حمولة من الفحم أو الموز أو الخشب، أو حتى الماعز والخنازير أحيانا، تنساب مسرعة في طرقات مؤدية إلى العاصمة البوروندية بوجمبورا، حتى أن من يراها عن بعد يخيّل إليه أنها تسبح في الهواء، غير أن من يتثبّت سيلحظ رأسا صغيرة لشبح بشري تغطيه أكوام البضائع المتفرّعة إلى السماء، ويداه تتشبّثان بإحدى الشاحنات الثقيلة المارة. "قاطرات بشرية" تنحدر عن "أسلوب مبتكر" لأشخاص يكابدون من أجل إيصال حمولاتهم في الموعد جراء الإزدحام، غير أنه يطرح، في المقابل مخاطر جسيمة تضع حياة هؤلاء الأشخاص على المحكّ، بحسب شهادات متفرّقة. "إيريك" هو أحد سكان بوجمبورا الذين وجدوا في التشبّث بالشاحنات الثقيلة، على الطريق/ حلا جذريا لحسم معضلة الزحام والتأخير. رأسه الصغيرة غارقة بين أكياس الفحم التي يحملها يوميا على دراجته الهوائية، والبعض من تلك الأكياس مثّبّت عن طريق حبال غير سميكة، فيما ترك البعض الآخر منها حرّة من دون قيود، تهتزّ على ذراع الرجل اليسرى في كلّ منعطف أو إشارة ضوئية. "يدي اليمنى متشبّثة بالبضاعة، واليسرى بالحياة ولذلك فهي لا تترك الشاحنة أبدا".. هكذا يقول إيريك .. رحلة تحمل في طياتها شبح مخاطر عديدة، ومع ذلك، يصرّ على المجازفة، لأنّ تخلّيه عن هذه الحيلة الصغيرة يكلّفه الكثير، ففي هذه الحالة، سيجد نفسه مضطرا للإكتفاء برحلة واحدة لإيصال حمولة زبون معيّن، بالنظر إلى الزحام الذي يكبّل مفاصل المدينة على مدار اليوم. بديل من الصعب أن يقبل به إيريكّ لأنه، ببساطة، يبتاع "الكيس الواحد من الفحم لقاء 8 دولارات، وفي المقابل، لا تتجاوز إيرادات بيعه في الرحلة الواحدة ال 32 دولار". غير أنه حين يتشبّث بشاحنة ثقيلة، فإنه يقوم بما لا يقل عن 3 رحلات أو حتى 4، على حدّ قوله. ومن جانبه، يقول سيمون، وهو شاب بوروندي في الثلاثينات من عمره، ويعمل حمّالا للموز، "رحلتي وأنا متشبّث بإحدى الشاحنات تستغرق وقتا أقلّ بمعدّل 3 إلى 4 أضعاف من تلك التي أقوم بها بمفردي على الدراجة، كما أنّ رحلة الذهاب غالبا ما تكون شاقة خصوصا حين أكون محمّلا بالبضائع". مشاهدة أولئك الأشخاص وهم يتشبثون بأذرع نحيلة بشاحنات ثقيلة تشق طريقها بيسر وسط الزحام، يثير انتباه المارة في بوجمبورا، حتى أنّ الكثيرين لا يتردّدون في تسميتهم ب "الانتحاريين" أو "المتهوّرين". "إنه لأمر مدهش"، يقول ألكسندر، وهو من بين أولئك الذين لم يتمكنوا من استيعاب كيف لتلك الأجساد البشرية النحيلة أن تجازف بتلك الطريقة من أجل ربح بعض الدقائق الإضافية من الوقت.. "يا لبرودة دمهم"، ويتابع: "حين أرى كيف يتشبّثون بشاحنة مسرعة، يقشعرّ بدني". "عملية انتحارية" بالنسبة للكثيرين في بوروندي، ممن يجزمون بأنها غالبا ما تتم دون علم من طرف سائق الشاحنة .. وعيسى يوسف، سائق تنزاني يقود شاحنة بصهريج، قال إنّه "حين نبطئ لسبب أو لآخر، ينتهز هؤلاء الفرصة ويمسكوا بالشاحنة"، مضيفا أنه لا يمكنه التغاضي عن مثل هذه الممارسات، رغم أن البعض من سائقي الشاحنات يبدون تعاونا من هذا النوع مع "الانتحاريين". وبسؤاله عن سبب وضع أشواك حديدية في الواجهة الخلفية لشاحنته، اكتفى عيسى بالقول "لا أريد أن يشار إلي على أني مجرم". وبحسب الشرطة البوروندية، فإن مثل هذه الممارسات تعرّض صاحبها لعقوبة قانونية تتمثل في دفع غرامة مالية قدرها 3 دولارات. غير أنّ حتى شبح العقوبات المالية لم يفلح في القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة في بلد يعدّ من أفقر دول المعمورة وفقا لأحدث ترتيب لصندوق النقد الدولي. غابرييل، أب ل 6 أطفال، قال معقّبا على الموضوع إن "ما يهمّ في النهاية هو الحصول على لقمة العيش لإعالة أسرنا رغم المخاطر". لقمة العيش رغم المخاطر، ذاك هو شعار أولئك "الانتحاريين" خلال رحلاتهم اليومية.. "تذاكر" ذهاب قد يقتتطعونها دون إياب.. أحد كوادر شرطة المرور في بوجمبورا قال إنّ "المنعطفات تطبق على الطرقات، ولذلك ينبغي الحذر وعدم التغاضي عن مثل تلك الممارسات التي تتسبب في العديد من الحوادث القاتلة، لافتا إلى أن شخصين على الأقل يلقيان حتفهما شهريا جراء ذلك. * وكالة أنباء الأناضول