لم يخل الاتفاق الفلاحي بين المغرب والاتحاد الأوربي، منذ مباشرة التفاوض حوله، من محاولات نسفه من طرف خصوم المغرب. وقد كان البرلمان الأوربي، الذي تعود إليه مسألة المصادقة على مثل هذه الاتفاقيات، منبرا لمنع مرور الاتفاق. بيد أن هذه المحاولة فشلت رغم أننا نعرف أنه يوجد داخل البرلمان الأوربي تيار مدافع عن البوليساريو. دخول الاتفاق حيز التطبيق لم يمنع خصوم المغرب من اللجوء إلى المسطرة القضائية للطعن فيه بدعوى عدم شرعيته لكونه يمتد في تطبيقاته إلى منطقة الصحراء التي ينكر خصوم المغرب سيادته عليها. وحتى ندرك المرتكزات التي استند إليها، فإن المقال ينصب على تحليل محتوى هذا القرار الذي أصدرته المحكمة الأوروبية يوم 10 دجنبر الحالي، ويرصد تداعياته المحتملة. أولا: مكونات القرار محكمة العدل الأوربية هي الجهاز القضائي للاتحاد. وهي تتكون من ثلاث محاكم: محكمة العدل، والمحكمة الأوربية، ومحكمة الوظيفة العمومية. وتتكون من عدة غرف. وتتمثل اختصاصاتها في: - مراقبة مشروعية تصرفات مؤسسات الاتحاد الأوربي. - السهر على احترام الدول الأعضاء للالتزامات الناتجة عن المعاهدات الأوروبية. - تأويل القانون الأوروبي بطلب من قضاة الدول الأعضاء. وتعتبر قراراتها ملزمة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي وأعضائه بعد استكمال مسطرة التقاضي. في ما يتعلق بالنازلة التي تهمنا، فقد انطلقت ارتكازا على الدعوى التي تقدمت بها ما يسمى بجبهة البوليساريو في 19 نونبر 2012 ضد مجلس الاتحاد الأوروبي مدعوما بالمفوضية الأوروبية، تطعن في القرار 497.212.إ.المؤرخ في 8 مارس 2012، في ما يخص إبرام الاتفاق في شكل تبادل الرسائل بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المغربية، المتعلق بإجراءات التحرير المتبادل في مجال المنتجات الفلاحية والمواد الفلاحية والمواد المحولة والأسماك ومواد الصيد البحري، بدلا عن البرتوكولات رقم 1.2.3 وملحقاتها وتعديلات الاتفاق الأورومتوسطي التي ترسي شراكة بين المجموعة الأوربية وبلدانها الأعضاء. وقد ادعت جبهة البوليساريو أن الاتفاق المذكور يضر بوضعها بشكل مباشر وفردي. لقد سعى القرار، الذي تضمَّن أكثر من 250 فقرة، إلى التذكير ببعض تطورات قضية الصحراء، وكذلك خلفية هذا الاتفاق الذي يندرج ضمن مبادرة التعاون الأرومتوسطي التي انطلقت في بداية الألفية الثالثة ارتكازا إلى إعلان برشلونة لسنة 1995، قبل أن ينظر في مسألة إجرائية تشكل مدخلا لمعالجة الدعوى، تتمثل في معرفة ما إذا كانت المدعية، أي جبهة البوليساريو تمثل شخصا معنويا، وهل لها بذلك الصلاحية في التقاضي أمام المحكمة ؟ قبل أن ينصرف إلى تحديد انعكاسات الاتفاق على جبهة البوليساريو نفسها. وأخيرا ما يتعلق بجوهر الاتفاق نفسه. في الحق في التقاضي في ما يتعلق بحق التقاضي أمام المحكمة الأوربية، يشير الفصل 263، المنظم لها، إلى أنه: يمكن لكل شخص ذاتي أو معنوي أن يتقدم بطعن ضد التصرفات الموجهة له، أو التي تهمه مباشرة وبشكل فردي، أو ضد الأعمال التنظيمية التي تعنيه مباشرة والتي لا تتضمن إجراءات تنفيذية. ومن ثم، فقد ناقشت المحكمة وضعية جبهة البوليساريو، وهل تملك صفة الشخصية المعنوية حتى يتسنى لها التقاضي أمامها. لقد اعتبرت جبهة البوليساريو أنها شخص من أشخاص القانون الدولي، تتوفر على الشخصية القانونية الدولية المعترف بها لحركات التحرير الوطنية في القانون الدولي. لكن المجلس الأوربي اعتبر أن الشخصية المعنوية للبوليساريو مشكوك فيها. وهي في أقصى الاحتمالات لا تتوفر إلا على شخصية قانونية وظيفية وانتقالية. واعتبرت المحكمة أنه ليس من اختصاصها النظر في ما إذا كانت البوليساريو حركة تحرر أو ممثلة للشعب الصحراوي، وما إذا كانت هذه الصفة، حتى في حالة توفرها، تسمح لها بالتقاضي أمام المحكمة. فهذه المسألة لا تعنيها، لكن المحكمة بدل الاقتصار على الاعتبارات القانونية، فإنها ستصل إلى استنتاج غريب، مضمونه أنه بناء على الظروف الاستثنائية التي تحيط بقضية الصحراء التي ما زالت لم تسوّ بشكل نهائي، يستحسن الاستنتاج أن جبهة البوليساريو يمكن اعتبارها شخصية معنوية بمفهوم المادة 263، لكونها تتوفر على نظام أساسي وعلى بنية داخلية تسمح لها بالتصرف في العلاقات القانونية، حيث تساهم في المفاوضات المتعلقة بمستقبل الصحراء، وفي الوقت نفسه سبق لها، بهذه الصفة، أن وقعت في سنة 1979 اتفاقا مع دولة مستقلة، وهي موريتانيا. وبالتالي يمكن لها التقاضي أمام المحكمة رغم أنها لا تتوفر على الشخصية المعنوية لدولة ما، ولا يمكن لها أن تتوفر على الشخصية المعنوية للصحراء بفعل عدم وجود دولة اسمها الصحراء، وعدم اعتراف أي دولة أوروبية بوجودها. فعلى هذا المستوى يبدو واضحا أن المحكمة لم تبق في ظل الصرامة القانونية، بل غلَّبت الاعتبارات السياسية لإعطاء تأويل واسع، خفيف الحجة، وذلك لقبول تقاضي البوليساريو أمامها. وفي هذا السياق تبدو أهمية بذل جهود من طرف الفقهاء والمختصين المغاربة لدحض هذا المنطق، وإبراز خرافة توفر البوليساريو على الشخصية المعنوية، وعلى احتكارها لتمثيلية السكان الصحراويين. فأغلبية هؤلاء قد عبّرت عن رفضها لتمثيلية البوليساريو وتشبثها بمغربيتها عبر المشاركة المكثفة في الاستحقاقات الانتخابية ، والمساهمة في المشاريع التنموية التي غيرت معالم الصحراء بشكل واضح، والتي ستستفيد أكثر من خلال البرنامج الطموح الذي أعلن عنه جلالة الملك محمد السادس خلال خطابه بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء. بأي حال يمس الاتفاق المطعون فيه البوليساريو بشكل مباشر وفردي؟ ادعت جبهة البوليساريو أن هذا الاتفاق يمسها بشكل مباشر لكونها الممثل الشرعي للشعب الصحراوي، وبالتالي تبقى المؤهل الوحيد لتمثيل هذا الشعب، وثانيا إن هذا القرار ينتج آثارا مباشرة على الشعب الصحراوي لأنه لا يترك أية سلطة تقرير للدول الأعضاء في ما يتعلق بتطبيق القرار. رفض المجلس الأوروبي هذا الادعاء لأنه من الصعب إقرار علاقة بين الاتفاق والوضعية القانونية للبوليساريو. وفي الوقت نفسه لا يمكن فهم هذا التأثير باعتبار أن الاتفاق لا يهم إلا طرفين، وهما الاتحاد الأوروبي والمغرب. على خلاف ادعاءات البوليسزاريو، فإن المحكمة لم تبت بتاتا في وضعية البوليساريو كحركة تحرير أو كممثل للشعب الصحراوي. وهي لا صلاحية لها في ذلك اعتبارا إلى أن الاعتراف يتم من طرف الدول أو المؤسسات الأوروبية المخول لها قانونيا ذلك الأمر. لقد استندت المحكمة إلى ضرورة تأويل الاتفاق المطعون فيه وفقا للمادة 31 من معاهدة فيينا المتعلقة بالمعاهدات التي تم إبرامها في 23 ماي 1969، واعتبرت أن المجلس الأوروبي كان واعيا بأن الاتفاق يمتد في تطبيقه إلى كافة التراب المغربي، بما فيه منطقة الصحراء رغم إدراكه أن هذه المنطقة تبقى دوليا محل نزاع، وأنه مازال ينتظر مآل المفاوضات التي تقودها الأممالمتحدة من أجل تسوية هذا النزاع بشكل نهائي. على العكس من ذلك، يعتبر المغرب الصحراء جزءا لا يتجزأ من سيادته، وبالتالي، فإن كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يبرمها تنطبق على هذا الجزء من ترابه. وبالنظر إلى كون آثار الاتفاق تشمل الصحراء، وبما أن جبهة البوليساريو قد اعتبرت من طرف المنتظم الدولي أحد أطراف النزاع بشكل جعلها تساهم في المفاوضات الجارية تحت إشراف الأممالمتحدة، تكون بذلك متأثرة بشكل مباشر وفردي بتداعيات الاتفاق، مما يبرر قبول الدعوى. من خلال تحليل الحيثيات التي استند ت إليها المحكمة في تبرير قبول تقاضي جبهة البوليساريو أمامها، يبدو جليا أن الاعتبارات السياسية لم تكن غائبة. فمنطق القضاة الثلاث في ما يتعلق بشكليات قبول الدعوى كان واسعا ومسايرا لتوجهات اللوبي الأوروبي المساند للبوليسزاريو، والذي مارس ضغوطا كبيرة، لاسيما داخل البرلمان الأوروبي عند عرضه على المصادقة. في ما يتعلق بالجوهر لقد قدمت جبهة البوليساريو 11 دفعا لمؤازرة موقفها القاضي بتعارض الاتفاق مع شرعية الاتحاد الأوربي؛ من بينهما دفعين يتعلقان بالمشروعية الخارجية للقرار، والباقي متعلق بالمشروعية الداخلية للقرار. ومن بين دفوعات البوليساريو الادعاء أن الاتفاق لم يتم تعليله بشكل كاف، وأنه لم يحترم مبدأ التشاور مع البوليساريو قبل إبرامه، وأنه خرق الحقوق الأساسية والانسجام بالنسبة لسياسة الاتحاد، وكذلك القيم التي تأسس عليها الاتحاد الأوربي، والتعارض مع مبادئ القانون الدولي وحق المسؤولية الدولية في قانون الاتحاد. وبشكل إجمالي، فقد رفضت المحكمة معظم هذه الدفوعات. ويبدو أن السند الذي وقفت عنده يتعلق بمسألة شكلية أكثر مما هي موضوعية. فهي اعتبرت أن المجلس الأوربي أخل بالتزامه المتعلق بالتأكد ما إذا كان الاتفاق يمس بمصالح السكان الصحراويين في ما يتعلق باستغلال ثروات هذه المنطقة. وهذه المسألة رفضها المجلس الأوربي، لأنه ليس من صلاحياته عند إبرام اتفاقية مع طرف أجنبي أن يتحمل مسؤولية مراقبة الممارسات الناجمة عن تطبيق الاتفاق حتى ولو كانت مخلة ببعض الحقوق الأساسية. يظهر من خلال التعليل الذي استندت إليه المحكمة تغليب الطابع السياسي المتحيز. فهي لم تشر في عرضها لتطورات الملف، وفي حيثياتها إلى المعطيات التي نشرها المغرب، والتي تبين بالأرقام الانجازات والمجهودات الجبارة التي بذلها المغرب في ما يتعلق بإنماء هذه المناطق منذ استرجاعها، سواء على مستوى الاستثمارات الهائلة أو على مستوى الحكامة الترابية من خلال إذكاء الجهوية الموسعة، بل أكثر من ذلك مبادرة الحكم الذاتي التي تتوخى وضع أرضية لتسوية نهائية لهذه القضية. بعد حقوق الإنسان، يحاول خصوم الوحدة الترابية التركيز على مسألة استغلال ثروات الصحراء. وبالنسبة لنا، من الضروري مضاعفة الجهود من أجل دحض هذا الادعاء، وإبراز الحقائق التي تبين بشكل ناصع زيفه. ثانيا: ما بعد القرار من الواضح أن هذا القرار القضائي لم يخل من حمولة سياسية. فمن خلال تحليل مختلف مرتكزاته، يظهر أنه غلّب التحليل السائد لدى تيارات أوروبية، ينكر على المغرب سيادته على الصحراء، في انتظار إيجاد تسوية متفاوض ومتفق عليها بين الأطراف. لقد كان من الممكن قانونيا للمحكمة أن ترفض الدعوى شكلا لانتفاء الصفة بالنسبة للبوليساريو لكونها لا تتوفر على شروط التقاضي، كما أشارت إلى ذلك حيثيات قرار المحكمة، لكنها فضلت الذهاب في منحى آخر. لحد الساعة ليس المغرب معنيا بهذا القرار. فهو موجه إلى أجهزة الاتحاد الأوروبي، وأساسا المجلس والمفوضية، وهو بالنسبة لها قرار ملزم ولا يمكن القول إنه فاقد للشرعية. فالاتحاد الأوروبي قام على قِيّم وعلى مبادئ ترتكز على توازن المؤسسات، واحترامها للشرعية القانونية. لذلك فإن المجلس الأوروبي والمفوضية لا يمكن لهما تجاهل هذا القرار، بل إنهما يدركان تبعاته السلبية على التعاون مع المغرب. ومن ثم، ليس أمامهما من خيار في هذه المرحلة سوى استئناف القرار، وبالتالي الضغط بشكل أقوى على قضاة المرحلة الاستئنافية من أجل نقضه، وذلك ضمانا لاستمرارية كثافة التعاون مع المغرب لما فيه مصلحة الطرفين. ليست هذه هي الحالة الأولى التي يتعارض فيها منظور المحكمة مع باقي الأجهزة، وخاصة المجلس الأوروبي، بل هناك سوابق التجأ فيها المجلس إلى مسطرة الاستئناف. ومن ثم، فإن الاتفاق سيظل ساري المفعول. وينبغي انتظار القرار الاستئنافي الذي ينبغي أن ينصب على دحض المرتكزات القانونية التي استند إليها قضاة هذه المحكمة، وخاصة ما يتعلق بأهلية جبهة البوليساريو للتقاضي أمامها، في الوقت الذي لا تتوفر على الشروط اللازمة لذلك. وبالنسبة للمغرب، كما هو الشأن بالنسبة للجانب الأوروبي، فإن التعاون مستمر، ولا يمكن التشكيك فيه، لكن في حالة ما إذا تم تأكيد هذا القرار استئنافيا، فإننا سنكون أمام وضعية جديدة تجعل من القضاء الأوروبي فاعلا أساسيا في الهندسة المؤسساتية للاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه ستفرض على الاتحاد الأوروبي وقف العمل بالاتفاق والبحث عن تعديل له، لكن المغرب المتشبث بالدفاع عن مصالحه، لا يمكن له أن يقبل بمراجعة للاتفاق تستثني تطبيقه على كافة التراب المغربي. من المؤكد أن قرار المحكمة الأوروبية قد أقر واقعا جديدا بالنسبة للاتفاق الفلاحي بين الطرفين. وعلينا انتظار القرار الاستئنافي لتحديد توجهات المحكمة نفسها، ومآل هذا الاتفاق الذي ظل مجالا للمواجهة بين المغرب وخصومه على خلفية الوحدة الترابية المغربية. فضلا عن ذلك، فإن نوعية الحسم في هذا الصراع القضائي ستحدد لا محالة مستقبل التعاون المغربي الأوروبي.