تحرير الشعر من الغناء، واللغة من الجسد: بجانب نصوصه القصصية والتحليلية، نشر أمسبريذ ودائما بشهرية "تاويزا" أزيد من خمس وعشرين قصيدة شعرية. وأهم ما يميّز شعره هو الصدق والأصالة، مرة أخرى. ولأن شعره صادق وأصيل، بالمعنى الذي شرحت، فهو لا يتناول في قصائده "التيمات" الثلاث التقليدية المعروفة في الشعر الأمازيغي: الحب والهوية والهجرة/الغربة. وإنه لأمر لافت أن أمسبريذ، الذي خبر مرارة الاغتراب والهجرة، وتنقل عبر عدة بلدان أوربية قبل أن يستقر ببلجيكا، لم ينظّم ولو قصيدة واحدة حول الموضوع، الذي هو "تيمة" مهيمنة في الشعر الأمازيغي بالريف. بل حتى في كتاباته القصصية لم يتعرض لموضوع الهجرة والاغتراب، إلا بشكل هامشي وثانوي. ففي قصة "أخّام ن تيرا" ("بيت الكتابة"، منشورة بالعدد 129 من "تاويزا" لشهر يناير 2008)، التي يحكي فيها عن اشتغال بطل القصة "بادي" (اسم يتكرر كثيرا في قصصه كما سبق أن أشرت) بمعمل "باكو" لصناعة العجلات ببرشلونة في إسبانيا، حيث كٌلف بكتابة (نقش) أسماء السيارات على العجلات، انتقل الكاتب من الحديث عن معاناة العمّال إلى الحديث عن الرغبة في الكتابة، التي أحياها في "بادي" وذكّره بها العمل الذي يقوم به، والمتمثل في جمع حروف اصطناعية وتنظيمها في شكل كلمات. فالغرض من القصة ليس هو الهجرة وتبعاتها، بل هوس الكتابة لدى "بادي" (الذي ليس إلا أمسبريذ نفسه)، التي كانت هي شغله الشاغل حتى وهو يعمل أجيرا بمعمل "باكو". شعر أمسبريذ لا يتناول إذن هذه الموضوعات المرتبطة بالخصوصية والمحلية، بل يتناول ما يتصل بالوجود والحياة والموت، والذات (ذات الشاعر في المقام الأول) في علاقتها بهذا الوجود وهذه الحياة وهذا الموت. لهذا يتميز شعره بعمق فلسفي وميتافيزيقي، ويبرز إحساسا قويا بالوجود والحياة، والموت أيضا، والمعاناة التي يسببها هذا الإحساس. إن أمسبريذ شاعر بالمعنى اللغوي الحقيقي لكلمة "شاعر" في العربية: إنه يشعر ويحس. لنتأمل مقاطع من بعض قصائده حتى نكوّن نظرة عن مضامين وخصائص شعره. يقول في قصيدة "أنّاي خف تاما ن تودرات" ("دُوَار على حافة الحياة"، منشورة بالعدد 80 من "تاويزا" لشهر دجنبر 2003): أخاف العبور، فأختفي نهائيا، بعيدا حيث لا تصل الأنظار، عند الضوء الأقوى، الضوء الأخضر، الضوء الذي يُعمي. [...] اخاف لكني أُطلّ، لا يمكنني أن لا أطلّ، فبالإطلال إلى درب العدم، وبالدُّوار على حافة الجرف، وبالنظر إلى قاع ضوء الصمت، أنا موجود. ويقول في قصيدة "أوالن يدّرن" ("الكلمات الحية"، منشورة بالعدد 78 من "تاويزا" لشهر أكتوبر 2003): لقد غربت عني الشمس، بقيت خارج الدار، ليس لدي أمس، ليس لدي غد، رفضتني الأرض، وتخلّت عني السماء. ويقول في قصيدة "إيمطّاون ن ومسبريذ" ("دموع أمسبريذ"، منشورة بالعدد 138 من "تاويزا" لشهر أكتوبر 2008): أسكني، أنا الذي لا مسكن لي. أطعمني، أنا الجائع. اسقني، أنا الظمآن. أبرئ سقمي، ولا تتركني أموت. تيتّم التراب عند التراب. ضاع الطريق، أنظر ولا أرى. قفتي فارغة، وأنا لم أصل. ويقول في قصيدة "إيزلان ن ومسبريذ" ("أشعار أمسبريذ"، منشورة بالعدد 43 من "تاويزا" لشهر ىوفمبر 2000): إذا أردت أن تجدني، فابحث عني حيث لا أوجد. *** الطريق طويل وأنا قصير (الحياة). *** المشي ليس وصولا، ومد اليد ليس إمساكا. *** أين أوجد؟ حيث لا أوجد. ويقول في قصيدة "إيزلي ن توذارت" ("قصيدة الحياة"، منشورة بالعدد 76 من "تاويزا" لشهر غشت 76): لا أشتري ولا أبيع، لا أدّخر ولا أجمع، لا أنجب ولا أخلّف، لم أقرر الإقامة، لم يسبق أن اعتدت عليها، أنا ضيف الأيام، ضيف البلدان، رفيق الحياة. ويقول في "س م س ن ومسبريذ" (س م س أمسبريذ"، منشورة بالعدد 99 من "تاويزا" لشهر يوليوز 2005): أعياني الطريق، أمشي ولا أصل. *** ماذا سيفعل التراب لينفصل عن التراب؟ *** ظمئ القب، والماء غزير يجرف، والعطش يقتل. ويقول في قصيدة "تابرات ن ومسبريذ" ("رسالة أمسبريذ"، منشورة بالعدد 118 من "تاويزا" لشهر فبراير 2007): من ينبوع المرارة أنهل العذوبة! أسقي الكلمات الذابلة، المغسولة. يعود مذاقها كعسل الجبل. كلوا أيها الضيوف: لا تسألوا عن المذاق، لا تبحثوا عن الينبوع. ويقول في قصيدة "تارولا غار تودارت" ("الهروب إلى الحياة"، منشورة بالعدد 79 من "تاويزا" لشهر نوفمبر 2003): يحمل روحه حملا، فوق الأحزان، فوق الجراح. يحملها إلى السماء. [...] يحملها إلى حيث لا تباع، ولا تشترى. ويقول في قصيدة "تارزوكي" ("مرارة"، منشورة بالعدد 147 من "تاويزا" لشهر يوليوز 2009): في صقيع الحياة، يؤلمني الصرّ. تلك النار التي أوقدها، لا أستدفئ بها. [...] نسيتني فاكهة الإجاص، أوثقتني الكروم. حيث ما وليت وجهي، أجد هناك المقابر. ويقول في قصيدة "تايفّارت ن إيبريذن" (التباس المسالك"، منشورة بالعدد 120 من "تاويزا" لشهر أبريل 2007): أحمل الأيام وأمشي، تقرحت كتفاي وأنا لم أصل، تتوالد السبل تحت قدماي: لا أعرف هل الخطى هي التي تخلقها، أم هي التي تخلق الخطى. تكسرت البوصلة، لا أعرف اليمين من الشمال. أنهكني الطريق، أريد أن أستريح، وأنصب خيمة. ويقول في قصيدة "تيسيت إينو تدرا" ("مرآتي صدئة"، منشورة بالعدد 81 من "تاويزا" لشهر يناير 2004): مرآتي صدئة، ملطّخة ببقع الأدران. عندما أنظر فيها، أرى ملامح أخرى. ويقول في قصيدة "ون يشّين تيري نّس" ("الذي ابتلع ظله"، منشورة بالعدد 102 من "تاويزا" لشهر أكتوبر 2005): الجرح لا يندمل والقلب لا يبرأ. أمشي عند الغد فأجد هناك الأمس. [...] أريد الانعتاق فأزداد أسرا، اعتقلت نفسي بنفسي أم اعتُقلت؟ ابتلعت ظلي فلم تبق لي ملامح. أعيش الأيام كأنني أدفع ديْنا. ألأمُ نفسي فترفض أن تلتئم. كل ما ألمّه ينفرط. ماذا يمكن أن نلاحظ ونستنتج من هذه الأمثلة من شعره؟ أولا: نلاحظ كثافة في المعنى وثراء في المضامين، مع تناغم للنقائض كأنها أنصاف متقابلة لشيء واحد يكمّل بعضها بعضا، بجانب اختلاط الوجودي بالصوفي وبالرمزي، والحياة بالموت وبالقبر. ثانيا: غياب "التيمات" التقليدية للشعر الأمازيغي، كما سبقت الإشارة، يضفي مزيدا من الصدق والأصالة على شعر أمسبريذ. فكل شعره أصيل وصادق لأنه مطابق لصاحبه. فباستبعاده لقضايا الحب والهوية والهجرة، التي تطغى على الشعر الأمازيغي الحديث، يكون أمسبريذ قد رسم لشعره طريقا خاصا، أصيلا وجديدا. ثالثا: استبعاد "التيمات" التقليدية أدى، نتيجة لذلك، إلى استبعاد الشكل التقليدي لنظم الشعر الأمازيغي. هذا الشكل الذي يتميز بالإيقاع الموسيقي للقصيدة، الذي يجد أصله في كون الشعر الأمازيغي القديم كان شعرا غنائيا، أي شعرا للغناء. ويمكن القول إن هذا الجانب الغنائي كان مصدر الجمال والمتعة في هذا الشعر، أكثر من أي شيء آخر، كالمعنى مثلا. أما قصائد أمسبريذ فقد قطعت مع هذا الإيقاع الغنائي، وأصبح مصدر الجمال والمتعة في شعره هو المعنى الكثيف والغني، كما أشرنا، وليس الإيقاع الموسيقي كما في الشكل التقليدي للقصيدة الأمازيغية. رابعا: هذا الانتقال من الإيقاع إلى المعنى هو، في الحقيقة، انتقال من الشفوية إلى الكتابة. وبذلك يكون شعر أمسبريذ شعرا كتابيا بامتياز، وإسهاما حقيقيا في إخراج الأمازيغية من وضع اللغة الشفوية إلى وضع لغة كتابة. ذلك أن النظم التقليدي، الذي يحكمه الإيقاع والنغم، ورغم أنه مكتوب وصدرت به دواوين، لم يرقَ بعدُ إلى مستوى الكتابة الحقيقية، بل هو مجرد كلام (منطوق شفوي) مدوّن بالحروف، لأن ارتباطه بالإيقاع والنغم والغناء، يجعله منتوجا شفويا، نظرا أن الإيقاع والنغم والغناء ظواهر صوتية ينتجها المنطوق، أي الممارسة الشفوية. لهذا فإن الشكل التقليدي للقصيدة الأمازيغية، التي تعتمد على اللحن والإيقاع، لصيق بالكلام والمنطوق، أي بما يمارس شفويا، حتى لو دُوّنت اليوم في دواوين مطبوعة ومكتوبة. أما شعر أمسبريذ فقد أقام مسافة وفصلا بين الشعر الشفوي، ذي الإيقاع الغنائي، والشعر المكتوب، الذي يتحدد بالمعنى وليس باللحن والإيقاع. ومن هنا فإن شعره يبقى شعرا كتابيا حتى لو كان يتلى ويقرأ فقط، أي يمارس شفويا، مثلما أن الشعر التقليدي يبقى شفويا حتى عندما يُكتب ويُدوّن. شعر أمسبريذ، مثل نصوصه النثرية أيضا، هو ممارسة للكتابة الأمازيغية في أسمى صورها، شكلا ومضمونا، ودون المرور بمرحلة إعدادية وانتقالية، كما في الكتابات الأمازيغية الأخرى. خامسا: فصل الشعر، كما فعل أمسبريذ، عن الإيقاع واللحن والغناء والوزن، والذي (الفصل) يعني الانتقال بهذا الشعر من المستوى الشفوي إلى المستوى الكتابي الحقيقي، هو، في نهاية المطاف، فصل للغة الأمازيغية عن الجسد، وهو فصل يشكل الشرط الواقف لقيام كاتبة أمازيغية حقيقية. ما علاقة اللغة الأمازيغية بالجسد؟ العلاقة هي أن هذه اللغة لم تعرف الكتابة طيلة تاريخها إذ ظلت تمارس كلغة شفوية، أي تابعة للجسد من خلال أداة الكلام (الشفوي والمنطوق) الذي هو اللسان، والذي هو عضو في الجسد. ولأن الكلام يمارس باللسان الذي هو جزء من الجسد، فهذا الكلام هو إذن امتداد لهذا الجسد. وبالتالي تكون اللغة الأمازيغية، كلغة منطوقة وشفوية، لغة "عضوية" لأنها امتداد للجسد، ولصيقة به عبر عضو الكلام الذي هو اللسان. وهذه العلاقة بين الأمازيغية والجسد هي فكرة للكاتب/الشاعر أمسبريذ نفسه. فهو يعرضها ويشرحها في مقاله بعنوان "تارزّوت خف تيرا" (البحث عن الكتابة) كما يلي: «اللغة الأمازيغية لم يسبق لها أن انفصلت عن الجسد (جسد المرأة والرجل الأمازيغييْن). بل بقيت تابعة له ومرتبطة به، ترضع وتتغذى منه، ولم تُفطم ولم تفصل عنه حتى تترعرع مستقلة عنه، وتربّي نفسها بنفسها، وتكبر في فضاء الكتابة حيث تنمو وتغتني وتتحرر، وتخلق لنفسها جذورا راسخة، بعيدا عن أمها الجسد». فالجسد يمارس، عبر عضو اللسان، الكلام (وكل الممارسات الشفوية) الذي هو امتداد، إذن، لهذا الجسد. وكل كتابة تدور في فلك الكلام، أي تدوّن المسموع والمنطوق كما هو في صيغته الكلامية، فهي كتابة "جسدية"، لأنها نسخة من "الشفوي"، الذي لا تختلف عنه إلا في كونها مسجلة بالحروف. أما الكتابة الحقيقية، وهي التي يقصدها أمسبريذ ويمارسها في نصوصه النثرية والشعرية، فهي الكتابة التي تقيم، وداخل نفس اللغة، مسافة بينها وبين الكلام الشفوي، أي تلك التي تحرّر اللغة، عبر الكتابة، من الجسد وما يرتبط به من كلام منطوق وشفوي. وهو ما عبّر عنه في مقال له بالفرنسية بعنوان «En tamazight dans le texte: de l'"oraliture" à la littérature» ("من الأدب الشفوي إلى الأدب الأمازيغي المكتوب"، منشور بالعدد 76 من "تاويزا" لشهر غشت 2003) عندما كتب: «لقد حان الوقت للانتقال من الجسد إلى المتن (Passer du corps au corpus)، من الرنّة إلى الرسم، ومن الصوت إلى الحرف». فقصائد أمسبريذ، كما تحرّر الشعر من الوزن والغناء، فهي تحرّر اللغة الأمازيغية، بصفة عامة، من الجسد. بهذا التحرير للغة الأمازيغية من أمها الجسد، يكون أمسبريذ قد تقدم مسافات طويلة على درب الاستعمال الكتابي الحقيقي للغة الأمازيغية. نضال من مستوى آخر: لقد أوضحنا في ما سبق أن كتابات أمسبريذ وفي الحقيقة كل الكتابات الأمازيغية لا يتابعها ولا يقرأها إلا قلة قليلة قد لا يصل عددهم حتى عدد أصابع اليدين، لعدم تدريس الأمازيغية كما شرحنا. وقد كان واعيا بهذا الواقع حتى أنه، كما أشرنا، شبّه الكتابة بالأمازيغية بكتابة الصمت. نكرر السؤال: لمن يكتب، إذن، أمسبريذ إذا كان يعرف أن كتاباته لا تقرأ؟ فالأكيد أنه لا يكتب للأمازيغيين لأنه يعرف أنهم لن يقرأوا إنتاجاته. لمن يكتب، إذن؟ ولماذا يكتب؟ والقول إنه يكتب لنفسه، خصوصا أنه شرح لنا أن الكتابة بالنسبة إليه تكاد تكون حاجة عضوية (غياب الكتابة يساوي تخثر الدم في الشرايين)، لا يقدّم الجواب الشافي والكافي عن السؤال، لأن كل إبداع هو، من ناحية، تلبية لرغبة وحاجة ذاتيتين. في اعتقادي، وبناء على طبيعة كتاباته النثرية والشعرية، أمسبريذ لا يكتب للأمازيغيين إذن، كما أوضحنا، وإنما يكتب للأمازيغية. وليس في الأمر أي تناقض إذا عرفنا أن الأمازيغيين، كقراء، غير موجودين بعدُ، في حين أن الأمازيغية حاضرة كلغة حية ومتداولة. فالكتابة بالأمازيغية تساوي لديه الكتابة للأمازيغية ومن أجلها. ولن نفهم هذا المعطى إلا إذا عرفنا أن كتاباته جديدة، متميزة وفريدة، نقلت الأمازيغية مباشرة، ودفعة واحدة، من لغة شفوية إلى لغة إنتاج كتابي حقيقي، مع أن تهيئة الأمازيغية للكتابة، وحتى عندما تتوفر الإرادة السياسية لذلك، قد تدوم عشرات السنين تستغرقها المرحلة "الانتقالية"، كما نلاحظ ذلك في مجموع الكتابات الأمازيغية الأخرى، التي تمثّل هذه المرحلة "الانتقالية"، التي تتلمّس فيها الأمازيغية طريقها نحو الكتابة. أما أمسبريذ فقد طوى هذه المرحلة وقفز مباشرة إلى الكتابة الحقيقية، بادئا، كما قلت في مستهلّ هذا العرض، من النهاية التي ننتظر أن تصل إليها الأمازيغية عندما تصبح لغة كتابة حقيقية. وهنا يكون أمسبريذ سابقا لعصره وزمانه، سابقا لعصر وزمان الكلام والشفوية والجسد، لينخرط فعلا ومباشرة في عصر وزمان الكتابة، اللذيْن لا زالا أفقا بعبدا. كتابات أمسبريذ، بهذا الشكل المكتمل والرائع والجميل الجذّاب، الذي حقّق فيه وبه ما يُفترض أن لا يتحقق إلا بعد مراحل "انتقالية" قد تستغرق عقودا من الزمن، تكشف عن شيء هام جدا قد لا ننتبه إليه: إذا كان أمسبريذ قد نجح في إنتاج كتابات من هذا المستوى الممتاز الباهر، انطلاقا فقط من لغته الفطرية، ودون أن يدرس الأمازيغية في المدرسة ولا في الجامعة، فماذا سيكون عليه مستوى الكتابة بالأمازيغية بعد أن يكون الكُتّاب بهذه اللغة قد تعلّموها، ولعدة سنين، في المدرسة ودرسوها في الجامعة، وأنجزوا بها بحوثا، وكتبوا بها أطروحات، ونشروا بها دراسات في المجلات والدوريات...؟ نريد بهذا السؤال أن نبيّن أن الأمازيغية، إذا وجدت الإرادة السياسية لتنميتها وحمايتها والعناية بها، فإنها قد تصبح، وبسهولة، لغة أدب وثقافة وفكر وعلم...، بل قد تتفوق في ذلك على لغات أخرى سبقتها إلى الإنتاج الثقافي المكتوب. هذه الكتابة للأمازيغية ومن أجلها، والتي جعلت أمسبريذ يسبق عصره الأمازيغي ومعاصريه الأمازيغيين، تمثّل مستوى أعلى من النضال من أجل الأمازيغية. ذلك أن كتابة سطر واحد بالأمازيغية، أفضل لها من الدفاع عنها بعشرات البيانات المكتوبة بغير الأمازيغية. وهذا مستوى متقدّم من النضال، ليس فقط لأنه يحقق عمليا أحد مطالب الحركة الأمازيغية، الذي هو الانتقال بالأمازيغية من الاستعمال الشفوي إلى الاستعمال الكتابي، وإنما لأن أمسبريذ يمارس هذه الكتابة رغم أن الأمازيغية محرومة من المدرسة، ومحرومة، نتيجة لذلك، ممن يقرأ ما يُكتب بالأمازيغية. وفي غياب القراءة لنصوص أمسبريذ بسبب غياب تدريس الأمازيغية، كما سبق أن قلت، فلا يبدو أن هناك وعيا، وحتى عند المهتمين بالأمازيغية، بأهمية الخدمة التي لا مثيل لها، والتي يقدّمها بكتاباته للغة الأمازيغية وللقضية الأمازيغية بصفة عامة. وهي شيء لن يُدرك إلا عندما تُكتشف كنوز هذه الكتابات في المستقبل، بعد تعميم تدريس الأمازيغية. آنذاك سيعترف بنصوصه، المجهولة اليوم، كنصوص مرجعية ومؤسّسة للكتابة الأمازيغية وللأدب الأمازيغي.