أرغمني الأسبوع الماضي زميل على حضور ندوة حول السياسة بالمغرب بين الجرأة والمسؤولية، تحدث خلالها العديد من الناشطين السياسيين المبتدئين والفاشلين "القدامى" عن ما يخالج صدورهم حول كل شيء وأي شيء. أكثر كلمة ضرب صداها طبلة أذني الملتهبة، كلمة أصبحت تمضغ كعلكة فقدت الطعم والحلاوة، هي كلمة "الإصلاح". نريد الإصلاح.. فشلنا في الإصلاح.. مسيرة الإصلاح.. مشاركة الشباب من أجل الإصلاح.. ولو سألت أغلب المشاركين الذين استهلكوا الكلمة عن أي إصلاح يتحدثون لغرقوا في التعميم، ولما استطاعوا تحديد المشاكل التي يرغبون في إصلاحها بجد وتدقيق. يتحدثون عن إصلاح سياسي اقتصادي واجتماعي، إصلاح الصحة والتعليم والسكن والشغل، استقلال القضاء والديمقراطية وحرية الصحافة وما لا نهاية له من العاميات الغير المحددة الملامح. لكن لو حدثناهم عن مشاكل مؤطرة محددة بعينها لاستصعب عليهم الرد، ولاتضح لهم فراغ تلك الملتقيات والتجمعات الجوفاء من أي اقتراحات مادية واقعية يمكنها أن تصلح أحوال مزرية بعينها. أنا هنا سأتحدث عن موضوع بعينه، وسأحدد معالمه وأرسم ملامحه بتدقيق حتى يتضح للعيان والراغبين في الإصلاح ليكفوا عن التعميم ويأتوا باقتراحات دقيقة لحله إن أرادوا فعلا الإصلاح. وكي أوصل لكم المشكلة كما هي، سأنقل لكم صورة من بين الصور المزرية الواقعية كما شهدتها في أحد المراكز الصحية بالرباط.. موضوعنا عن الصحة.. أو بالأحرى قصتنا الواقعية هاته وصف موجز لأحوال الصحة بالمغرب. واعذروني إن نقلت لكم الألفاظ النابية، حتى أكون وفية لما شهدت. قبل البدء في سرد ما شهدت سأكرر ما قلت على صفحتي على الفايسبوك للتوضيح: أنا نشرت عريضة حل حكومة الفاسي الفهري على النت بكل قناعة، لكني ضد ما ينشر عن بنات ياسمينة بادو من صور تنتهك حياتهن الخاصة وحرمتهن. هذه دناءة وقلة مروؤة. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه. إن هم تصرفوا في أموال الشعب بغير حق وتهاونوا في واجباتهم علينا محاسبتهم أو المطالبة باستقالتهم بطرق ديمقراطية شرعية، ترضي ضمائرنا وترضي الله ورسوله، وإنهم أخطئوا علينا تنبيههم لذلك، وإن هم أصلحوا علينا دعمهم وتحمل كامل المسؤولية كمواطنين، لكن لا وألف لا لانتهاك عرض أيا كان. لا للتشهير.. لا لانتهاك الأعراض.. لا للتشهير.. لا لانتهاك الأعراض.. لا للتشهير.. لا لانتهاك الأعراض
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد **** صبيحة يوم الثلاثاء الماضي؛ ذهبت إلى المركز الصحي ب"باب البيبة" بالرباط، لآخذ موعدا لإجراء بعض التحاليل الطبية. ذهبت إلى الشباك وطلبت من الممرض القاعد هنالك أي يعطيني موعدا بعد أن سلمته الورقة الطبية، فأخبرني أن أعود الأسبوع المقبل لإجراء التحليل. مشيت خطوتين وعدت بنبرة مرتبكة لأخبره أن الأمر مستعجل لأني أشعر بألم لا يمكن تحمله حتى الأسبوع القادم، فنظر إلى وجهي المصفر وأخبرني أن أعود في اليوم الموالي وأن أجلب معي شهادة الضعف. نظرت إليه في تساءل فقال: "يمكنك الذهاب إلى الصندوق لأداء ثمن التحليل؛" فقلت في نفسي لربما تعود على قول ذلك لكل المرضى لأن أغلبهم لا يملك ثمن التحاليل". ذهبت إلى الصندوق وأديت المبلغ الذي لا يتجاوز 50 درهم، وعدت إلى البيت على أساس أني سأقوم بالتحليل الطبي في الغد. استيقظت باليوم الموالي باكرا وتوجهت إلى المركز الاستشفائي دون إفطار للقيام بالتحليل، وإذا بالممرض يخبرني أن الموعد ليس بالصباح وإنما بعد الزوال، وأني سآتي فقط لأتسلم قارورات التحليل وأحتفظ بها إلى الغد. ماذا؟ عن أي قارورات يتحدث. ومتى كان المريض يستلم قارورات تحاليله الطبية ويذهب بها إلى البيت. ضاع اليوم كاملا في ذهاب وإياب إلى ذلك المشفى، فقد عاودت بعد الزوال وتسلمت قارورتين عليهما رقم دون إسمي. ثم طلب مني العودة بالغد صباحا دون إفطار. عدت إلى البيت بقارورتين فارغتين في حقيبتي، يجب أن أجلبهما معي بالغد ليوضع بهما الدم الذي سيسحب من جسدي. هذا أمر لم أسمع به ولم أره في حياتي من قبل. *** استيقظت باليوم الموالي، وتوجهت مرة أخرى إلى المركز الطبي دون إفطار، وصلت هناك على الساعة الثامنة والنصف صباحا، وإذا بي أجد صفا طويلا عريضا من النساء، يبدأ من باب كتب عليه "مختبر"، بينما هو ليس إلا قاعة وسخة عفنة بها طاولات صدئة وكراسي هرمة يجلس عليها المرضى، وينتهي إلى غاية الباب المؤدي إلى قاعات فحوصات أخرى. تفاجأت من كثرة النساء، ومن الهرج والمرج ولأصوات المتعالية التي تملأ المشفى. أغلب النساء جلبن معهن أطفالهن إلى ذلك المكان الوسخ المليء بالميكروبات وبالسعال والعطس وخرير الصدور، أطفال منعدمو التربية لا يجلسون ولا يقفون ولا يصمتون ولا يتعبون، يتمرغون على الأرض الوسخة ثم يقفزون على أمهاتهم ويمسحون بجلابيبهن كل ما جمعوه بأيديهم من ميكروبات وأوساخ من على الأرض. والنساء يتحدثن دون توقف، أفواههن تتحرك بسرعة وأصواتهن ألهبت رأسي. كل واحدة منهم تحمل بيدها قارورات وإبرة/ محقنة. سألت إن كان يجدر بنا جلب إبرة؛ فقيل لي: "نعم، اذهبي بسرعة باش متمشيش ليك النوبة." "النوبة؟ إنا نوبة؟" من الأولى ومن الأخيرة؟ لا أدري ولا أحد يدري. لم على المريض شراء المحقنة، هل المستشفى لا يملك إبر جديدة/ معقمة للمرضى؟ كيف لهم أن يقبلوا شهادة الضعف من المرضى وفي نفس الوقت يطالبوهم بشراء محقنة وبالذهاب والإياب عشرات المرات إلى ذلك المركز وفي كل مرة يتوجب عليهم إهدار المال في وسائل النقل! ذهبت بسرعة إلى أقرب صيدلة، الساعة كانت تشير إلى 9 صباحا، وعدت بتلك الإبرة التي يحقن بها الدواء في العضل لا الوريد. هل لا زالوا يسحبون الدم بإبرة البهائم هاته؟ بهذه الإبرة الكبيرة؟ لقد تم اختراع إبرة صغيرة توضع مباشرة على قارورة الدم.. ألم تصل بعد إلى هذا المركز؟ جلست.. في ذاك الهرج والمرج ساعة كاملة، حتى أصبحت محجوزة بين امرأتين كل واحدة كتفها زرع بعنقي وردفها امتد على فخذي.. وكأن الأوكسجين هرب من القاعة.. ماذا جاء بي إلى هنا؟ لماذا كل هذا التقشف؟ ماذا جرى لعقلي؟ لماذا لم أذهب إلى مختبر خاص؟ لا أملك تأمينا صحيا.. وماذا إذن.. ؟ أوفر المال لطبع كتاب.. فليذهب الكتاب إلى الجحيم.. أن أهدر المال لأضمن راحتي النفسية خير من هذا المشفى الذي يزيد مرضا على مرض.. فتحت الممرضة باب "المختبر"، وإذا بمائة امرأة وعشرات الرجال أو يزيدون انهالوا على الباب.. فزعت الممرضة المتأخرة فأغلقت الباب وصرخت: " لن أفتح حتى تنتظموا وتقعدوا أماكنكم.. " يا للهول! بدأ الصراخ والعويل والسباب والشتيمة وكأننا في سوق "جوطية" أو حمام بلدي. قالت امرأة للأخرى: "أنا قبل منك.. أنا جيت وانتي عاد تميتي جاية" فأجابتها: "متفرعيش ليا راسي، أنا غي يحلوا غندخل" فقالت: "والله يا مك وادخلي قبل مني.. " وحملت رجلها إلى السماء حتى صعد جلبابها وظهر سروالها القطني.. ثم نزلت بشربيلها على الأرض بقوة عظيمة حتى سمع الكل صدى دمدمة رجلها.. " حتى نفعص ملتك هاكا.." فصرخت الأخرى بأعلى صوتها بطبقة سوپرانو شديدة الحدة وقالت: "ويو وييييو بغيتي تحچريني.. خرجي لطاسيلك برا.. واك وآآآك أعباد الله"... وبدأ السب والشتم في الملة والدين وفي الآباء والأمهات والأرباب والأصول واحدة تجر جلبابها والأخرى تلوح بشعرها والثالثة تنثر يديها هنا وهناك.. لا أمن ولا ممرضين ولا أطباء.. كل الطاقم الطبي هرب وأقفل عليه الباب ينتظر أن ينظم الرعاع أنفسهم.. هادو مراض هادو؟ باش؟ المرض يلا شافهوم يهرب! لا أظن أن تلك النسوة تحتاج تحاليل دم.. أظنهن يحتجن "خبزة خبزة لوحدة"، لأن نقص السكر في الدم الناتج عن الجوع، من أهم أسباب العصبية وعدم تمالك النفس والخروج عن السيطرة. مرت نصف ساعة على ذلك الحال.. ولم تجد الممرضة بدا من فتح الباب، وقدم ممرض آخر ورجل أمن، وأخذوا يصرخون ليرجع الكل إلى الوراء، وبدأت "العرارم" تدخل قاعة سحب الدم. بعد مرور ربع ساعة، قررت المجازفة، فتكتلت مع "العرّام" ودخلت القاعة فور فتح الممرضة للباب، وإذا بي أسمع الأصوات تتعالى "البنت لاّ.. البنت لاّ.. البنت عاد جات؟" إنا بنت؟ أويلي.. أنا! فأجابت الممرضة بصوت مرتفع.. "من صباح وهي هنا.. حيت كولكوم شارفات بغيتو تحچروها؟" دخلت ووجهي تعتريه الصدمة والخوف.. مددت يدي.. فغرست الممرضة "إبرة الحمير" في شرياني وامتصت دمائي كلها.. وقالت: "صافي نوضي". وقفت وسألت: "إمتى النتيجة!".. لا جواب. "عافاك.. إمتى النتيجة!" لا أحد يرد. "الله يرحم ميمتك.. الله يعطيك ما تمينيتي .. إمتى نجي.. على النتيجة". فصرخت بطبقة السوپرانو "التلآآآات". شكرا.. خرجت من ذاك المركز الصحي بألم أكثر من الألم الذي جئت به، مرضى منسيون على ذاك الرف، ونساء تصرخ هناك، وأربع دكاترة واقفين في عنفوان الأساتذة الجامعيين يتحدثون بأنفة غير آبهين لعويل من حولهم من "الهبج"، وممرضات لا يعرفن الألف من الباء.. لا يعرفن معنى "أوتيط"/ تورم أذن من لامفوم/ ورم بالقعدة اللمفاوية.. ونقص في التجهيز بل وحتى في الكراسي.. انعدام في العناية والرعاية والنظافة والتأطير.. انعدام في الصحة *** هذه نبذة قصيرة مختصرة خفيفة "لايت" عن مستشفيات المغرب.. هذه الطبقات الكادحة في المغرب.. هذا الطاقم الطبي بمستشفيات المغرب.. جهل.. عفن.. قلة تربية.. قلة احترام.. قلة شهامة ومروة ومسؤولية لدى المواطن والموظف على حد السواء.. الكل سيسأل كي يزيل عن كاهله ثقل المسؤولية، من المسؤول الأول.. الكل سيتجه بأصابع المحاكمة إلى وزيرة الصحة ياسمينة بادو.. الكل سيلعن ويسب الحكومة والمسؤولين.. لكن قبل ذلك.. ربما علينا مواجهة أنفسنا في المرآة.. ومحاسبتها قبل محاسبة الآخرين. ربما علينا الخوف من أن تكشف عوراتنا.. قبل كشف عورات الآخرين مايسة http://www.elmayssa.com [email protected]