في جريدة "بريد المغرب" التي كانت تصدر بفاس، التي انتقدته انتقادا حادا. ومع كل ذلك فإن عبد الخالق الطريس لم يتجرأ على المطالبة باستقلال المغرب. في الواقع كانت المتاعب المالية لعبد الخالق الطريس لصيقة به طيلة مشواره السياسي، بل إلى حين وفاته، حسب شهادات أشخاص عاشروه خلال فترة الستينيات من القرن الماضي. لا ينكر أحد أن "المال هو عصب الحرب" ولكن في حالة الطريس، الذي ينتمي إلى أسرة مرموقة، ولكنها لم تكن غنية، وكان ذلك بمثابة نقطة الضعف التي ستلطخ سمعته، وكانت المخابرات الإسبانية على اطلاع على نقطة الضعف هاته، حيث إنها كانت تتابع كل خطواته، وتسجل جميع عثراته المالية. فعلى سبيل المثال، في ماي 1936 حينما كانت الحشود العسكرية على أهبة الاستعداد لشن الحرب الأهلية، كان وضعه المالي غير مريح. حيث تشير إلى ذلك إحدى وثائق الأرشيف الإسباني بما يلي: "إن الشركة التي قدمت له تسهيلات لاقتناء مواد البناء اللازمة لتشييد منزله بشارع خواكين كوسطا، كانت تنوي الحجز عليه، نظرا لعدم وفائه بأداء أقساط ديونه، فلجأت إلى الحجز على نصف مستودع كان يملكه، ولكنها اكتشفت أنه مرهون بدين آخر، فقامت بالحجز على ثلث المنزل الذي يقطن فيه مع أسرته، وأمام هذه الضائقة لجأ الطريس إلى طلب مساعدة المسمى "بنعبود"، ولكنه حتى لو استطاع أن يقنعه بدعمه، فإنه لن يتمكن من الحصول على 2500 "بسيطة" التي كان عليه جمعها لكي يؤديها لفائدة دائنيه، ومن ثم لم يجد بدا من بيع أثاث منزله في المزاد العلني". هذه وثيقة من بين وثائق أخرى مأخوذة من بطاقة المعلومات التي ضمنتها الاستخبارات بخصوصه، والتي تبين الوجه الحقيقي للطريس الغارق في ديونه، وإن كانت هناك وثيقة أخرى سرية تظهر وجها آخر للطريس مفلسا بسبب تفرغه للقضية الوطنية. الجزرة والعصا إن ارتباط الطريس بالنظام الفرانكاوي عند بداية الحرب الأهلية الإسبانية، بعدما كانت له ارتباطات مع الماسونية، ويتعاطف مع اليسار الإسباني الحاكم، جعلته يحظى باعتراف من طرف العسكريين الذي استلموا إدارة منطقة الحماية العسكرية والمدنية، بقوة السلاح، وفي تلك الفترة كان الطريس ما زال وفيا للنظام الجمهوري، ولكن المقيم العام الجديد الكولونيل الماكر خوان بيكبيدير، شجعه على تغيير ولائه، ورخص له بتأسيس حزب سياسي، هو حزب الإصلاح الوطني، وإصدار جريدة جديدة أطلق عليها اسم "الحرية". لذلك كان عبد الخالق الطريس ورجال الحركة الوطنية بمنطقة الحماية الإسبانية مبتهجين، بالرغم من الحرب التي كانت في ذروتها بشبه الجزيرة الإيبيرية، حيث كان الآلاف من أبناء "جبالة" و"غمارة" و "الريف" يقتلون في حرب ليسوا معنيين بها. لقد كان تواطؤ "رجال الحركة الوطنية" مع السلطات الجديدة بالمنطقة، قد أشرع لهم الباب نحو رفاهية مالية، استفاد منها الطريس، فتزوج سنة 1938 من بنت وجيه محلي اسمه مصطفى أفيلال، أحد أبناء الأسر العريقة بتطوان. وقضى شهر العسل بإسبانياالمحتلة من طرف جيوش الجنرال فرانكو، هذا التصرف لم يكن لائقا في مدينة محافظة ومنغلقة على نفسها، لا سيما وأن العروسين قاما بارتداء حلة عرس أوربية، حسبما نشر في جريدة "المغربي الصغير" "Le petit marocain" ، وأصبح الطريس مثار سخرية من طرف الجميع لأنه سمح لزوجته أن تظهر بدون حجاب. السلطات الإسبانية من جهتها استعملت سياسة الجزرة والعصا مع هذا السياسي الشاب الذي كان يعرف متى يظهر خانعا، ومتى يظهر متمردا، فهي تارة كانت سخية معه حينما دعمته ماديا ليؤسس حزبه ويصدر جريدته، وتارة تكون شحيحة معه ولا تعطيه فلسا واحدا، بل تعمدت، من أجل تعقيد الأمور عليه، إحداث قطيعة بينه وبين صديقه محمد المكي الناصري، أحد رجال الحركة الوطنية بمنطقة الحماية الفرنسية التي نفته إلى منطقة الحماية الإسبانية، ونزل ضيفا بمنزل عبد الخالق الطريس. فحسب الأرشيف الإسباني ، قدم المقيم العام الإسباني بتطوان دعما ماليا للناصري من أجل تأسيس حزبه السياسي "حزب الوحدة المغربية" والصحيفة الناطقة باسم الحزب، والتي كانت تصدر بنفس اسم الحزب. وهذا الدعم لم يكن حبا في الناصري، وإنما "من أجل الحد من تأثير حزب الإصلاح الوطني، الذي كان قد عرف امتدادا واسعا، فقام المقيم العام بتأسيس "حزب الوحدة المغربية" بواسطة المكي الناصري، وهو شخص ذكي، ولا يتمتع إلا بقليل من وازع الضمير، ويعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، حيث كان يتقن فن الهجوم على خصومه في خطبه، وفي نفس الوقت يعرف متى ينحني لهم كلما دعته الظروف إلى ذلك، الشيء الذي جعل منه شخصا خطيرا". حسب ما تضمنته إحدى وثائق الأرشيف الإسباني. هدير الإشاعة حزب الإصلاح الوطني والجريدة الناطقة بإسم الحزب من جهة، وحزب الوحدة المغربية وجريدته من جهة ثانية، قضيا وقتهما في المشاحنات التي وصلت إلى حد الاستفزازات بين مناصري الحزبين في الشوارع العمومية، فبتاريخ 1 نوفمبر 1937 وقعت مشاجرة بين أنصار الطريس وأنصارالناصري انتهت بأفرادها ما بين معتقل في مخافر الشرطة، أو طريح في فراش أحد المستشفيات. وبطبيعة الحال كان الإسبان مسرورين مما يحدث. فخلال هاته الفترة الحاسمة من الحرب الأهلية، حيث تفرغ "الوطنيون" للتقاتل فيما بينهم، ونسوا المطالبة بالاستقلال، كانت الأموال الإسبانية يتم ضخها بشكل كبير في صناديق هذين الحزبين، وكان قادتهما غارقين في نشوة ما يجنونه من امتيازات. عند نهاية الحرب الأهلية، بدأ الطريس يذكر نظام فرانكو بوعوده حول منح المغرب استقلاله، فكان الرد الذي تلقاه هو اللامبالاة، وحين كان ذلك غير كاف لإسكاته، قاموا بقطع المنحة عليه. ففي سنة 1939، وخلال سفره إلى شبه الجزيرة الإيبيرية للمطالبة باعتمادات مالية لفائدة تعاونية الكهرباء التي كان يسيرها، ولكنه عاد أدراجه دون أن يحقق مبتغاه. لقد كان أصدقاؤه من "الوطنيين" قد استطاعوا إيجاد وظيفة له في تعاونية الكهرباء، كوسيله لدعمه ماديا، نظير تفرغه الكلي للعمل السياسي، وبما أن هذه الوظيفة كانت لا توفر له سيولة مالية كافية، خاصة مع قطع المعونة الإسبانية، قرر أن يتوجه إلى ألمانيا التي كانت بحاجة إلى دعم المسلمين في حربها العالمية، ولكنه سيخفق في هذا المسعى كذلك، لأن هذه الأخيرة كانت بحاجة أكثر إلى دعم فرانكو الذي خرج منتصرا خلال الحرب الأهلية، لينضم معه في حلف "المحور" وبالتالي خاب أمله للمرة الثانية. الطريس أمام هذه الأزمات سيتأثر أكثر بما كان يروج عنه من أخبار، وهي أخبار قد تكون مجرد إشاعات أكثر من كونها أفعال حقيقية، فحسب تقرير مخبر مغربي وجهه إلى رؤساءه في الإقامة العامة، وهو بالتأكيد أحد المندسين في صفوف الحركة الوطنية، يحكي في ذلك التقرير عن اجتماع أصدقاء الطريس في مقر "جمعية الطالب المغربي بتطوان" الذي كان يطلق عليه العامة أسم "النادي" : "اليوم 20 يونيو 1940 اجتمعنا في مقر جمعية الطالب المغربي مع مجموعة من نخبة الوطنيين الإصلاحيين، وحينما تم خلال هذا الاجتماع إثارة موضوع استقلال المغرب، قال أحمد بنجلون ما يلي : "سأحكي لكم عن سر أطلب منكم عدم إفشائه لأحد، إن المغاربة يتهمون حاليا عبد الخالق الطريس، بأخذ كمية كبيرة من الأموال من الحكومة الإسبانية حتى لا يطالب خلال هذه الفترة الحرجة باستقلال المغرب". ولقد كان هذا الخبر له تأثير بالغ على أبناء الحركة الوطنية، حيث علق بعضهم على ذلك، إذا كان عدد كبير من الوطنيين يعملون بصدق لصالح القضية المغربية، فإن القادة يأخذون الأموال من أجل عدم المطالبة بالحقوق المسلوبة للمغرب، كما أعربوا عن نيتهم مغادرة الحركة الوطنية، وانعدام ثقتهم في أي مغربي" وفي نفس الوقت علق الحاج عبد الكريم داود على هذا الخبر بما يلي: " لا يجب الالتفات لهذه الإشاعات الكاذبة، لأن قادة الحركة الوطنية يعملون لصالح القضية المغربية بصدق وبروح تطوعية، وإن هذه الأخبار الزائفة يتم ترويجها من طرف عملاء الاستعمار من أجل إبعاد الشعب عن قادته" انتهي التقرير. هناك العديد من المعلومات التي تكمل مثل هاته التقارير التي يرفعها المخبرون المغاربة للإسبان، والمتعلقة بنشاط الحركة الوطنية، وكانت هذه الطريقة التي نهجها الإسبان في اختراق صفوف الحركة الوطنية لها أثر بالغ على الطريس، فلم يكن ما حدث صدفة خلال نهاية شهر ديسمبر من نفس السنة، حينما أطر الطريس اجتماعا حزبيا بمدينة القصر الكبير ليصرح غامزا الإسبانيين، بأنه يهاجم كل من "لا يتعاون مع السلطات الإسبانية" فلم يفهم العديد مغزى هذا الخطاب، بينما أفراد آخرون داخل الإقامة العامة بتطوان، ضحكوا كثيرا حينما بلغهم هذا الخبر. تراث ضائع يبدو أن الطريس مع توالي انتكاساته المالية، لم يكن له من حل للخروج من ورطاته سوى البقاء معارضا للوجود الأجنبي بالمغرب، فهو كان يعي جيدا بأن توفير قوته اليومي، وصموده في معركته ضد الحماية يجب أن يمرا عبر التعاون مع سلطات الحماية نفسها. ففي سنة 1943 سيعيد التاريخ نفسه، حيث سيختنق الطريس من جديد من أزمة اقتصادية، ستدفعه للسفر إلى إسبانيا في محاولة للحصول على مساعدة مالية من الدولة الإسبانية، من أجل إنعاش تعاونية الكهرباء، إلا أن محاوريه أوضحوا له أن الموارد الضعيفة للدولة لا تسمح لها بتقديم يد المساعدة له. وفي هذه الفترة بالذات، خلال ماي 1943، بعد مضي ثلاثة أشهر على توقيعه مع الناصري الوثيقة الأولى للمطالبة بالاستقلال (14 فبراير) كان الطريس يعاني مصاعب اقتصادية ستجعله يقترف خطأ كبيرا، وهو الخطأ الذي ظل في طي الكتمان إلى يومنا هذا، فمن أجل تغطية نفقاته الملحة، سيعمد الطريس إلى التخلي لفائدة الإسبان عن مجموعة مختارة من الوثائق الأصلية التي كانت بحوزة جده محمد بن العربي الطريس بمبلغ تافه لا يتجاوز 40.000 دورو "DUROS" رغم أن قيمة تلك الوثائق كانت لا تقدر بثمن، حيث يتعلق الأمر بمعاهدات دولية واتفاقيات كان جده قد وقع عليها بصفته وزيرا مفوضا للسلطان، كما يتعلق الأمر بعدد هائل من الرسائل المتبادلة بينه وبين السلطان، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الوثائق ذات القيمة التاريخية الكبيرة ترجع إلى جده الأعلى، وكان من ضمن الوثائق التي أضاعها من أجل حفنة من المال، الوثائق الأصلية المتعلقة بأشغال مؤتمر الجزيرة الخضراء المنعقد سنة 1906. وبمجرد ما تمت الصفقة، عمدت الإقامة العامة بتطوان إلى تعميم هذه المعلومة داخل النخب المثقفة بشمال المغرب، بل وحتى في المنطقة التابعة للحماية الفرنسية. يمكننا أن نفهم شخصية الطريس المبذرة وإفلاسه الدائم، كما أن سعيه المستمر وراء المال كان معروفا ومقبولا، ولكن لا يمكن تبرير التصرفات اللامسؤولة لشاب مستعد ليبيع، من أجل حفنة من المال، وثائق تاريخية، تعود ملكيتها لجميع المغاربة، وهو تصرف دفع بالبعض من رفاقه إلى نعته "بخائن للوطن" بواسطة منشورات ألصقت بالقرب من منزله. فعندما قام الشاب الطريس بهذا التصرف فإنه فقد جزء من الاحترام الذي كان رفاقه يكنونه له. منذ ذلك الحين أصبحت تلك الوثائق مملوكة بصفة شرعية للدولة الإسبانية، وضاع حق استردادها بصفة نهائية من طرف المغرب. وكما أن هذه الواقعة لم تأخذ طريقها نحن العلن، فلا يوجد كذلك أي شخص يعرف مصير هذا الكنز من الوثائق. ولكن هذا ليس كل شيء، فمنذ سنوات، أعلنت أسرة الطريس عن ضياع وثائق تاريخية كانت بحوزة هذا "الزعيم الوطني" التي اختفت مباشرة بعد وفاته سنة 1970، وإذا كانت الإشاعات تشير إلى ضلوع شخص كان يعتبر بمثابة اليد اليمنى للطريس في هذا الاختفاء، إلا أن العارفين بخبايا الطريس لا يستبعدون أن يكون هذا الأخير قد تخلى عنها بنفس الطريقة التي قام بها سنة 1943. فعندما تجتاح ضائقة مالية هذا السياسي الكبير المسمى عبد الخالق الطريس، فإنه يتحول إلى إنسان ضعيف.