كما كان متوقعا جاء رد النظام السياسي في المغرب على احتجاجات حركة 20 فبراير سريعا، ومن أعلى سلطة بالبلد على شكل خطاب ملكي، وأيضا كما كان متوقعا كانت ردود أفعال المحللين والمتابعين في الشارع وفي صفوف النخب السياسية والثقافية بشأنه متباينة ومتناقضة يمكن إجمالها في ثلاث آراء كبرى: فريق مخزني : يمثله المخزن وجوقته من المنتفعين والانتهازيين وذوي المصالح من سياسيين وإعلاميين وأمنيين ونخب، وهو فريق يضم كل البنى والقوى التقليدية من لوبيات اقتصادية وأحزاب سياسية ونقابات وعائلات نافذة ترى أن مصالحها مرتبطة باستمرار النظام الحالي واستقراره. تدعمها جهات دولية لها حساباتها الخاصة جدا محكومة بخلفياتها الإيديولوجية الاستعمارية الرأسمالية، وبمخاوفها وعلى رأسها فوبيا التطرف الديني والخوف من وصول الحركات الأصولية إلى الحكم وما تشكله من تهديد لأوروبا بالنظر لموقع المغرب الاستراتيجي بالنظر لقربه من أوروبا النصرانية خاصة إذا استحضرنا تجربة الجزائر.وهو فريق يرى في الخطاب الملكي "خطابا تاريخيا" غير مسبوق و"ملكية ثانية" و"ثورة جديدة للملك والشعب"و"محمد الثائر"وغيرها من مصطلحات وعبارات تجيد آلة الدعاية المخزنية صياغتها وتسويقها. فريق ثوري: تمثله المعارضة التاريخية الراديكالية في المغرب متمثلة في بقايا اليسار الجذري وجماعة العدل والإحسان بالإضافة لغالبية شباب حركة 20فبراير والذين يرون في الخطاب مجرد مناورة سياسية لربح الوقت، ومحاولة لسرقة الاحتجاجات الشعبية والقفز على هذه الفرصة التاريخية، لامتصاص الغضب الجماهيري بإجراءات شكلية تشكل التفافا على مطالب الشعب ولا تستجيب لمتطلبات المرحلة، وأن المخزن ما يزال يفكر بنفس الطريقة التقليدية وبالتالي فالخطاب لم يقدم جديدا مادام يتحدث بنفس الآليات العتيقة شكلا ومضمونا. فمثلا الدكتور محمد الساسي يصرح أن الخطاب الملكي لم يحمل أية ضمانات لإقرار ملكية برلمانية. وأنه "لم ترد فيه أية ضمانات لتأسيس ملكية برلمانية، ونخشى أن تكون الإصلاحات الموعودة مجرد تحسينات تتبعها تأويلات كما كان يحصل في السابق". وأكد الساسي أن مطلب حزبه واضح وهو "ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم". فريق إصلاحي توفيقي: يرى أن الخطاب الملكي بغض النظر على النوايا المخفية وراءه، فقد كان إيجابيا وقدم مجموعة من الإصلاحات إن تم تنفيذها ستشكل ثورة حقيقية، رغم أنه كان ملتبسا وغامضا بعض الشيء ويأتي على رأس هذا الفريق الأمير هشام العلوي الذي صرح بشكل واضح أثناء رده على أسئلة قناة "فرانس 24"، "عندما نقرأ الخطاب سنجد أنه غامض وملتبس، وهو ملتبس بطريقة إرادية فعندما يتحدث (الخطاب) عن السلطة التنفيذية فهو يتحدث عن السلطات التنفيذية وليس عن السلطة التنفيذية". وتساءل عما هو المقصود من الناحية القانونية بهذه السلطات ومن يملكها ومقابل من وماذا؟. واستطرد الأمير موضحا رأيه بالقول "نتحدث عن إمارة المؤمنين، التي تعتبر العمود الفقري للنظام، والملك يقول بأنها كانت دائما موجودة ومستمرة عبر التاريخ المغربي، وهذا صحيح، لكنها ليست مؤسسة منزلة، وإنما هي إبداع إنساني تطور عبر التاريخ، فما هو الحجم الذي يجب أن تتمتع به أو الحجم الذي يبتغيه لها الملك؟". وأيا كانت ردود الأفعال المرصودة فإن ما يلاحظ من خلال استعراض كل الآراء، هو أن كل الأطياف السياسية بما فيها الراديكالية لم ترفع شعار إسقاط النظام أو الملكية لحد الآن-بما فيهم جماعة العدل والإحسان- إذ المطالب كلها تستهدف إسقاط الاستبداد والفساد والتسريع بخطوات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وهذا موقف فيه كثير من النضج والحكمة وتغليب المصلحة الوطنية التي تقتضي تحولا سياسيا سلميا ومتدرجا، وإعطاء فرصة أخرى للملكية لتراجع أوراقها، وتستأنف إصلاحات دشنتها مع وصول محمد السادس إلى الحكم منذ عقد من الزمان بداية من إقالته لإدريس البصري. وهو موقف عبرت عنه مثلا جماعة العدل والإحسان في رسالة مرشدها الشيخ عبد السلام ياسين الموجهة إلى ملك المغرب بعد وصوله إلى الحكم وتنبأت بما سيقع مع مرور الوقت من ردة بسبب جيوب المقاومة التقليدية "مسكين هذا الملك الشاب ! إنه يرث تركة ثقيلة جدا، وتطرح العديد من الأسئلة بشأنه، ويشكل منعطفا ينتظر المنتظرون عنده بتلهف. ماذا يريد أن يفعل الملك الشاب الناهض حديثا إلى الحكم ؟ ماذا يمكنه أن يفعل ؟ هل يستسلم لسحر المدائح التي يكيلها له الوصوليون ؟ هل يسلم الزمام لسدنة الحكم ؟ هل ينهزم العقل أمام تقاليد الحكم المطلق الموروث ؟ هل سيظل محفوفا بالمتزلفين، تتلاعب به أيدي الخونة ؟ هل تستمر هيمنة القوى الزارعة للتنافر والعاملة على تعميق الشقة بين المغاربة وتفريقهم إلى طبقات متدابرة ؟ هل يتحوَّل إلى هذا الوجه الجديد، الذي يجسد في أعين الشبيبة المتحيرة وعدا بالخلاص، توجُّسُ الشعب من النخبة السياسية ؟ ما الذي يستطيعه ملك مبتدئ مثقل بالأعباء، مطالب بالإجابة عن سيل من الأسئلة الملحة، ينوءُ به وِزر نظام يقوم على فكرة أن الملك قادر على فعل أي شيء ويجب أن يفعل كل شيء ؟ لن يستطيع شيئا إذا استسلم لترانيم سدنة العهد القديم، وسلم مقاليد حكمه إلى الحسابات التناوبية لتتكفل "بترشيد" سير الأمور. لكنه سيحقق الكثير إذا تسلح بالجرأة والعزم وأظهر للجميع قولا وفعلا أن الذي يقود القافلة ليس شخصا مائعا، مدجنا، تتلاعب به الأيدي الماكرة المتآمرة في دهاليز القصر المظلمة" لهذا فالملكية في المغرب مطالبة أكثر من أي وقت مضى، باتخاذ خطوات عملية إجرائية ملموسة حازمة وشجاعة تحدث قطيعة كلية مع كل الفترة الماضية برموزها وخطابها وممارساتها، وأن تنتقل من الوعود إلى التنفيذ لأن أكبر تحد يعانيه المغرب هو التنفيذ. فالقرارات لا تنفذ والأحكام القضائية لا تنفذ والتوصيات لا تنفذ، وحتى المشاريع الملكية لا تنفذ للأسف.ومن جملة الخطوات التي نرى أنها ستشكل دافعة سياسية وتضفي كثيرا من الصدقية على خطاب 9 مارس: 1-إقالة الحكومة الحالية ومحاكمة كل المتورطين في قضايا الفساد وعلى رأسهم الوزير الأول، وتفعيل توصيات المجلس الأعلى للحسابات. 2- توفير مناخ حقيقي من الحرية والديمقراطية والرقابة التي تقطع مع كل ممارسات الماضي 3- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين من كل الاتجاهات، وأيضا إطلاق المعتقلين على خلفية أحداث20 فبراير باستثناء المجرمين والحياحة –البلطجية- 4- حل البرلمان ومجلس المستشارين مع الدعوة إلى انتخابات نزيهة سابقة لأوانها بإشراف قضائي ورقابة دولية. 5- فتح وسائل الإعلام العمومية أمام كل الأطياف السياسية الموالية والمعارضة للنظام من أجل نقاش وطني عمومي بدون خطوط حمراء بما في ذلك طبيعة النظام السياسي -شكل الملكية وإمارة المؤمنين- 6- ترسيخ مبدأ حرية التظاهر والاحتجاج السلميين ولجم الأجهزة القمعية ووقف كافة أشكال التضييق على التحركات الشعبية 7-السماح لكل المعارضين السياسيين للنظام المغربي بما فيهم جماعة العدل والإحسان، والأحزاب التي حلت بتأسيس أحزاب وإطارات قانونية شرعية. 8-القطع مع كل أشكال وطقوس العبودية والإذلال الحاطة بكرامة الإنسان وحذفها من البرتوكول الرسمي. إن الإجابة على الأسئلة التي وصفها الشيخ ياسين قبل عشر سنوات ونيف ب"المحرجة" هي نفسها التي تطرح الآن بقوة وبأساليب مختلفة، وهي المفتاح الذي سيفتح أبواب المستقبل أمام المغرب أو سيوصدها.