من العراق مآثر لا تنضب، ومن سوريا شواهد إنسانية استوطنت منذ أزمنة غابرة، وحين حل بها المسلمون أبدعوا في حواضرها عمارة وفنا، ومن أقصى الشرق العثماني والفارسي والغرب الأندلسي على حد سواء تحف فنية مبهرة، ومن كل ركن من العالم الإسلامي حركة فنية وعلمية لا تهدأ، إلا مع بلوغ عجلة التاريخ لحظة انحطاط الدول التي حكمت الرقعة الإسلامية وساست شعوبها. هذه الأزمنة المديدة، وغيرها من اللحظات المشرقة في التاريخ الإسلامي، يروي متحف الشارقة للحضارة الإسلامية سردياتها، وقصص نجاح المسلمين على مدى قرون في امتلاك ناصية الإبداع الفني والنجاح في البحث العلمي، تألقت خلالها مدن عربية وإسلامية، قبل أن ترتد اليوم إلى عهود الانحطاط، بفعل التطرف الديني وقهر نظم الاستبداد. المتحف الذي كان في الأصل سوقا تقليديا تم تحويله إلى تحفة معمارية تعكس ثراء فن العمارة الإسلامي، بزخارفه التي تمزج أنماطا مختلفة، منها وليدة أقصى الشرق، وأخرى مستوحاة من أنماط البناء في حواضر الغرب الإسلامي. المتحف الذي افتتح سنة 1996، وأعيد افتتاحه مرة أخرى سنة 2008، ليحمل اسم متحف الشارقة للحضارة الإسلامية بعد إعادة تأهليه مبناه، اجتهد القائمون عليه في اقتناء واستجلاب عدد من القطع الأثرية الفنية الفريدة، التي تؤرخ للإبداعات الفنية والجمالية داخل الرقعة الإسلامية على امتداد حقب وأزمنة عدة، الخيط الناظم بينها ملكة فذة امتلكها مبدعون ترعرعوا داخل الثقافة الإسلامية، وتمكنوا أن يزاوجوا بين انتمائهم الديني، الذي يعد أحد المحددات الأساسية لهويتهم، وبين الفن باعتباره نزوعا فطريا للخلق والإبداع. ثنائية "الإسلام والفن" التي تنضاف إلى ثنائيات سجالية أخرى ك"العلم والإيمان" وغيرها، وكانت محل خلاف واسع ونقاشات مستفيضة في العالم الإسلامي، بين جواز وتحريم، يحاول متحف الشارقة أن يبرهن، بالشاهد المادي الحي، على أن المجتمع الذي سكن الرقعة الإسلامية جسدها واقعا معاشا، من خلال عرضِ قطع أثرية تسلط الضوء على أهم إنجازات العلماء والمخترعين المسلمين خلال عهود إسلامية مشرقة، كان العرب والمسلمون خلالها يمتلكون زمام المبادرة التاريخية، وثقةً لا تشيخ بقدرتهم على الريادة. ينقسم المتحف إلى أروقة مختلفة، يحتوي كل منها على قطع أثرية يعود بعضها إلى القرن الأول هجري، فرواق العقيدة يعنى بكل ما يرتبط بأركان الإسلام الخمس، والمبادئ المؤسسة للمعتقد الإسلامي، ولعل أبرزها جزء من ستار الكعبة المشرفة مزين بآيات قرآنية مزخرفة بخطوط ذهبية، إلى جانب صنوف مختلفة من المصاحف القرآنية. غير بعيد عن رواق العقيدة، تنتصب عدد من الاختراعات العلمية التي أبدعها علماء مسلمون، من بينها آلة الإسطرلاب التي طوروها لأغراض دينية، كتحديد اتجاهات قبلة الصلاة، وأخرى مرتبطة بعالم الفلك والملاحة وأماكن الأجرام السماوية، إلى جانب عرض أدوات استخدمها الأطباء المسلمون في العلاج وإجراء بعض العمليات الجراحية. ويرصد المتحف ثراء الحضارة الإسلامية، إذ مع توسع المناطق الخاضعة لسيطرة الدول التي تعاقبت عليها انفتحت شعوبها على روافد حضارية أخرى، كالفارسية والتركية وحضارات أقصى شرق آسيا، فانعكس ذلك بشكل جلي على تنوع الفنون الإسلامية وبداعة رونقها. كما يضم المتحف جناحا خاصا بالفنون الإسلامية، يوثق لعهود ما بعد القرن السابع هجري، إذ شهدت الرقعة الإسلامية تنافسا طاحنا بين قوى إقليمية كبرى حول السيادة على المنطقة، لا تختلف عن تلك الجارية في أيامنا هذه، بين الفرس والعثمانيين، في ظل تهديد مستمر للماغول، إلا أن ذلك انعكس إيجابا على ثراء وتنوع القطع الفنية، في ظل تبادل ثقافي حيوي بين مختلف هذه المكونات الحضارية. ويعرض المتحف أيضا عددا من الأدوات الحربية التي استخدمها المقاتلون المسلمين في حروبهم وغزواتهم، وسلسلة مميزة من القطع النقدية صكت أقدمها في العهد الأموي. والمتجول بين أروقة المتحف وجنباته يلمح أسماء حواضر عربية عدة، مقرونة بتحف فنية أو إنجازات علمية، مهدت لما سيشهده الغرب بعدها بقرون من نهضة علمية. هذه الحواضر نفسها كانت في ما مضى موطنا للمدنية ومنشأ للثقافة ومشتلا لو كفت عنه نظم الاستبداد شرورها لأزهرت في رحابه ديمقراطيات سامقة. وهي المدن ذاتها، التي استحالت اليوم إلى عواصم للقتل لا تنتصب في سماواتها غير أعلامٍ سود، وأخرى تمعن في التذكير بالطائفة والإثنية والعرق، أما شواهد الأمم التي بنت وعمرت على أرضها، طالتها يد الخراب تفجيرا، أو نُهبت آثارها وسرقت خلسة ورُحلت إلى واجهات المتاحف الغربية. الحاجة للمصالحة مع التراث الإسلامي وإعادة النظر فيه وإليه، من منطلق نقدي، هي الحاجة ذاتها، المتزايدة في أيامنا هذه للتطبيع مع الفنون والذائقة الفنية، والتبصر في ماضٍ عريق، لم يستثنها كأساس لتطور المجتمع ونهضته، وجزء من هوية الشعوب الإسلامية، وهي الرسالة التي يقول متحف الشارقة إنه حريص على نقلها لكل الجائلين بين أروقته.