فهمنا للنقد يختلف عن بعض الإخوة الذين نتقاسم معهم الانتماء إلى حزب الأصالة والمعاصرة، لأن الأمر أكثر اتصالا بزاوية الالتزام بالخط الفكري والسياسي للحزب أولا، وثانيا فهو أشد تعلقا بالتقدير السياسي لنوعية النواقص والتعثرات من حيث ربطها بالرؤية أحيانا، وبالممارسة السياسية والتنظيمية والتدبيرية أحيانا أخرى. فالاختلاف في شقه المنهجي يحملنا على توضيح مسألة استنكاف البعض عن التداول الداخلي للحزب، والتعالي على المناضلات والمناضلين بمقاطعة أشغال اللجنة التحضيرية المنكبة على مناقشة المرجعية الفكرية والسياسية والقوانين الأساسية، والتموقع في المشهد السياسي والتفاعل مع المكونات السياسية، ومنظور الحزب للسياسات العمومية واستراتيجيته التواصلية. علاوة على أن هذا الأمر في تلابيبه الكثير من المخاطر من حيث رسم صورة للحزب غير تلك التي نتغياها عبر تنظيم المؤتمر الوطني الثالث. غير أن هذا الاختلاف المنهجي مع أصحاب "أطروحة الاختناق"، غير كاف لتوضيح وجهة نظرنا، على الرغم من الأخطاء التي سقطوا فيها بتوجههم نحو مخاطبة الرأي العام مباشرة، دون امتلاك القدرة على الدفاع عن مواقفهم داخل الهياكل التنظيمية، ودون القدرة على تقاسم هذه المواقف مع مناضلات ومناضلي حزبهم. بل إن الاختلاف أعمق من ذلك بكثير حين يكون مرتبطا بالحديث عن منطلقات الحزب وتوجهاته وأهدافه، خاصة وأن حرية الأفراد مكفولة، ولا يحدها سوى الحرص على تقييم شامل للتجربة دون السقوط في حبال تخليص الذات من ربقة المسؤولية. وإذا كان النقد يشكل قراءة تقييمية للتجربة، عبر تأكيد النتائج الإيجابية ودحض النتائج السلبية وتحديد حركة الممارسات والمواقف وتوافقها مع المنطلقات، وإذا كان النقد يتميز بالقدرة على التدخل ليس بالأقوال فقط وإنما باقتراح الأفكار والآراء والمواقف والمساهمة في تفعيلها على أرض الواقع، مع ما يقتضي ذلك من حرص على منع أي انحراف أو انجراف، فإن حزب الأصالة والمعاصرة من منظور أصحاب "أطروحة الاختناق" (جازف إيديولوجيا حينما جمع بين مفهومي الأصالة والمعاصرة بما يحمله كل مفهوم من حمولة فكرية وتاريخية واجتماعية وسياسية لم يستطع أن يؤسس تصورا إيديولوجيا متكامل الأسس)، وهو بذلك يوحي (أن الحزب له مشكلة في بناء أساس إيديولوجي يؤطر دوره السياسي الذي أنشئ من أجله). ونحن إذ نعول على فطنة القراء، ألا يمكن لمثل أحكام القيمة هذه خاصة وأنها مبنية فقط على انطباعات وجدانية متعاطفة مع القراءة المغرضة للخصوم السياسيين أن تذهب بالبعض إلى القول بأن الحزب "يفتقد لناظم فكري/سياسي"، و"لا يمتلك وضوحا على مستوى تموقعه في الساحة السياسية"، وأن به من "أعطاب العمل الحزبي ما يجعل جاذبيته السياسية والاستقطابية مزيفة"...؟ ألم تم الانتباه إلى أن النقد لا يستهدف تقييم السلبيات فقط، بقدر ما يتطلب تقييم الإيجابيات أيضا، إلى جانب استحضاره لضرورة تقديمه للمقترحات البناءة؟ كان الود ودنا لو أن الأمر يتعلق فعلا بنقد ذاتي مؤسس على تقييم شامل للتجربة، ولسنا ملزمين بالرد على انطباعات وجدانية منفعلة تجاه محطة المؤتمر الثالث للحزب، لكن من باب تنوير الرأي العام، تبين لنا ضرورة التنبيه إلى أن مناضلات ومناضلي الحزب لا يتخوفوا من النقد، بقدر ما يبادرون إليه، وهو ما أقدموا عليه من خلال ورقة اعْتُمِدَت في المؤتمر السابق "قراءة تقييمية لتجربة حزب الأصالة والمعاصرة". نقترح اليوم عرض خلاصاتها على القراء والمتتبعين كي يتبين لهم أن الغموض في الرؤية أو الممارسة السياسية هو أمر مرتبط فقط بمن استعصت عليهم قراءة مسار حزبهم. كانت القراءة تهدف إلى التمعن في تجربة الأداء السياسي والتنظيمي لحزب الأصالة والمعاصرة، ومراجعة بعض تفاصيل تصريف مشروعه السياسي، للتمكن من استشراف مستقبل تموقعه وأدائه السياسيين. ولم يكن ذلك ليستقيم دون تحليل الأهداف التي يسعى الحزب إلى تحقيقها في ضوء الربط الموضوعي بين الأهداف المنشودة بالممكن واقعيا في اللحظة، مع هامش مقبول من الطموح. وقد كان منطلق التحليل هو دخول بلادنا لمرحلة "الانتقالات المتعددة" التي همت، فضلا عن الشروع الجاد في معالجة قضايا الحقوق والحريات، إطلاق سيرورة قواعد جديدة في التدبير. لكن، على الرغم من أهمية كل الخطوات التي أدت إلى تحقيق مكتسبات وإطلاق ديناميات واعدة، فإن أسباب القلق بقيت منذرة بأخطار مهدِّدة بإضعاف كل المكتسبات. هذه الروح الموجهة للتحليل، هي التي شكلت الدافع إلى تبني شعار "ممارسة السياسة بشكل مغاير" في إطار رؤية مرتكزة على جدلية الاندماج والانفتاح، علما بأن الوضع عرف وصول جيل جديد من الفاعلين إلى الحقل السياسي وبطرق مبتكرة، وتنامي المطلب السياسي والاجتماعي، الذي يتطلب التفاعل الخلاق وبالسرعة المطلوبة. فالسياقات السياسية الجديدة، جعلتنا نعيد طرح السؤال حول مقومات الإصلاح وأدواته، الذي طرحه مشروع الحزب، وفق ما اجتهدت فيه "حركة لكل الديمقراطيين". وقد أدركنا بعض أسباب ذلك الإقبال الذي عرفته الحركة، المتمثل في كونه ناتجا عن استعداد الأجيال الجديدة من المغاربة للعودة إلى الاهتمام بالشأن العام. ومن ثمة طُرِح السؤال: هل كنا مخلصين في ممارستنا لتلك المنطلقات؟ خاصة وأن قرار تأسيس الحزب، وعقد مؤتمره الأول، ثم انطلاق التحضير للانتخابات الجماعية، حشر كل طاقات الحزب في صيرورة تدفق كبير للمنتخبين، وتقوية الاعتقاد بأن أهم دور قد تم القيام به بمجرد "ربح الانتخابات". علما بأن حزب الأصالة والمعاصرة تأسس على الإيمان بضرورة إضافة طاقات بشرية غنية وكفاءات جديدة إلى الصالح من موروث التجربة السياسية الوطنية الغنية، قصد بناء أداة سياسية قادرة على المساهمة، إلى جانب كل الفاعلين الملتزمين بالاختيار الديمقراطي، في المجهود الوطني الرامي إلى تحقيق الأهداف ذات الصلة بتوطيد الممارسة السياسية العادية، وتطوير عمل المؤسسات، وتدعيم الاقتصاد التنافسي المنتج والمتضامن، وتطوير نظام الحكامة، وتقوية الإدماج الاجتماعي، وإنضاج شروط اندماج المغرب في اقتصاد ومجتمع المعرفة. واعتبرنا من هذه المنطلقات أن الأداء السياسي للحزب كان محكوما في المنطلق بهذه الرؤية، وربما يطرح اليوم السؤال حول راهنية هذه العناصر البرنامجية، أو على الأقل حول ما تم إنجازه بخصوصها. وقد اختار الحزب أن تكون هندسة شكله التنظيمي المتحرك مبنية على قاعدة الارتباط بحاجات وانتظارات الفئات المتضررة، من خلال تنسيق موارده على أساس الانفتاح على المواطنات والمواطنين، والرهان على استقطاب الكفاءات السياسية، والارتباط بالأبعاد الجهوية والمحلية للعمل الحزبي، وممارسة سياسة القرب من الفئات المعنية. واختار الحزب المزاوجة بين البعدين الوطني والجهوي في بناء الهياكل التنظيمية واللجان الوظيفية المرتبطة بها، وصولا إلى البعد المحلي، مع التنصيص في القوانين التنظيمية على مجالات الاختصاص ذات الصلة بعنصر المبادرة لدى كل هيكل على المستوى العمودي داخل البنية التنظيمية. فإلى أي حد كان الحزب موفقا في هذا الاختيار؟ وأهداف الحزب كانت سابقة على فكرة التنظيم، بل كانت محددة وموحية بفلسفته التنظيمية، وقد تمثلت في خلق الشروط الضرورية لاسترجاع ثقة المواطنين في نبل العمل السياسي وأهمية الانخراط الملتزم في المجهود الجماعي، وتحصين الاختيارات الديمقراطية وتدعيمها بالإصلاحات المؤسساتية والدستورية وبمقومات إحقاق العدالة الاجتماعية والإنصاف، وتدعيم ركائز دولة الحق والقانون، وترسيخ المكتسبات الحداثية وإغنائها، وإيلاء أهمية قصوى لقضايا التنمية المستدامة والتنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة والتهميش والإقصاء، والبناء القاعدي.. نُذكِّر بكل هذا، لأن الأمر قد يكون متعلقا اليوم بمجانبة الحزب للطريق المؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف، وهو ما سيسهم في إفقاد المشروع السياسي مبررات وجوده من الأصل، ما لم يتم تدارك ذلك. فهل كنا فعلا في مستوى التحديد الدقيق لفكرة التنظيم، ومواكبة الارتباط بها عند أجرأة التوجهات والقواعد التنظيمية على أرض الواقع، أم أن الأمر انزاح إلى الانشغال بالأحداث السياسية؟ إن نقل فكرة التنظيم، من وضعها الساكن كرؤية، إلى حالة الحركة في الواقع، بتلك الهندسة على مستوى الهيكل التنظيمي كآلية للتنفيذ، كانت تفترض قراءة متفحصة لمدى قدرة الطاقات على التنزيل الواقعي لها وطنيا وجهويا ومحليا، وفق محددات غير قابلة للانزياح، ودراسة مدى قدرة هذه الآلية على حمل فكرة التنظيم وتجسيدها في الواقع. وهنا تطرح التساؤلات القوية: حول من يقود؟ وكيف يقود؟ حتى تكون الرؤية الواقعية للبنية التنظيمية واضحة؛ من حيث قدرة القيادة على التحكم في الشكل التنظيمي لتحقيق الأهداف المنشودة. ارتباط نشأة الحزب بأهداف محددة، تجعل أداءه يدور حول حماية مصالح الفئات المتضررة من السياسات العمومية وتبني قضاياها الاجتماعية. كما تحتم عليه إذا لم يبق على خط السعي إلى السلطة، أو لم يسع إلى التغلب على تعثراته، أو لم يعمل على استثمار قوته في حدودها القصوى، فقدان ارتباطه بالأهداف الملهمة والمبررة لوجوده. كانت في الواقع السياسي فرصا تتطلب استثمارها، كما كانت عوائق تفرض التغلب عليها أو التكيف معها، وبين هذا وذاك تولدت حركية الحزب التنظيمية الموجهة، التي كانت تقتضي بناء إستراتيجية هادفة إلى إنجازات محددة، وهي التي كان ينبغي أن تتضمن نسبة معينة من التحكم في الوسائل والبدائل الممكنة لتحقيق أهداف الحزب باستخدام الموارد المتاحة في ظل الظروف المحيطة. إن وجود القيود والعوائق والضغوط، كان عليه أن يؤدي إلى زيادة فاعلية الحزب وتأثيره في المحيط السياسي، إذ كلما زادت الضغوط على الحزب يجب أن تزيد بالضرورة حركة الحزب وتتوهج حيويته، والعكس أدى إلى استرخاء التنظيم الحزبي وانعدام الميل نحو التطوير والتجديد والابتكار، واللجوء إلى خيار التحالف من أجل الديمقراطية، وهو ما يتطلب الوقوف على تقييمه. إن تطوير فاعلية الحزب للتعامل مع الضغوط التي تعرض لها في السابق، لا يمكن أن يقابلها سوى تحكمه في العوامل الفنية؛ كالأساس النظري (أسس وقواعد علمية يقوم عليها النشاط السياسي والتنظيمي)، والموارد المادية، والتنظيم الداخلي للنشاط السياسي والتنظيمي، وأساليب العمل وطرق الأداء السياسي والتنظيمي. فتقوية هذه العوامل كان سيؤدي إلى تعزيز كفاءة النشاط التنظيمي والسياسي. وكذلك التحكم في العوامل الإنسانية، أي كل ما يتعلق بالموارد البشرية (الأطر والقيادات)، بما يقتضيه: من القدرة على العمل؛ وتعني قدرات ومهارات الأعضاء القائمين على تنفيذ النشاط التنظيمي والسياسي، وكان بالإمكان تنميتها من خلال الوعي بأهداف الحزب، والتكوين والتأطير العملي، وتبادل الخبرات. ومن الرغبة في العمل؛ وقد كان بالإمكان تنميتها من خلال الإقناع بجدوى العمل لصالح الوطن والمواطن، والترقي الحزبي، والاضطلاع بمهام ومسؤوليات حزبية وجماهيرية، والمحاسبة الحزبية. إن دمج هذه العوامل الفنية مع العوامل الإنسانية كان بإمكانه تشكيل الهيكل التنظيمي القادر على حمل أهداف الحزب وطموح أطره، والوصول بها إلى التحقيق على أرض الواقع. كان يُفترض في تجربة حزب الأصالة والمعاصرة أن تكون القيادة السياسية والقيادة الجماهيرية في يد القيادة التنظيمية، فيهما تتحقق أهداف الحزب التكتيكية والمرحلية. وقيادة الحزب مجتمعة كان عليها أن تسعى إلى الإنجاز باستثمار الممكن والمتاح لتحقيق المكاسب في الظرفية السياسية الراهنة، عن طريق التحكم في الموارد البشرية والمادية والمعلوماتية والتقنية، لتتمكن من تحقيق مسعى الوصول إلى السلطة في سنة 2011. وعليه، فقيادة الحزب يجب أن تكون مستقبلا متحكمة في الموارد، لتكون لديها القدرة على الإنجاز والإنتاج، لتحقيق المكاسب الحزبية المستهدفة في المحطات السياسية المقبلة، ولتتحول المقومات الفكرية والتاريخية والمادية والبشرية والمعلوماتية والتقنية للحزب إلى أدوات في يد قيادة الحزب، تستثمرها لتحقيق الإنجاز المقصود. وهذه القيادة الحزبية يجب أن تكون منتخبة أو حائزة على توافق عام بين من يملكون حق انتخابها في الأصل، وذلك يفرض وجود حالة من التآلف بين أعضائها فكريا وثقافيا وخبرةً، حيث يؤدي ذلك التآلف إلى مرونة حركية، وتوافق نفسي للإدارة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات على طبيعة وشكل التوافق الذي حصل في المؤتمر الوطني الأول على القيادة الحالية، التي برزت العديد من المؤشرات على غياب التآلف والتوافق النفسي بين أعضائها، وهو ما لم ييسر المرونة اللازمة لحركية القيادة الحزبية. وهذا لا يعني بالضرورة تغييب مفهوم الاختلاف، لأن العمل السياسي لا يحيى بدون آراء ووجهات نظر وتقديرات سياسية مختلفة، على عكس العمل التنظيمي، إذ لا يحيى ولا ينشط إلا في وجود حالة تآلف بين القائمين عليه. على قيادة حزب الأصالة والمعاصرة مستقبلا، أن تختبر مقومات تنظيمها الحزبي وقدراته بصفة دورية، للتأكد من قدرة الشكل التنظيمي على بلوغ الأهداف وتحقيق الإنجازات، بل والتخلص من كل العوائق والعقبات (ماديا أو بشريا) لتخفيف الأعباء، وعليها إصلاح ما يمكن إصلاحه، وتقويم ما يمكن تقويمه، كما عليها أن تدرك أنها تخضع للمحاسبة إن هي قصرت في تحقيق المكاسب. هذه القراءة على النقيض من "أطروحة الاختناق" كانت محكومة أساسا بتنمية الثقة في النفس، وبكشف العيوب والأخطاء الذاتية في الممارسة علنا وصراحة ودون مواربة، والالتزام بالعمل على تصحيحها. وبالتعود على محاسبة النفس، قبل محاسبة الآخرين. وبالحرص على الوقاية من الوقوع في مطبات الغرور الذاتي والانخداع بالانتصارات ورؤية الوجه الإيجابي فقط. وبكسب ثقة الآخرين وجعلهم يعرفون حقيقة المشاعر الذاتية تجاههم وتجاه الروابط النضالية التي تجمعنا داخل الحزب. وبتفادي الأفكار الذاتية التي يكتشف الحزب أنها خاطئة قبل تنفيذها ضمانا لعدم العودة للتفكير فيها. وبالتعود على التقييم اليومي للمارسات وتحديد الإيجابيات والسلبيات، وتصحيح خطط العمل للمستقبل. وبالتخلص من العادات السلبية والسيئة، التي يشعر الحزب بضرورة التخلص منها عن طريق التنقية الذاتية كأعلى مراتب النقد الذاتي المخلص.